قد يكون فرصة لتحقيق استقرار سياسي في البلاد وقد يقود إلى سيطرة المكون العسكري على السلطة الانتقالية
كتب : أماني الطويل كاتبة وباحثة
على الرغم من أن اتفاق السلام الموقع بالأحرف الأولى في جوبا مؤخراً بين الحكومة السودانية الانتقالية وبعض الحركات الدرافورية المسلحة هو اتفاق جزئي، لكنه يحوز اهتماماً كبيراً داخلياً وإقليمياً ودولياً، لأسباب تتعلق بأنه قد يكون فرصة لتحقيق استقرار سياسي في السودان. إلا أن هذه الحالة لم تمنع من تصاعد المخاوف والتوتر خصوصاً على الصعيد الداخلي السوداني من كونه اتفاقاً قد يقود إلى سيطرة المكون العسكري على السلطة الانتقالية، وإلى فيدرالية الحكم في السودان التي قد تكون خطوة على طريق تجزئة التراب الوطني السوداني.
بطبيعة الحال من الضروري قبل التعرض تفصيلاً لهذه التفاعلات السياسية، النظر في ملامح الاتفاق وحالة الأطراف الخارجة عليه حتى الآن وتأثيرها في مجمل المعادلة السياسية الجاري بلورتها حالياً.
ملامح اتفاق جوبا
جمع اتفاق جوبا بين عدد من المسارات نظراً لانفجار المطالب الجهوية بعد ثورة ديسمبر(كانون الأول) ووجود توجه لاحتواء هذه المطالب على الرغم من انتهازية بعض أطرافها على المستوى السياسي. في هذا السياق يبرز مسار دارفور بين تنظيمات وقوى يطلق عليها الجبهة الثورية، بينما المسارات الأخرى هي شرق السودان وشماله، وولاية النيل الأزرق.
وقد تم التوقيع على اتفاق جوبا بالأحرف الأولى فقط، في رسالة لبقية الأطراف التي لم تنضم إلى مسيرة المفاوضات على مدى أكثر من نصف عام، ولعل من أبرز هؤلاء عبد الواحد نور صاحب الوزن الأعلى على الأرض من نظرائه في الحركة الثورية، وعبد العزيز الحلو الذي يسيطر على منطقة جبال النوبة.
في ما يتعلق بالمحتوى، نستطيع القول إن هذا الاتفاق متأثر إلى حد كبير بالهندسة الأميركية لاتفاقات السلام سواء في السودان أو العراق، وما يتعلق بمبدأ المحاصصات السياسية الذي سبقت إليه فرنسا في لبنان، حيث دشن اتفاق نيفاشا للسلام الموقع عام 2005 بين شمال السودان وجنوبه قبل استقلال الأخير في 2011 مفاهيم تقاسم الثروة والسلطة التي قد تكون استجابة سياسية وتنموية لمناطق الهامش، لكنها أيضاً تفتح الباب واسعاً أمام الاستقلال السياسي إذا توافرت إرادة دولية له كما جرى في جنوب السودان.
وقد منح اتفاق جوبا تحالف الجبهة الثورية الدارفوري على المستوى القومي 3 مقاعد في المجلس السيادي ليرتفع عدد أعضائه إلى 14، وعلى المستوى الوزاري 5، وفي المجلس التشريعي ربع عدد المقاعد أي 75.
في هذا السياق تم الاتفاق على العلاقة الدستورية بين المركز والأقاليم أو الولايات كما يطلق عليها في السودان علاقة فيدرالية علماً أنه لم يتم التطرق على نحو تفصيلي إلى مفهوم دقيق لها، وربما ذلك أحد أهم مهام المجلس التشريعي المقبل.
منتسبو دارفور في هياكل السلطة الولائية 40 في المئة، وهي نسبة ستكون موضوعاً لجدل وخلاف سياسيين بين الدارفوريين في حال انضمام عبد الواحد نور إلى الاتفاق لإنه لن يقتنع بنسبة 10 في المئة للحركات الملتحقة باتفاق جوبا، أما بقية مكونات السلطة الانتقالية فلها 30 في المئة وللقيادات المحلية 20 شرط أن يكون رئيس الحكومة الولائية دارفورياً.
وقد سار الاتفاق بمنطق المحاصصة نفسها في مسار ولاية النيل الأزرق وشرق السودان وشماله لكن بنسب مختلفة، وتم انتهاج سياسيات التمييز الإيجابي لصالح المسارات الولائية في الخدمة المدنية بحيث تكون مقصورة على أبناء هذه المناطق لعشر سنوات مقبلة.
تقاسم الثروات
فاز إقليم دارفور بنسبة 40 في المئة من إيراداته تخصص له لمدة عشر سنوات كاملة، طبقاً لاتفاق إبريل (نيسان) الماضي، ومنح سكانه نسبة لا تقل عن 3 في المئة من الإيرادات المتأتية من الموارد الطبيعية، في المناطق التي تستخرج منها.
في هذا السياق التزمت الحكومة الانتقالية بتوفير مبلغ مئة مليون دولار أميركي خلال شهر من تاريخ التوقيع على الاتفاق وتلبية متطلباته كافة بمبلغ سنوي قدره سبعمئة وخمسون مليون دولار أميركي لمدة عشر سنوات، يحوّل إلى صندوق دعم السلام والتنمية المستدامة في الإقليم.
وفي هذا السياق سيتم تشكيل “المفوضية القومية لقسمة الموارد والإيرادات المالية وتخصيصها ومراقبتها”، يُعين رئيس الوزراء رئيساً مستقلاً لها ويصدر قانون تفعيل لها في مدة أقصاها ثلاثة أشهر من التوقيع على الاتفاق.
أهم بند لضمان تنفيذ بنود الاتفاق سيادة أحكامه على الوثيقة الدستورية، حيث اتفق الطرفان على إدراج اتفاقيات السلام الموقعة في الوثيقة الدستورية ويُزال التعارض بتعديل الوثيقة الدستورية.
المكون الأمني لاتفاق جوبا
ربما يكون من أهم نقاط هذا الاتفاق هو المرتبط بتسليم المدانين في انتهاكات دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، ما يعني استقرار السودان بمكوّنَي الحكم المدني والعسكري على تسليم الرئيس المخلوع البشير، وكذلك ثلة ليست بالقليلة من أركان حكمه القابعين الآن في السجون، أما البروتوكول التفصيلي الذي عطّل التوقيع لشهور فقد نصّ على وقف إطلاق النار الشامل والأعمال العدائية وإيصال المساعدات الإنسانية ودمج وتسريح قوات الحركات المسلحة بعملية مرحلية تبدأ خلال 3 أشهر وتشكيل قوة مشتركة لحفظ الأمن في الإقليم من القوات المسلحة والدعم السريع والشرطة والحركات المسلحة.
وألزم الاتفاق السلطة الانتقالية بإصدار عفو عام وإسقاط البلاغات والأحكام القضائية كافة الصادرة بحق قادة هذه الحركات وتحقيق العدالة الانتقالية لضحايا الحرب مع عودة النازحين واللاجئين وتعويضهم وتمكينهم من استعادة أراضيهم التاريخية.
وظائف الاتفاق
إلى جانب تحقيق السلام المأمول، يبدو الزخم السياسي والإعلامي المحيط باتفاق جوبا مقصوداً من جانب الخرطوم خصوصاً مع ما أقدمت عليه من تنازلات لصالح الأطراف السودانية المظلومة تاريخياً، فإلى الخطاب المعلن من جانب رئيس الوزراء عبدلله حمدوك إلى كل الحركات المسلحة بالانضمام إلى مسيرة السلام، فإن النسب التي حصل عليها المتفاوضون تعني أن الخارجين عن هذا المسار لن يجدوا نصيباً من الكعكة على المستويين السياسي والاقتصادي، ما دفع عبد العزيز الحلو زعيم مناطق جبال النوبة إلى إعلان اتفاق مع حمدوك غداة التوقيع على اتفاق جوبا خلال زيارة الأخير إلى أديس أبابا. فمن جهة انفتحت الخرطوم على مطلبه بفصل الدين عن السياسة الذي هو مطلب شعبي سوداني بامتياز فيما عدا تحالفات الإسلاميين السودانيين، مع خبرة السودانيين المريرة تحت مظلة حكم الإسلام السياسي في السودان لفترة 3 عقود كاملة.
وجد هذا المنهج دعماً أوروبياً خصوصاً من جانب فرنسا التي تمارس ضغوطاً على عبد الواحد نور الذي يعيش في باريس للالتحاق بالاتفاق، وهو ما يقاومه هذا الأخير بكل قوة حتى هذه اللحظة، حيث اضطر لمواجهة انقسام كبير في حركته، بفصل خمسة من كبار رفاقه من قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان في دارفور، الذين طالبوا بالانضمام إلى مسيرة السلام، ما يعني أن نور يواجه ضغوطاً داخلية وخارجية في وقت فقد محتوى خطابه السياسي الصدقية نسبياً على المستوى الدارفوري بعد 17 عاماً كاملة من معاناة الناس في معسكرات اللجوء والنزوح.
في ما يخص مسار شمال السودان وشرقه، فقد سجل حضوراً أكثر من حصوله على منافع مقارنة بمسار دارفور الذي كان مركزياً بحكم المآسي الإنسانية التي ترتبت عليه، أما مسار النيل الأزرق فقد حصل على جزء من كعكة الثروة والسلطة، وقام بدوره في حث الحلو على التقارب مع الحكومة.
أما على مستوى المعادلات السياسية الحاكمة للتفاعلات قومياً، فإن تداعيات اتفاق جوبا يتم ترجمتها حالياً بوجود مخاوف – من أن يكون الأعضاء الجدد في هياكل السلطة إضافةً لوزن المكوّن العسكري في المجلس السيادي- على حساب المدني، وأن يجني العسكري قدرة على إزاحة شركائه من تحالف الحرية والتغيير والاستفراد بالسلطة في ما بعد المرحلة الانتقالية، وبحسبان الأدوار المركزية والمناورات السياسية التي صاغها هذا المكوّن مع محمد حمدان دقلو(حميدتي) فيها ما لا بد أن يكون لها أثر.
على أية حال لن يبدد المخاوف جميعها إلا تنفيذ الاتفاق مع توافر حسن النية من جميع أطرافه، وأن ينجح الأوروبيون في إلحاق نور به، كما أن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب يعطيه بعض العافية الاقتصادية لمواجهة متطلبات تمويل مشروع السلام على المستوى القومي، وهو أمر على الرغم من أهميته لن يكون بديلاً عن إعادة هيكلة الدولة عبر المجلس التشريعي بتوافر نخب سياسية في أعلى مستوى من المسؤولية الوطنية.
نقلا” عن أندبندنت عربية