كتب : حسن المصطفى كاتب سعودي
أصدر “مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي”، بياناً في 14 آب (أغسطس)، أيد فيه إعلان الحكومة الإماراتية، تدشين علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل، واصفاً ذلك بـ”المسعى الإيجابي والخطوة السديدة الموفقة”، التي من شأنها “وقف تمدد السيادة الإسرائيلية على مناطق من الأراضي الفلسطينية”.
الشيخ عبدالله بن بيه، الذي يترأس المجلس، اعتبر أن المبادرة من “الصلاحيات الحصرية و السيادية لولي الأمر شرعاً ونظاماً”.
موقف بن بيه، كان الوحيد الصريح المُعلن من المرجعيات الدينية المعتبرة في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، الذي أيد إعلان ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الشيخ محمد بن زايد، عن اتفاقه مع الرئيسن الأميركي دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تدشين علاقات بين أبو ظبي وتل أبيب.
ملامحُ المنهج
هذا الموقف لمن يتتبعُ منهج الشيخ عبدالله بن بيه منذ الربيع العربي 2011، وحتى الساعة، لا يجدهُ مفاجئاً، بل جاء متسقاً مع نظرة خاصة، تقوم على التالي:
1- رفض العنف، واستخدام السلاح، في عمليات التغيير والإطاحة بالأنظمة.
2- رفض الخطابات الدينية الطائفية والمذهبية، التي يعتقد أنها تفتح أبواباً لـ”التكفير”، وبالتالي تقاتُل البشر بين بعضهم البعض.
3- الإيمان بأهمية الحفاظ على كيان الدول، وأمنها، واستقرارها، من دون العمل على ما يقوض “الكيان” ويجعله عرضة للانهيار، لأن البديل سيكون الفوضى والخراب، وأن يسود “الهرج والمرج” وتراق الدماء.
4- الدعوة إلى تعزيز السلم في المجتمعات كافة، والتعاون بين أتباع الأديان والمذاهب المختلفة، واتخاذ الحوار سبيلاً وحيداً لحل المشكلات القائمة.
5- الإصلاح والتغيير المدني، التدريجي، الهادئ، من داخل الأنظمة والمجتمعات، بعيداً من الانقلابات أو الثورات المجهولة المصير، وذلك من أجل تعزيز مفاهيم “سيادة القانون”، و”المواطنة الشاملة”، و”احترام حقوق الإنسان”، وتوطيد العلاقات بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني.
هذه المبادئ العامة التي ميزت منهج بن بيه، ستقودُ بشكلٍ طبيعي لأن يؤيد القرار الذي اتخذته أبو ظبي، بخصوص علاقاتها مع إسرائيل، لأنه يرى أنه قرار من صلاحيات القيادة السياسية، التي تتخذه بناء على مبدأ “جلب المصالح ودرء المفاسد”، وما تقتضيه المتغيرات الإقليمية والدولية، والمصلحة الوطنية العليا، واضعاً بذلك حداً فاصلاً، كي لا يقعَ ما يعتبرهُ “سطواً على صلاحيات الحاكم”، وهو برأيه ما يقودُ في حال حدوثه إلى “التنازع”، والذي تكون نتيجته الاضطرابات والقلاقل.
الفقيهُ والسلطان
الرجل الذي تقلدَ مناصب قيادية ووزارية عدة على مدى سنوات في الدولة الموريتانية، قبل أن يتفرغ للتدريس في جامعة الملك عبدالعزيز بمدينة جدة غرب السعودية؛ نسج علاقات مبكرة بالقيادات السياسية في الخليج.
عبدالله بن بيه، ومنذ سبعينات القرن المنصرم، التقى الراحل الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، والراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وربطته علاقة احترام متبادل مع الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وبيوت الحكم في الرياض وأبو ظبي ودبي وسواها؛ أي أنه ليس طارئاً على العمل السياسي في الخليج، أو أنه قدمِ فجأة إلى الإمارات وصار رئيساً لمجلس الإفتاء الشرعي، بل إن علاقته المتينة مع الشيخ محمد بن زايد والشيخ عبد الله بن زايد، على وجه التحديد، هي امتداد وتطور طبيعي لعلاقة سابقة مع والدهما الشيخ زايد بن سلطان، توجت بأن تبوأ بن بيه منصب الإفتاء، لما يتميز به من علم أولاً، ولكونه “رجل دولة” ثانياً، بمعنى أنه ليس بالفقيه التقليدي، وإنما لديه نظرة خاصة لدور “الدين” في الدولة الحديثة، وحدود العلاقة بين “الفقيه والسلطان”، وذلك مصدره إيمانه بـ”دولة المؤسسات”، لا مجرد الفقيه الفرد، الذي برأيه انتهى زمنه. حيث يعتبر أن الفقيه هو جزء من مؤسسة، وهي بدورها جزء من كيان الدولة، التي تتشكلُ من مؤسسات عدة ، تتكاملُ في ما بينها باستقلالية، تحت سقف القانون الذي يحتكمُ له الجميع، ويحقق مصالح الشعب والدولة.
أحدُ العارفين بسيرة الشيخ بن بيه، يقول: “الكثيرون يجهلون طبيعة العلاقة بين الشيخ وحكام الإمارات، وهي علاقة مبينة على الاحترام المتبادل والثقة والاستماع لوجهات النظر المختلفة، وأيضاً، الاستقلالية في الوقت ذاته”، مؤكداً أن القيادة السياسية في أبو ظبي “لا تملي على الشيخ بن بيه مواقف معينة، أو تطلب منه أن يصدر قرارات مرسومة سلفاً”، معتبراً أن السبب في ذلك يعود إلى أن “وعي الحكامِ من جهة، وثقتهم بالشيخ واحترامهم له”، وهو ما جعل العمل منتظماً في بنيته المؤسساتية بكل سلاسة ومن دون حدوث ما يعكر صفوه.
مصدرُ يؤكدُ أن بن بيه في موقفه الأخير حول العلاقات مع إسرائيل، إنما أعلنه “بما يتوافق ووجهة نظره، وما يؤمن به ويتعبدُ الله به، ويعتقد أن فيه مصلحة للناس”، مشدداً على أن “قرار الحرب والسلم هو من صلاحيات الحاكم فقط، وليس من صلاحيات أي شخصٍ آخر”.
دعمُ السلم
من يقرأ بيان “مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي”، سيجد أنه موجز، كُتبَ بعناية، ركز على الموقف الإماراتي، وأيده، من دون أن يمتدح إسرائيل أو يكيل إليها الإطراء.
من جهته، مجلس أمناء “منتدى تعزيز السلم”، الذي يرأسه الشيخ عبدالله بن بيه، وفي بيانه الذي أصدره في 15 آب (أغسطس)، اعتبر أن قرار الإمارات بإقامة علاقات سياسية مع إسرائيل، هو خطوة من “أجل السلام العادل والدائم في منطقة الشرق الأوسط”، راجياً أن تكون هذه المبادرة “سبيلاً للسلام و تعزيزاً للاستقرار في المنطقة والعالم”
يلحظُ مما سبق، أن المحور الأساس للبيانات هو “إرساء السلم”، وأن أي خطوات من شأنها أن تعزز الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وتحد من النزاعات، ستكون محل تأييدٍ ودعم.
مصدرٌ مقربٌ من مكتب الشيخ عبدالله بن بيه، وفي حديثٍ لي معه، أشار إلى أن “السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل هو خيار استراتيجي، لا يمكن أن يتم تجاوزه، ويجب العمل على إنجازه، وذلك يتحقق عبر الحوار، والجلوس وجهاً لوجه، على طاولة واحدة، والتفاوض بشفافية ووضوح وقوة”، معتبراً أن “هذه القناعة ليست وليدة الساعة، بل هي نتاج التأمل في الواقع السياسي والتاريخي للشرق الأوسط طوال العقود الماضية”.
الحملة المضادة
المواقف السابقة للشيخ عبدالله بن بيه، جعلته محل نقدٍ وهجوم شرسٍ من المناوئين له، أو المعارضين للعلاقات الإماراتية – الإسرائيلية، وخصوصاً تيارات الإسلام السياسي.
الردود العلمية المتينة، كانت غائبة، وحدها الشتائم، التحريض، التخوين، من كانت سيدة الموقف.
من حق أي شخص أن يكون له رأيه، ويبدي وجهة نظره المعارضة أو المؤيدة، إنما أن يتحول الفضاء العربي، إلى فضاءٍ تشاتمي، فذلك أمرٌ يدعو إلى التوقف أمامه ملياً.
دورُ مؤسساتِ الفتوى
ليس طبيعة وخطاب “الحملة المضادة” هو ما يدعو للتأمل وحده، بل هنالك أمرٌ آخر: لماذا سكتَ كثيرٌ من العلماء وأرباب الفتوى؟ هل لهم رأي مخالفٌ لا يودون الإدلاء به، أم لهم رأي مؤيدٌ يخشون إعلانه؟
لكل شخصٍ الحق في “الصمت”، وليس من الإنصافِ البحثُ في النوايا؛ إنما هنالك الكثير من القضايا التي تستحق النقاش: إلى أي مدى هنالك استقلالية للقرار الديني في الشرق الأوسط، وهل هو قرار يقع تحت سيطرة السلطات أو الجماهير، وما مدى قوة المؤسسات الدينية وحدود تداخلها مع السياسية، وهل المطلوب منها أن يكون لها رأي في مختلف القضايا، أم النأي بها عن السياسة… أو أن الرأي يجب أن يقتصر في القضايا الكبرى والمصيرية؟
ماذا لو حدثت تطورات سياسية وأمنية “خطيرة” في المستقل، اضطرت المؤسسات السياسية والأمنية أن تتخذ خطوات صريحة، ماذا سيكون عليه حينها أداء دور الفتوى، هل ستلوذ بالصمت السلبي، أو المواقف الرمادية، أم تؤثر السلامة!
هي إشكالياتٌ حقيقية، تحتاجُ إلى نقاشٍ صريحٍ علمي وجاد، لأن دور “الفتوى” ما زال شائكاً إسلامياً؛ فإما أن ندعَ ما لقيصر، لقيصر. أو نجترح مقاربة حديثة، تقوم على ترسيخ مفاهيم دولة المؤسسات، التي تضع حدوداً واضحة بين “الأرضي” و”السماوي”، وبين “الدنيوي” و”الروحي”، ساعتها يكون “القانون” هو السيد، وتتوزع الصلاحيات الدستورية بين المؤسسات، من دون أن نخاف من شبحِ فوضى أو صراعات تختطف الدين والسياسية من “السلم” إلى “الحرب”.
*نقلاً عن صحيفة “النهار”