كتب : محمد الثريا
في القرون الوسطى وفي إحدى البلدات الفرنسية، كانت النساء تحصلن على سم مخفف يضعنه في طعام الرجل صباحا وعند عودته يقمن بإعطائه مضاداً للسم فلا يؤثر السم على الرجل.
ولكن في حال عدم عودته للمنزل ومبيته في مكان آخر، فيتأخر في حصوله على الترياق ليصاب بعدها الرجل بصداع وغثيان وضيق تنفس وكآبة وآلام. وكلما زادت فترة غيابه اشتدت تلك الأعراض.
وعند عودته الى المنزل، تعطيه زوجته الترياق دون علمه فيتحسن حاله في غضون دقائق وتنطلي عليه الحيلة فيخال له أن البُعد عن المنزل يسبب له الألم والكآبة والغثيان، فيزداد تعلقاً بزوجته ومنزله.
في البدء دعنا نتفق ان الاطراف المعنية بحل الازمة اليمنية قد ذهبت خلف ادارة الصراع وليس حسمه وهذه تقريبا باتت الاستراتيجية الوحيدة التي تتعامل بها منظمة الامم المتحدة مع ازمات الشرق الاوسط منذ زمن طويل، فيما سيبدو هنا ان مهمة التنفيذ العملي لتلك الاستراتيجية قد اضحت هي الدور النمطي لقوى الاقليم الصاعدة عندما يتعلق الامر بمبرر تدخلها في ازمات الجوار وإشراكها في الحل الى جانب الكبار .
كان واضحا عقب خمسة اعوام كاملة من الحرب والدمار وتضاؤل فرص تحقيق الاهداف المعلنة ان مهمة التحالف العربي باليمن وتحديدا السعودية قد أضحت شبه مستحيلة وان القيادة السعودية الشابة باتت تعيش وضعا لاتحسد عليه فيما يخص مستقبل الصراع اليمني وتداعياته وان الامر برمته قد بدأ يأخذ منحنى عكسيا ليس في صالح دول التفويض الاممي وبخاصة الشقيقة منها.
من هنا ربما جاءت الحاجة واصبحت الضرورة ملحة في اعادة انتاج مسارات الصراع مجددا بما يتواكب مع اهمية تجديد حضور تلك الدول وتوطيد مصالحها الاستراتيجية اكثر بداخل الجغرافيا الهامة تلك وربما كمحاولة ايضا لتأكيد سيطرتها ونفوذها من خلال توجيه اكثر من رسالة ولاكثر من طرف خصوصا في ظل سلسلة اخفاقات متكررة خلفت معها جملة من الاصوات المناهضة والداعية الى اعادة تصويب علاقة الداخل المأزوم بمفوض الازمة الخارجي.
لاجرم ان التشكيلات العسكرية المتضادة التي اكتظت بها العاصمة المؤقتة عدن كانت تعكس مدى تباين الرؤى لدى رعاة الازمة عوضا عن انها كانت تجسد واقعا امنيا وعسكريا مقلقا وقابلا للانفجار ومع ذلك التزمت تلك التشكيلات العسكرية حالة من التعايش والتفاهم فيما بينها وان كان على مضض لكنه دام لسنوات. الامر الذي خلف نوعا من ذهول الشارع امام احداث اغسطس 2018م المفاجئة حينما وجدت تلك التشكيلات العسكرية نفسها وهي تخوض معارك طاحنة فيما بينها وجها لوجه.
بيدا ان الامر الاكثر غرابة بالنسبة للمتابع العادي كان في مشاهدته لطريقة تعاطي قيادة التحالف مع تلك الاحداث في ايامها الاولى وكيف اكتفت بالصمت المطبق مع بعض التصريحات المنمقة رغم شراسة المواجهات الحاصلة بين اطراف الداخل الموالية لها.
عموما يعلم الجميع بقية القصة التي انتهت بالتوقيع على اتفاق الرياض عقب اشهر من اللقاءات بين اطرافه.
حتى اللحظة يعاني اتفاق الرياض معضلة الشلل الرعاش وتعجز قدماه عن السير برغم هالة المواقف والتصريحات الدولية والاقليمية الداعمة له والداعية الى تنفيذه سريعا وفي وقت لازال يتعذر على الكثيرين فهم خفايا تعثر الاتفاق امام كومة البيانات المؤيدة وإصرار اطرافه الموقعة على ضرورة تنفيذه والالتزام ببنوده لتغدو تلك بالفعل مفارقة مركبة تعبر عن ذات المشهد ونقيضه في آن واحد .
فإين تكمن اشكالية مشهد الصراع جنوبا والذي كما يبدو بات مختزلا في منطوق قناعة معلنة تجددها اطراف الاتفاق عقب متوالية الانتكاسات السياسية والعسكرية التي تلت توقيعه والتي خلصت بدورها الى ضرورة التسليم بتنفيذ الاتفاق واعتباره مفتاح الحل الوحيد لحلحلة الاوضاع وعودة الاستقرار للمناطق المحررة؟ في مقابل تصاعد حالة من السخط الشعبي والذي ينذر عادة بارتدادات ليست في مصلحة خصوم الداخل.
هنا سيبدو حقا ان الاطراف الموقعة قد حشرت في الزاوية الاضيق وان لامناص من الانصياع والاذعان كلية لرغبة الرعاة.
لكن هل تمتلك اطراف الاتفاق الموقعة فعلا قائمة خيارات بديلة او حتى قدرة القفز الى مسار سياسي مختلف حتى يتسنى لنا القول حينها بغير الادعاء القائل بأن اتفاق الرياض قد حمل سما وترياقا منذ بدايته؟
الإفراغ السياسي وبالتالي الإرتهان كليا تحت مسمى الاصطفاف والشراكة هذه تقريبا احد أهم الاسباب التي جعلت من خصوم الداخل الحليفة وهي نفسها الاطراف الموقعة على اتفاق الرياض تبدو كاوراق لعب واحجار نرد لاتمتلك بتاتا قدرة الرفض او حتى التعبير عن امتعاضها تجاه ما يحدث من تسويف وتعطيل لبنود الاتفاق الموقع عوضا عن ان تسمع لها صوتا يدعو لمواجهة واقع العبث والفوضى المفتعلة التي لازالت تشكل حائطا صلبا امام تحقيق اي حالة استقرار مرجوة في الجنوب والتي من شانها ان تدعم ارضية تحقيق السلام وانهاء الصراع عامة بالبلد.
لايحتاج الامر الى الكثير من الشرح والتوضيح حول عجز اطراف الداخل في المضي صوب اي تسوية سياسية دونما توافر الرغبة الاقليمية قبلها .
ببساطة لقد كانت دائما ما تجد تلك الاطراف نفسها هناك مقيدة ومكبلة بالكامل كما ان كتلة العراقيل والمعطيات التي لازالت تقف حائلا امام اي تقارب محتمل بينها تبدو معقدة جدا وبحاجة تدخل العنصر الخارجي لازاحتها وهو ما يؤكد فرضية ان الفعل والنتيجة بل والسيناريو المعد بكامل تفاصيله كان موضوعا منذ البداية وفق منهجية السم والترياق التي تضمن مصالح اصحابه قبل الحديث عن طبيعة ادوار لاعبيه المحليين.
وفي حقيقة الامر ان من حاول البحث عن ترياق يجنبه قيود الاتفاق المتعثر واوجاع السياسيات الحليفة كان غالبا ضحية الشيطنة السياسية وتهم العمالة والارتزاق. الامر الذي جسد مثالا حيا في التعبير عن سوء المصير والحال المنبوذة التي تنتظر كل من تسول له نفسه مغادرة منزل الزوجية والتبعية السياسية المطلقة.
مؤخرا بدا ان احد طرفي اتفاق الرياض يحاول التحرر قليلا والتمسك بفتات اكثر من الاخر لتعاود بعدها الرغبة الاقليمية رفع عصا الطاعة مجددا عبر الحديث عن ضرورة اشراك (المكون الحضرمي) كطرف حاضر في الاتفاق وربما رأس ثالثة له وهو ما دفع ناحية الرجوع الى مربع حشد المليونيات كمحاولة اخيرة وجهد مستميت لتخفيف أثر الجرعات المتزايدة والمعدة سلفا لتركيع اي طرف يحاول مغادرة او مجرد التلويح بمواجهة تلك الرغبة الاقليمية الجامحة.
الامر ذاته سبق وحدث مع بعض قيادات الشرعية ولكن بطريقة اخرى عندما حاولت يومها تلك القيادات الافلات من دائرة التنفيذ بلا اعتراض ومغازلة قوى اقليمية اخرى .
ان منهجيات واستراتيجيات ادارة الازمات والصرعات عادة ما تتطلب اتباع القوى الدولية والاقليمية المعنية بحل تلك الصراعات والملفات المازومة عامة لآليات ادارية متشددة تضمن لها ادارة الازمة والصراع اطول فترة ممكنة وبما يحقق معه اهداف ومصالح تلك القوى ولاجل ذلك فان افضل الاستراتيجيات والاليات واكثرها قدرة على تحقيق ذلك المبتغى تبدو في حصر اطراف الازمة ضمن دائرة الاتفاقات المقيدة والتي لاتظهر سوى حقيقة تعامل راعاة تلك الاتفاقات مع اطرافها الموقعة وفق حيلة السم والترياق .
وفي الواقع ليس اتفاق الرياض واطرافه المواقعة مثالا وحيدا يجسد كارثة السقوط في رمال راعي الازمة واستراتيجية مالك القفل والمفتاح معا بل ان مجمل الاتفاقات والتسويات التي شهدتها الازمة اليمنية خلال الاعوام الماضية تكاد لا تبتعد كثيرا عن تلك الاستراتيجية المقيدة عدا عن اختلاف يسير لوحظ في طبيعة الرعاة احيانا.
يبدو جليا من خلال حالة التصعيد والتصعيد المضاد التي يمارسها المتخاصمون اليوم ناهيك عن موجة الغضب الشعبي المتزايد جراء سياسات خارجية مبتذلة وتماهي محلي اكثر ابتذالا ان اطراف الداخل الحليفة والموقعة على اتفاق الرياض هي اكثر من يعاني اعراض الغثيان والكآبة وهذا يعني انها ستزداد تعلقا وتمسكا بالحليف الاقليمي لذا سيبدو باعتقادي هنا ان لاحاجة في التعويل كثيرا على ادوات الداخل للخروج من نفق الازمة هذه.وللاسف حقا يؤلمنا القول باننا سنكتفي من الان بالمشاهدة فقط من بعيد وانتظار نتائج ما سيأخذنا اليه جنون وهوس الآخرين طالما ونحن شعب ونخب لانمتلك قدرة صنع ترياق او اتخاذ قرار.