كتب – محـمد الثـريا
لـم يكد غبار عجلاتها يستقر لبضع أسابيع حتى يعود ليثار مجددا وربما أشد من السابق، تلك هي حافلات نقل الشباب المعدم للقتال في جبهات مأرب والساحل الغربي وعلى الحدود بين اليمن والسعودية .
الحافلات التي يراها معظم الاهالي كابوسا مرعبا جاء باحثا عن أرواح اخرى عزيزة ليحصدها قد تبدو عكس ذلك تماما في نظر الشباب المغادر على متنها،فبالنسبة لهم يبقى صعود تلك الحافلات هو السبيل الوحيد والبلسم المتبقي لمواجهة ألم المعاناة والفقر المدقع الذي يعتصرهم اليوم بعد ان وجدوا انفسهم فجأة وسط رحى حرب لاترحم وفي جوف دوامة من الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي لاتبقي ولاتذر .
الشاب حكيم أب لطفلين وهو واحد من بين عشرات الشباب الذين رايتهم متجمهرين أمام احدى الحافلات حينما كنت متجها الى عملي صباح الاثنين الماضي .
أقتربت قليلا محاولا معرفة سبب تلك الجلبة فإذا بحكيم يلوح بيده إلي وقد تمكن أخيرا من إنتزاع مقعد له بداخل تلك الحافلة قائلا: دعواتك دكتور، متجهين الان الى مأرب وأمانة عليك لو مرض أحد أطفالي ان تعالجه حتى أعود فأسدد ما علي من دين للعيادة .
صدمني حكيم بحديثه هذا وفي لحظة الأسئ تلك سألته: حفظك المولى،ولكن لماذا هذا القرار الخطر خاصة وانك لاتجيد استخدام السلاح؟
أجاب مختصرا معاناته ودوافع رحيله : أشتدت حلقاتها أكثر ومابقي الا هذا الخيار .
غادرت حافلة حكيم ورفاقه فيما ظل عدد أخر ينتظر هناك قدوم الحافلة التالية؛ وهناك ايضا بقيت متسمرا وعاجزا عن الحديث ..
ألهذا المستوى من الإنهيار والإنقياد لصالح خيارات وحسابات السيناريو القذر ذاك قد وصلنا؟
صار شبابنا يرحلون وقد لايعودون من رحلة الموت تلك وكل ذلك فقط لأجل إسكات بطن او لتطبيب مرض او ماشابه.
لم يعد لدي الكثير لأقوله عن تلك الانتهاكات الصامتة والجرائم القابعة تحت هشيم الصراعات السياسية المستعرة سوى هذه الحقائق المؤلمة لأضعها امام القارئ الكريم وهو من سيحكم اليوم وربما من سيحاسب غدا ..!
ـ من يدفع وراء عودة حافلات تجميع ونقل شباب الفاقة والعوز حاملا معه كفنه الى جبهات القتال في مأرب وغيرها مستغلا حاجته وقلة حيلته قطعا ليس في حسبانه إنهاء الحرب ولا السعي لرفع معاناة الناس .
ـ صدقني..من يرعى ويمول مثل هكذا أفعال وممارسات لاأخلاقية منذ سنوات في وقت كان ينبغي عليه خلالها سرعة إيفائه بالتزاماته ومسؤولياته تجاه مجتمع الأزمة والصراع وفقا للتفويض الذي أمتلكه والصلاحيات الواسعة التي اعطيت له لاريب انه لايحمل في جنباته الخير لهذا الشعب ولا يرنو لتحقيق غاية الخلاص والاستقرار لهذا البلد .
ـ لاتحاول إقناعي بأن هؤلاء المعوزين ليسوا مجبرين في صعود تلك الحافلات وأن قرار الذهاب الى مواجهة مصير الموت الذي دفعهم اليه ضنك الحياة الصعبة يظل خيارا من بين عدة خيارات أخرى ماثلة أمامهم لها ان تغطي تلك الحاجة وان تمنح ذات الإغراء .
فالبلد التي تعطل فيها كل شيئ يبعث على الحياة وتقطعت بها أغلب أسباب العيش الكريم قطعا لم تترك لك خيارا آخرا سوى ذلك الطريق المقرف لتسلكه سيما وأنك بت لاتطيق كثيرا سماع أصوات الجوع والمرض الملازمة لأفراد عائلتك منذ قامت الحرب اللعينة؛ من هنا تبدأ قصة القرار الإرتجالي ومن هنا تولد فكرة الحل الأسرع لايقاف كابوس المعاناة اليومية .
أليس هذا خيارا إجباريا؟
ولو لم تجبرك الظروف القاسية في طرق باب تلك الجبهات هل كنت طارقه يوما؟
ـ أغلقوا جميع الابواب في وجهك ولم يتركوا لك الا باب التوجه الى محرقة الحياة وبوابة البحث عن الريال السعودي ليس هذا وحسب بل وجعلوا منك الأجير والمرتزق الارخص في العالم كما هو تصنيف كبريات الصحف العالمية اليوم للمقاتل الجنوبي في جبهات الشمال والحد السعودي ثم تطلب مني بأن لا أصفها بالجريمة .
بل هي الجريمة الشنعاء في أقبح صورها. كيف لا؟
وهي من تأخذهم شبانا في عمر الزهور لتعيدهم بعد ذلك جثثا متفحمة هذا ان أعادتهم .
ـ جميع من يتصدرون المشهد السياسي اليوم يشتركون في إرتكاب هذه الجريمة وليس التحالف وحده وعلى عاتقهم جميعا تقع مسؤولية إيقافها وخلق خيارات أخرى كريمة .