كريتر نت – كالات
دومينيك لِنتون ـ ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
أكادُ أنتهي هذه الأيام (أواخر أغسطس/ آب 2020 ) من وضع لمساتي الأخيرة على ترجمة أحدث كتب مارتن ريس Martin Rees الذي أصدرته مطبعة جامعة برينستون الأمريكية عام 2018 بعنوان «عن المستقبل: آفاق ممكنة للإنسانية». ينتمي الكتاب لعلم المستقبليات، الذي لم يلقَ في عالمنا العربي الاهتمام والشيوع اللائقين بأهميته الاستراتيجية، وأردت من ترجمتي لهذا الكتاب أن يكون دعوة لإيفاء هذا المبحث المهم ما يستحق من عناية الجمهور العام، ودوائر صنع السياسات الحكومية العربية. لأننا نعنى بلحظتنا الراهنة في مجتمعاتنا العربية لا أرانا نفكّر في مآلات الغد. فقد يرى بعضنا أننا لسنا لاعبين مؤثرين في الجغرافيا السياسية للعالم؛ وعليه فنحن غير ملزمين بالتفكّر في مآلات عالمٍ لا نساهم في صناعته وتشكيله، فهذا الأمر اختصاص حصري لكبار اللاعبين السياسيين وعمالقة العلم والتقنية في العالم. وهذا رأي يجانب الصواب ويخالف أمثولات التأريخ وحقائق الجغرافيا السياسية، وينطلق من قناعات راكدة طابَ لها واقع الحال، وفترت عزائمها عن النهوض بواقعها – مهما بدا عصياً على التغيير- فالأمم، كما الأفراد، بوسعها إحداث انقلابات جذرية في أحوالها متى امتلكت الرؤية والرغبة في التغيير، وليس مثال رواندا عنّا ببعيد.
وأقول بقدر كبير من الثقة إن العالم العربي، ورغم كلّ الصور الأقرب إلى العوالم الديستوبية، يحفل بالكثير من البؤر المضيئة، والمحاولات الجادة، التي تتطلّع لتكون مثاباتٍ عالمية في مستقبل لا أحسبه بعيداً عن يومنا هذا.
تتمحور أهمية المباحث الخاصة بالدراسات المستقبلية حول فكرة أن المعرفة تسبق الفعل، وهذه حقيقة أظنها تصحّ في كلّ المجالات، فإذا شئنا الارتقاء بوتيرة تطورنا العلمي والتقني، لا بدّ من معرفة مآلات التوجهات العلمية والتقنية الحالية التي سيكون لها أثر عظيم في تشكيل صورة العالم في المستقبل القريب.
تلعب الدراسات المستقبلية، دوراً حاسماً في إعادة ترتيب أولويات الإنفاق الاقتصادي على القطاعات التي يُتوقّعُ أن يكون لها الأثر الأعظم في تمكين الاقتصاد، وتعظيم دور الفرد والمجتمع معاً. ولن يغيب عنّا أنّ بعض جوانب التطور العلمي والتقني الحالي والمستقبلي، تنذرُ بمفاعيل مهددة للحياة البشرية – وربما بلغت مبلغ الكارثة- وعليه سيكون من المناسب والملزم، معرفة الوسائل التي تساعدنا على تفادي مثل هذه المخاطر المعوّقة؛ فنحن – العرب – في النهاية جزءٌ من هذا العالم، ولسنا سكّان جزيرة معزولة، ولن تستثني الكوارث المستقبلية أحداً- إن حدثت – فهي كوارث عالمية الطابع globalised.
يمتازُ كتاب ريس «عن المستقبل: آفاقٌ ممكنة للإنسانية»، بجملة من الخصائص التي تعلي من شأنه، وتجعله مناسباً ككتاب جدير بالاهتمام الجمعي واسع النطاق؛ فريس فضلاً عن كونه فيزيائياً فلكياً ومتخصصاً في الكوسمولوجيا (علم الكونيات) فقد عمل رئيساً للجمعية الملكية البريطانية؛ الأمر الذي يعني بالضرورة تحصّله على طيف واسع من الرؤى والخبرات – الفلسفية والمهنية والعلمية والتقنية – التي تؤهّله لتناول موضوع المستقبليات بكلّ ما يستلزمه من خبرات معرفية تقع على الجبهات المتقدمة للمعرفة البشرية الراهنة، إضافة إلى اعتماده في كتابته أسلوبا محببا يمتاز بابتعاده عن الرطانة المغالية في المعلومات والبيانات والجداول والتفاصيل التقنية، على حساب الخلاصات الإنسانية والفلسفية، التي يمكن أن تمثل خريطة عمل واضحة للقراء المعنيين.
أقدّمُ في الفقرات التالية ترجمة لمراجعة في كتاب «عن المستقبل: آفاق ممكنة للإنسانية» كتبها دومينيك لِنتون Dominic Lenton المسؤول التحريري لمجلّة ( E&T : Engineering & Technology ) البريطانية. المراجعة منشورة بتأريخ 8 يناير/ كانون الثاني 2019. أدناه الرابط الإلكتروني لهذه المراجعة:
يشهدُ عالمُنا تغيراً متسارعاً إلى حد يسوّغُ إعادة التفكير الشاملة، التي قدّمها لنا مارتن ريس في كتابه «عن المستقبل: آفاق ممكنة للإنسانية» التي سبق له أن تناولها في كتاب سابق له نُشر عام 2003 وأراد له أن يكون بعنوان «قرننا الأخير؟» لكن ناشره البريطاني، وكما إعترف ريس لاحقاً، أقنعه برفع علامة الاستفهام من عنوان الكتاب؛ في حين أنّ القرّاء الأمريكيين حصلوا على نسخة من الكتاب ذاته بعنوان «ساعتنا الأخيرة!». على الرغم من أنّ ريس يصف نفسه بأنه ذا نزعة تفاؤلية في ما يخصُّ مستقبل التقنية، فقد تنبّأ بأنّنا لو وضعنا في اعتبارنا كلّ المخاطر الوجودية الحالية والمتوقعة في الحسبان، فإنّ البشرية ستكون لها فرصة بنسبة 50% لبلوغ نهاية هذا القرن (الحادي والعشرين)، من غير أن تختبر أحد السيناريوهات الكارثية. يبدو هذا التنبؤ مادة تأمّلية خالصة؛ لكنها في واقع الأمر تستند إلى شواهد أخاذة لا يمكن إهمالها، والحقّ أننا بلغنا في وقتنا هذا، وللمرة الأولى على مدى عمر الأرض كله، مرحلة صار بمقدور نوعٍ بشري واحد بمفرده تحديد مصير الكوكب الأرضي.
تعمل التقنية على الارتقاء بحيوات كثيرين من البشر؛ لكنها في الوقت ذاته تجعلنا عُرضة لطائفة جديدة غير مسبوقة من التهديدات المقترنة بانفجار سكّاني هائل وضغوط ذات مؤثرات مدمّرة للبيئة؛ لكن رغم هذه الحقائق الصارخة فإنّ مقاربتنا لمستقبلنا البشري، وبخاصة عندما يختصُّ الأمر بالمدى الذي تذهب إليه الحكومات في تحديد الأولويات الوطنية، ما تزال مطبوعة بطابع التفكير قصير المدى، والجدالات المتصارعة المحفزة للاستقطابات المنفّرة والمؤذية، وإعلاء شأن التوجهات التشاؤمية المقنّعة بخطابات بلاغية، تحمل نبرة منذرة ساذجة.
مارتن ريس شخصية مرموقة معروفة للجمهور البريطاني والعالمي، لكونه الفلكي الملكي Astronomer Royal لبريطانيا، (وكونه عضواً في كلية ترينيتي Trinity College إحدى كليات جامعة كامبريدج، المترجمة)، كما شغل لسنوات طويلة موقع مدير معهد الفلك في جامعة كامبريدج. أبدى ريس دوماً اهتماماً عميقاً بموضوعات العلم والمعضلات التقنية، ذات الأبعاد العالمية منذ أن كان عضواً في مجلس اللوردات البريطاني، والرئيس الأسبق للجمعية الملكية البريطانية، وقد جاء كتابه الأحدث «عن المستقبل: آفاق ممكنة للإنسانية» المنشور عن جامعة برينستون الأمريكية عام 2018 ليكون بمثابة الصرخة المدوّية التي أرادها ريس لإعلاء شأن نمط من التفكير العقلاني، الذي غدا أمراً غير شائع في أيامنا الراهنة.
لسنا في حاجة لأن نكبح مسيرة تطورنا التقني بطريقة متشددة عنيفة، وكلّ ما يحتاجه المجتمع هو المعرفة الدقيقة بالمديات التي تقودنا إليها التقنيات الحالية، ومن ثمّ إعادة توجيهها متى ما تطلّب الأمر ذلك، وهذا يعني ـ بالضرورة ـ أن نمنح انتباهتنا الأكبر للعلماء والمهندسين، بدلاً من توجيهها نحو السياسيين، وحَمَلة الأسهم.
ليس هناك من شكّ في أنّ عبارة (آفاق ممكنة للإنسانية) التي جاءت عنواناً فرعياً للكتاب، عبارة تشيرُ إلى مستقبل العلم، وإلى مدى نجاحنا في تطويع التقنية لخدمة الحاجات البشرية، من غير مؤثرات خطيرة على الجنس البشري. إذا ما أردنا تجنب المآلات الديستوبية، التي يدقّ الكثير من العلماء والمختصين جرس الإنذار بشأنها، فينبغي لنا أن نفكّر بطريقة معقلنة وعالمية وجمعية وتفاؤلية، وقبل هذا كله ينبغي أن يكون تفكيرنا ذا مديات طويلة، ولا يكتفي بالجوائز اللحظية الراهنة.
يمتلك الجنس البشري القدرة والإرادة في أنه ـ يوماً ما ـ سيستعمرُ عوالم خارج نطاق كوكبنا الأرضي، وحتى يتحقق ذلك الأمر يتوجّبُ علينا أن نطوّر موازنة مناسبة، بين تطوير التقنيات اللازمة لتحقيق ذلك الاستعمار البشري للعوالم الأخرى، ومكافحة الفقر والتعامل مع التغير المناخي والمخاطر النووية والحروب الجرثومية والسبرانية وسواها من المعضلات. ليس من خطة بديلة (أو كما تسمى الخطة ب) يمكن أن توفر بديلاً لنا إذا لم نوفر الاهتمام اللازم بموطننا الأرضي.
رسالةُ ريس في كتابه هذا هي التالية: لسنا في حاجة لأن نكبح مسيرة تطورنا التقني بطريقة متشددة عنيفة، وكلّ ما يحتاجه المجتمع هو المعرفة الدقيقة بالمديات التي تقودنا إليها التقنيات الحالية، ومن ثمّ إعادة توجيهها متى ما تطلّب الأمر ذلك، وهذا يعني ـ بالضرورة ـ أن نمنح انتباهتنا الأكبر للعلماء والمهندسين، بدلاً من توجيهها نحو السياسيين، وحَمَلة الأسهم. المعضلة الكبرى في وقتنا الراهن تكمنُ في أنّ تناول موضوعات على شاكلة التغير المناخي، ووضع ضوابط على التقنيات السائدة، لا يحوز إلا على أقل أشكال المساهمة العالمية والتعاون الدولي، وفي وقتنا هذا يبدو أنّ هذه الإشكالية هي السؤال الكبير المفتوح والباقي من غير إجابات مناسبة.
في الوقت الذي تميلُ فيه المناقشات الحجاجية في هذا الكتاب – الصغير والثري في محتواه – نحو تفضيل شأن التحليل الموضوعي لما نحنُ عليه في وقتنا الراهن، وإلى أين ستقودنا التطورات العلمية والتقنية المستقبلية، فإنّ عبارات ريس الختامية في الكتاب تبدو مؤثرة ومحرّكة للعواطف الإنسانية؛ فهو يتساءل بطريقة باعثة على التفكّر والإلهام، للنهوض بواجباتنا الأخلاقية المنتظرة منّا: «هل نرغبُ بالانزلاق في متاهة التأريخ، ولا يُذكَرُ عنّا سوى كوننا جيلاً أنانياً أدرك المعضلات الكبرى التي خلقها؛ لكنه مع ذلك الإدراك ارتأى أن يُبقي تلك المعضلات إرثاً يتركه للأجيال المستقبلية لكي تتعامل معه؟». ينتهي ريس في كتابه إلى الخلاصة الثمينة التالية، وهي جوهر رسالته الموجّهة لجيلنا الحالي:
«ثمة القليل جداً من التخطيط ومعاينة الآفاق المستقبلية وإدراك طبيعة المعضلات طويلة الأمد، وسيكون ـ بكل تأكيد – فعلاً مجلّلاً بالعار إذا ما أورثنا أجيالنا المستقبلية عالماً مستنفد الموارد ومختنقاً بالكوارث القاتلة».
* كاتبة وروائية ومترجمة عراقية تقيم في الأردن