الجمعي قاسمي
منذ إعلان رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ الاستقالة من منصبه وإبعاده وزراء من حركة النهضة، زادت سخونة المواجهة السياسية في تونس، بعد أن تجلى إلى العلن حجم الصراع على المناصب بين الأحزاب، وفي ظل مساعي النهضة التشويش على مفاوضات “حكومة الرئيس 2، واستماتتها في الحفاظ على حكومة على المقاس دون إيلائها اهتماما لتداعيات الصراع على الوضع الاجتماعي والاقتصادي الصعب في البلد.
تونس – ترسم التطورات المتسارعة للمشهد السياسي في تونس بمساريه الحكومي والبرلماني، منحى متصاعدا نحو اتجاهات متعددة، وسط قواعد اشتباك سياسي متحركة مع مزيج من الانتظار المحمول على حسابات لا تزال الكثير من الأطراف تحاول أن تخط عناوينها بما يصعب معها توقع نهاياتها أو الجزم بمخرجاتها.
لكن ذلك لا يمنع من القول إن تلك التطورات تدفع أيضا وبقوة نحو إعادة تشكيل قواعد الاشتباك السياسي بما يؤسس لمرحلة جديدة بدأت تتبلور لتغيير مفهوم المواجهة السياسية، لجهة تحجيم سطوة حركة النهضة الإسلامية، وتقليص دور رئيسها راشد الغنوشي، عبر تضييق هامش مساحة المناورة لديه.
وعلى هذه القاعدة يمكن فهم مغزى ما يجري على أنه تحول جدي في المواجهة، باعتبار أن تلك التطورات تتعلق باستقالة رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، وإبعاد جميع وزراء حركة النهضة من حكومة تصريف الأعمال، إلى جانب تقدم ثلاث كتل نيابية رسميا بعريضة لسحب الثقة من راشد الغنوشي كرئيس للبرلمان. ويذهب المراقبون للشأن التونسي إلى القول إن تلك التطورات بعناوينها الراهنة، وبتفاصيلها الملحقة، لا تجعل المشهد العام في البلاد أمام متغير مفصلي ستكون له تداعيات متنوعة فقط، وإنما أيضا من شأنها إعادة تنظيم عناصر المواجهة على أسس ومعايير جديدة. ويُرجح أن تفرض تلك المعايير معادلات مغايرة لما هو سائد حاليا، بحيث تتسع معها مساحة المقاربات التي سيكون ناتجها المباشر، أو القريب أو حتى البعيد نسبيا هو لجم تغول وغطرسة حركة النهضة الإسلامية، التي اقتربت كثيرا من الدخول في دائرة غير مسبوقة من العزلة السياسية لم تعرف مثلها منذ العام 2011.
وتفتح هذه العزلة السياسية التي راكمتها حركة النهضة بسياسة التضليل والمراوغة، والمواقف التي تتعدل وتتغير وفق معادلات المقايضة والابتزاز حينا، والتلويح بورقة التوافق والتشارك حينا آخر، الباب أمام استنتاجات تكثر معها التوقعات التي تقود في مجملها إلى أن حركة النهضة لن تتوقف مع ذلك عن مناوراتها، وستسعى إلى التصعيد بأشكال جديدة.
وبدا ذلك لافتا من خلال تصعيد متدحرج على صلة بالأوراق التي تعتقد حركة النهضة أنها ما زالت تملكها، منها إصرارها على تمرير لائحة سحب الثقة من رئيس الحكومة على البرلمان للنظر فيها، والحال أنه استقال من منصبه، وتم نشر نص الاستقالة في “الرائد الرسمي”، أي الجريدة الرسمية للبلاد التونسية، ما يعني أنها أصبحت نافذة بفعل القانون. وتسعى من خلال هذا الإصرار إلى محاولة التشويش على عودة المبادرة الدستورية لاختيار رئيس الحكومة الجديد إلى الرئيس قيس سعيد، الذي بدأ فعليا في إجراء مشاورات حول الشخصية السياسية الجديدة لخلافة إلياس الفخفاخ، حيث راسل رسميا الأحزاب والكتل البرلمانية، وطلب منها اقتراحاتها بهذا الشأن.
ويرى مراقبون أن هذه المحاولة ليست ذات جدوى بالقياس إلى طبيعة الأزمة وتعقيداتها، والمأزق الذي تردت فيه حركة النهضة التي وجدت نفسها خارج الحكم، ورئيسها مهدد في نفس الوقت بإزاحته من رئاسة البرلمان، وسط اختلاط في الحسابات السياسية جعلها تستنفد آخر أوراق الضغط التي لديها.
وتحاول حركة النهضة أن تقايض بهذه الورقة عملية سحب الثقة من رئيسها راشد الغنوشي كرئيس للبرلمان، مع الإبقاء على خيارات أخرى على طاولة المقايضات لتوسيع دائرة المراهنات الخاطئة التي تخدم مصالحها، وتغطي بها خيبتها المرتسمة في تصريحات قادتها التي بدت في معظمها متضاربة ومتناقضة.
ويتضح ذلك جليا في تأكيد الناطق الرسمي باسم حركة النهضة النائب عماد الخميري على أن حركته “لا تريد الدخول في مسارات فيها تأويل للدستور خلال مرحلة ما بعد حكومة إلياس الفخفاخ، وأنّها ستذهب مع ما تقرره مؤسسة رئاسة الجمهورية في هذا الخصوص”. لكنه استدرك قائلا “حركة النهضة ستجري حوارا مع كافة الكتل البرلمانية على قاعدة نتائج انتخابات 2019 وستسعى إلى تجنب ما حصل في الماضي من ‘فيتو’ تسبب في تشكيل حكومة غير متجانسة”، وذلك في الوقت الذي وصف فيه نورالدين العرباوي، رئيس المكتب السياسي لحركة النهضة، تقديم لائحة سحب الثقة من الغنوشي بأنه “عملية استعراضية لن تمر”.
وفيما اعتبر العرباوي أن الغنوشي باق في منصبه لأن التحدي الموجود أمام مقدمي لائحة سحب الثقة منه “هو الحصول على 109 أصوات للمصادقة على اللائحة المذكورة في الجلسة العامة”، رد عليه النائب هيكل المكي القيادي في حركة الشعب، باتهام الغنوشي بالسعي إلى تقسيم البلاد من خلال إصراره على تمرير لائحة سحب الثقة من رئيس الحكومة.
وقال في تصريحات إذاعية إن الغنوشي “يحاول السطو مجددا على صلاحيات رئيس الجمهورية، وخرق الدستور وتقسيم التونسيين وبث الفتنة، من خلال إصراره بكل الطرق على تمرير لائحة سحب الثقة من رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ على الجلسة العامة رغم تقديمه لاستقالته وشروعه في المشاورات لاختيار البديل”.
واعتبر أن هذا الإصرار يعد “أمرا خطيرا، وسيجعلنا نعيش تجربة حكومتي طرابلس وبنغازي في تونس”، وذلك في اتهام ضمني بأن الغنوشي يريد استنساخ ما تشهده ليبيا حاليا من انقسامات حادة، وسط صراع على الشرعية بين حكومة في طرابلس برئاسة فايز السراج، وأخرى في بنغازي برئاسة عبدالله الثني.
وعلى وقع هذه الخلافات المتصاعدة، ارتفعت الأصوات المحذرة من عواقب عودة حركة النهضة الإسلامية إلى النفخ في رماد الفتنة التي كان الرئيس قيس سعيد قد حذر منها، وذلك في الوقت الذي تؤكد فيه القراءات أن هذه الحركة المحسوبة على الإخوان المسلمين لم تعد تملك أوراق الضغط التي تخولها فرض موقفها.
وتتأكد هذه القراءة تدريجيا من خلال تعمد مسؤولي حركة النهضة إثارة الغبار بتصريحاتهم التي تتسم في الكثير من جوانبها بتصعيد في الوقت الضائع، وذلك بعبارات خادعة تتعارض مع ما تروج له، وتتناقض مع الوقائع التي تندفع نحو مسار مغاير لكل ما تخطط له.
لكن هذا الاندفاع الذي تسعى غالبية القوى السياسية إلى تسريع عناصره، لتهيئة مناخ داخلي قادر على فرض واقع جديد، ما زال يحتاج مع ذلك إلى حسم العديد من المعطيات المتأرجحة في علاقة بحسابات بعض الأحزاب، وخاصة منها حزب قلب تونس الذي ما زال يوفر الغطاء لحركة النهضة رغم إدراكه بأن سطوتها اقتربت من آخر فصولها.
نقلا” عن صحيفة العرب اللندنية