كتب : د. عيدروس نصر
أعرف أن الكثيرين ممن سيقرأون منشوري هذا عن الحزب الاشتراكي، سينظرون إليه بمنظار شهادة أهل العروس لابنتهم، أو شهادة الابناء لأبيهم، لكن هذا لا يبدو مهما فالموضوع يتعلق بالذكرى الثالثة والأربعين لإعلان قيام الحزب الاشتراكي اليمني الذي هو حصيلة عمليات سياسية متواصلة بدأت في منتصف الخمسينات من القرن الماضي عند نشوء التنظيمات والأحزاب التحررية القومية والسيارية، حتى جاء المؤتمر التأسيسي للحزب 11ـ 14 أكتوبر 1978م
لم يكن تاريخ الحزب الاشتراكي تاريخاً ملائكياً مثله مثل كل التنظيمات والتكوينات والتجمعات السياسية التي تقوم على الاجتهاد البشري الذي يحتمل الصواب والخطأ، ومن هنا فإننا نشاهد التقييمات التي تعرض لها تاريخ الحزب تقوم على إسقاط موقف صاحب التقييم من الحزب، وهنا تغيب الموضوعية وتحضر العاطفة (المتعاطفة أو الساخطة) على تاريخ الحزب.
بعد العام 1994م انتقل الحزب الاشتراكي اليمني من حزب حاكم، فشريك في الحكم بالمناصفة (ولو لفظاً) إلى طرف سياسي مهزوم مجرد من كل عناصر القوة والدفاع عن النفس بل ومن حقه في اكتساب الأعضاء الجدد أو الدفاع عن أعضائه السابقين.
ولأن الثقافة السياسية اليمنية تقوم على إدانة المهزوم وشيطنته وتحميله كل الاتهامات والذنوب والعيوب والخطايا حتى لو كان من عالم الملائكة (والحزب الاشتراكي ليس من عالم الملائكة)، وتمجيد المنتصر ومدحه ونسب كل سجايا الطهارة والملائكية والقدرات الخارقة والنقاء إليه حتى لو كان أقرب إلى عالم الشياطين، فقد سارت هذه القاعدة على الحزب الاشتراكي، بحيث أصبح كل من يبحث عن منصب أو مكسب أو ترقية أو حتى فتح مشروع استثماري صغير أو كبير (بالحق أو بالباطل) يستطيع أن يحقق ما يريد بمجرد اعتلائه أية منصة إعلامية وقذفه للحزب الاشتراكي ولعنه وشتمه وشيطنته، تماما كما يفعل اليوم رواد المصالح والباحثون عن الوظائف والألقاب الفخمة مع المجلس الانتقالي ودولة الإمارات.
لست بصدد استعراض تاريخ الحزب الاشتراكي، وأين أصاب وأين أخطأ، ولي في هذا دراسة تفصيلية ما تزال قيد الاستكمال لكنني ومعي عشرات وربما مئات الآلاف من الجنوبيين من أبناء الفلاحين والعمال والصيادين والبدو الرحل الذين لم يعرفوا التعليم إلا في زمن الاشتراكي، ولم يتعاطوا العلاج المجاني إلا في زمن الاشتراكي، ولم يعرفوا الضمان الاجتماعي والوظيفة المضمونة والسكن النظيف ومركز الأمن ومحكمة العدل والقانون الذي يساوي بين الوزير والغفير وكرسي الدراسة الذي يجلس فيه ابن عامل النظافة بجانب ابن الوزير والقائد العسكري، أقول إنني وأمثالي مهما كانت ملاحظاتنا على عيوب وأخطأ الحزب، لا بد أن نعترف أن طبقتنا وجيلنا لم يكن ليحظَ بكل تلك الفرص الإ في زمن الاشتراكي، فلم تُعرف هذه الفرص لا قبل حكم هذا الحزب ولا بعده، والشواهد اليوم قائمة وتزداد وضوحاً بمرور الأيام والشهور والسنوات.
الذين يحاكمون تاريخ الحزب الاشتراكي في زمن مضت عليه أربعة أو خمسة عقود بمعايير اليوم الذي تغير فيه كل شيء جذريا على الصعيدين الأفقي والرأسي، هم يخطئون مرتين: أولاً لأنهم لا يقيمون وزنا للمتغيرات العاصفة التي قلبت موازين العالم سياسياً وعلمياً وتكنولوجياً، وثانيا لأنهم يحاكمون كيانا قد تأثر بنفسه بمتغيرات العصر وسبقهم إلى التقييم واعترف بأخطائه ويرفض تكرارها لا من قبله ولا من قبل سواه الذين ما يزال بعضهم يدين الحزب عليها ويمارسها صبحاً ومساءً، وهي في كل الأحوال ليست بحجم ومستوى أخطاء وخطايا الكثيرين ممن يرجمون بيت الحزب الاشتراكي الحجري بحجارتهم وينسون بيوتهم الزجاجية القابلة للكسر بمجرد قذفها بحصاة صغيرة.
يكفي الحزب الاشتراكي اليمني فخرا واعتزازا أنه لا تذكر دولة الجنوب الحرة العادلة والمنضبطة الآمنة ذات السيادة وذات الصولة والجولة على مستوى الإقليم والعالم إلا مقترنة باسمه.
لدى الكثير من الملاحظات على مواقف وسياسات الحزب الاشتراكي اليمني، وتحليل متكامل لأخطائه وجذورها الذاتية والمضوعية، وكذا كل الأحزاب المؤيدة للشرعية، مثل جميع المكونات السياسية الأخرى شمالية وجنوبية، لكنني سأختصر ملاحظتي المتعلقة بالموقف من القضية الجنوبية التي يلاقي عليها الحزب تجريما وتجريحا واتهامات لا أول لها ولا آخر.
ولأنني أعرف أن الحزب الاشتراكي كان مع حزب رابطة أبناء اليمن هو من تبنى إعادة إعلان الدولة الجنوبية في العام 1994م وهو مشروع مستعجل مثله مثل مشروع الوحدة الفاشلة، فإن هذا الموقف ظل متميزا مع مراعاة التأثر والتأثير بتوازن القوى، ووجع الهزيمة، ولا أود المزايدة على قيادة الاشتراكي (التي انقطع اتصالي بها منذ سنوات بسبب حالة النزوح) لكنني أعلم أن مواقف تتبلور في إطار هيئات الحزب الاشتراكي لإبراز موقف أكثر تميزا في احترام إرادة الشعب الجنوبي وهو الموقف الذي لم يغب من خطاب الحزب منذ ما بعد كارثة 1994م.
ولهذا أرى أن الحزب الاشتراكي لا يمكن أن يتخلى عن الجنوب من أجل وحدة ماتت وشبعت موتا أو دولة اتحادية خدج وئدت قبل ميلادها، وبالطبع لا يمكن أن يضحي بالتزاماته تجاه الشعب في الشمال حيث له قواعد لا يمكن إنكار حضورها السياسي والوطني وحتى في إطار المقاومة العسكرية.
ومن هذا المنطلق فليس أمام الحزب الاشتراكي سوى طريق واحد وهو القبول بحزبين اشتراكيين شقيقين في الشمال والجنوب يكون لكل منهما قيادته وهيكليته وبرنامجه السياسي ولا بأس من بقاء علاقة فيدرالية أو كونفدرالية بين الحزبين تحافظ على التراث المشترك وما قد ينشأ بين الحزبين والشعبين من شراكات وعلاقات ومقاربات تتعلق بالمتغيرات التي من المتوقع حصولها، بغض النظر عن التمسك بالتسمية القائمة أو تغيير التسمية بما يتناسب والمهمات والتحديات القائمة أمام القواعد والجماهير التي يرغب الحزبان في التوجه إليها بخطابهما السياسي.
التحية لرواد التاريخ وصناع مداميكه الأولى وبناة دولته الوطنية المتجذرة في ذاكرة الأجيال.
والرحمة لشهداء التحرر والتغيير وشهداء الحزب وقادته التاريخيين ومؤسسي خلاياه الأولى منذ الخمسينات حتى آخر الشهداء والفقداء وليس آخرهم المناضل الأب الصنديد الفقيد علي صالح عباد (مقبل).
من صفحة الكاتب على فيسبوك