كتب : مختار الدبابي
تثير مجموعة الهجمات الإرهابية التي نفذها شبان تونسيون الكثير من نقاط الاستفهام حول طبيعة منفذيها ودوافعهم، إذ أن معظمهم في مقتبل العمر ولا يمتلك لحى طويلة، وبعضهم لا يصلي، ولا ثقافة له في الدين غير صرخة التكبير، ولم يُدن سابقا بجرائم إرهابية، لكن القاسم المشرك لهذا النوع من الإرهاب هو وجود جهات تتولى الاستقطاب والشحن السريع بشكل لا تترك فيه الوقت للمنفذ أن يستوعب مساره الجديد ويعيش به في حياته اليومية، ويبقى انعدام العدالة الاجتماعية وانتشار الفساد والفقر والبطالة من أهم أسباب إقناع الشبان التونسيين بالانضمام إلى التنظيمات المتشددة، وتنفيذ جرائم إرهابية وعمليات دهس وقتل جماعي.
تطرح العمليات الإرهابية التي ينفذها شبان تونسيون في أوروبا تساؤلات بشأن نوعية المنفذين، ولماذا يختلف الإرهابي التونسي عن صورة الإرهابي الأولى القادمة من الشرق؟ فالشبان الحاملون للهوية التونسية الذين نفذ بعضهم عمليات دهس أو ذبح لا يمتلكون لحى طويلة، ولا علامات سوداء على جباههم، وبعضهم لا يصلي، أو بدأ للتو أداء الصلاة ربما لاسترضاء مستخدميه. وأغلب أولئك الشبان انقطع منذ فترة قصيرة عن الخمر والمخدرات، ولا ثقافة له في الدين غير صرخة التكبير التي يطلقها لإظهار هوية الجريمة بخلفية إسلامية.
لا نية هنا للبحث عن تفسير متآمر يدفع بالعمليات الإرهابية إلى مسار آخر، ولكن لتأكيد أن “الإرهاب التونسي” باتت لديه مواصفات خاصة، إذ أن المنفذ لا يجلب إليه الشك، وسجله القضائي يخلو من تهم أو شكوك بشأن الانتماء إلى جماعة أو جمعية متشددة، وفضلا عن ذلك كله ليس متدينا بالشكل الذي يدفعه إلى القتل أو الدهس بقناعة ذاتية
لكن المشترك الحقيقي لهذا الإرهاب هو وجود جهات تتولى الاستقطاب والشحن السريع بشكل لا تترك فيه الوقت للمنفذ أن يستوعب مساره الجديد ويعيش به في حياته اليومية. ويبقى أهمّ عنصر هنا هو القدوم من واقع الهامش الاجتماعي، أي من فئات فقيرة، وعادة ما يكون الفرد منقطعا عن التعليم في سن مبكرة، ما يجعل رؤيته للواقع المحيط به ضعيفة، ويقوده الحماس والفراغ التعليمي والنفسي والديني في اتجاهات متناقضة أحيانا، وإلا ما الذي يجمع بين المخدرات والقتل على أساس ديني تحت عنوان “الشهادة”؟
الإرهاب ونظام التفاهة
مثلما أن الشاب المغامر يمكن أن ينساق بسهولة وراء العنف، والجريمة في صورتها المعهودة (قتل، أو اغتصاب، أو سلب)، أو وراء أعمال شغب وعنف تحت مظلة الحماس لفريق رياضي، فإنه يمكن أن يفعل ذلك وبنفس الحماس من أجل وعود بـ”الشهادة” التي لا يعرف منها سوى صورة وحيدة أنها ستخلصه من حالة الفقر، والعيش بلا أوراق ثبوتية مطاردا من الشرطة، أو خادما ذليلا لدى شبكات الاتجار بالمخدرات.
وإذا كان خطاب المتشددين في سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان يحمل لغة دينية مشحونة بقيم متطرفة وتفسيرات لآيات وأحاديث واستعادة لفتاوى قديمة وحديثة عن “الجهاد” و”الجنة” و”الحور العين”، ويعبرون عنها بحركات استعراضية عند تنفيذ جرائمهم سواء عبر رسائل نصية أو فيديوهات، فإن الجيل الجديد من إرهاب “الفاست فود” لا يشترك مع الجماعات المتشددة سوى في أشكال إدارة التوحش، أي من خلال عمليات صادمة عن طريق الذبح أو الدهس لإحداث الصدمة وجلب الأضواء.
لا يعدو تنفيذ عملية قتل تحت مظلة الشعار الديني سوى هروب من واقع صعب إلى واقع جديد تنتفي فيه المشاكل بشكل نهائي، تماما مثل الانتحار، ما يجعل اللبوس الديني رداء شكليا لتبرير الهروب والإحساس بالعجز عن مجابهة أوضاع صعبة في غياب الفكرة والموقف والثقافة والأسرة.
الجماعات المتشددة تعرف جيدا جمهورها الذي تستقطبه تماما كما تفعل جماعات الجريمة المنظمة الأخرى، مثل شبكات المخدرات والتهريب
إن الجماعات المتشددة التي توظف اليائسين تعرف جيدا جمهورها الذي تستقطبه تماما مثلما تفعل جماعات الجريمة المنظمة الأخرى، مثل شبكات المخدرات والتهريب، وهي ذاتها بلا قيم ولا مفاهيم يمكن أن تستقطب وتدرب على أساسها. إنها جماعات خاوية تماما مثل الشباب الذين تدفع بهم إلى الموت العبثي، وهي تنتظر أزمة سياسية أو إعلامية، مثل قضية الرسوم والتشابك التركي الفرنسي وصراع النفوذ في ليبيا وشرق المتوسط، لتلتقطها وتحولها إلى عنصر جذب واستقطاب.
ومن الواضح أن العولمة، التي غيرت مواصفات كل الظواهر في اتجاه نظام التفاهة على رأي عالم الاجتماع الكندي ألان دونو، قد غيرت من هوية الإرهاب المشحون بالدين من ظاهرة متمايزة إلى ظاهرة بنفس مواصفات الجريمة المنظمة، لا يختلفان سوى في الشعارات والتصنيف الذي يتعاطى به العالم معهما والإجراءات التي تتبع ذلك.
من الثابت أن إبراهيم العيساوي الذي نفذ الهجوم على كنيسة نوتردام في نيس لا يعرف شيئا عن الطرف الذي يستهدفه، ولا القضية التي يدافع عنها، وهل هي إساءة أم لا، فالدفاع عن الرسول محمد بالنسبة إليه مجرد خيط واه يقود إلى البحث عن الأضواء ولو لوقت قصير، كأنما ينتقم من المنظومة الحياتية التي كان يعيش فيها من أسرة وتعليم وحكومات فاشلة.
والأمر نفسه بالنسبة إلى من سبقوه من تونسيين، أو عناصر شبيهة من دول شمال أفريقيا في فرنسا وبلجيكا وألمانيا وإسبانيا، كانت العمليات بمثابة قرار بالموت دون أي قيمة، ولا يفسر سوى بالتأثير المفاجئ لشبكات من المتشددين، هم أيضا واقعون تحت سحر الإرهاب الذي ينتقم من الآخر بأسلوب الصدمة والتوحش.
وكان آخر هجوم كبير في نيس قد نفذه أيضا تونسي كان قد هاجر إلى فرنسا في عام 2005 وقاد شاحنة وسط حشد يحتفل بيوم الباستيل في عام 2016، ما أسفر عن سقوط 86 قتيلا.
وأواخر نفس العام 2016 شن تونسي آخر هو أنيس العامري (24 عاماً) هجوما بشاحنة أسفر عن مقتل 12 وجرح أكثر من 70 شخصا في مدينة برلين الألمانية، قبل أن تقتله الشرطة الإيطالية بعدها بأيام.
صدمة الثورة
إبراهيم العيساوي منفذ هجوم كنسية نوتردام في نيس لا يعرف القضية التي يدافع عنها، فالدفاع عن الرسول محمد بالنسبة إليه مجرد خيط واه يقود إلى الأضواء ولو لوقت قصير
منذ استقلالها في 1956، لم تعرف تونس ارتباكا للقيم كما تعيشه الآن، فقد ظلت لعقود أقرب إلى دولة علمانية تسمج بالتدين في حدود معلومة. ورغم ظهور الجماعة الإسلامية في سبعينات القرن الماضي، ثم حركة الاتجاه الإسلامي، بخلفية إخوانية غاضبة على مكاسب التحديث، فإن الدولة نجحت في تقليص تأثيرها كظاهرة من خلال مراسيم وقوانين وإجراءات إدارية خاصة في ظل مجتمع مدني وأهلي متشبع بقيم الدولة.
لكن الأهم في تماسك الدولة بوجه الفكر الوافد المنغلق هو نجاح تجربتها التنموية في تحقيق الاستقرار الاجتماعي بتوفير فرص العمل بالرغم من محدودية إمكانياتها، فضلا عن الاهتمام العملي بالفئات الفقيرة في مناطق واسعة من البلاد، من خلال مشاريع صغيرة زراعية أو سكنية. كما فتحت الباب أمام المنقطعين عن التعليم للحصول على تكوين وخبرات في مجالات حرفية وخدمية تمكنهم من الحصول على فرص عمل قارة حتى وإن كانت هشة.
ولم تمنع ظواهر الفساد والمحسوبية والبيروقراطية الدولة عن أداء دورها الفعال في حماية حزامها الشعبي. كما أن التشدد لم يكن نتاج وضع اجتماعي محلي، ولكنه تسلل من خلال ضخ إعلامي يومي كان يتولاه شيوخ في فضائيات دينية شرقية ممولة خليجيا، أسس لظهور السلفية وظاهرة النقاب بشكل سريع. وبالتوازي، تأثر شبان تونسيون بقصص وحكايات وافدة عن “المقاومة العراقية” وتسلل البعض منهم باتجاه العراق عبر سوريا وتركيا، والتحقوا بتنظيم “القاعدة”.
كان الإرهاب وقتها بمثابة موضة جذابة آتية من الخارج، وإن كانت هناك شروط موضوعية تدفع ببعض الشبان إلى المغامرة بالخروج من البلاد سواء باتجاه أوروبا أو للحاق بجماعات متشددة في الشرق. لكنها كانت ظاهرة محدودة عكس ما هو عليه الآن.
حملت الخطابات الثورة التي جاءت بعد 2011 وعودا كثيرة بالتغيير، وهو ما جعل الشباب يحلم بتحسين حياته. لكن هذا التفاؤل اصطدم بعوائق كثيرة، أهمّها أن الأحزاب الثورية الوافدة أيا كانت خلفياتها الأيديولوجية لم تكن تمتلك في جرابها سوى إطلاق الوعود، خاصة أنها لا تمتلك تجربة في الحكم ولا تعرف كيفية إدارة الدولة وشروطها وحدود التغيير من خلالها. ولذلك كان عملها الأول هو إطلاق وعود وخطط لإغراق مؤسسات الدولة بمستوياتها المختلفة بالانتدابات الجديدة سواء في شكل جرحى الثورة أو عائلات الشهداء أو الآلاف من المحسوبين على المعارضة الإسلامية (العفو التشريعي) واليسارية (المفروزين أمنيا).
لقد بدأت الصدمة الأولى من رفع منسوب الأمل بتوظيف سهل في مؤسسات الدولة. ومن بعد ذلك تحول الوضع سريعا إلى حالة من الفراغ السياسي والأمني وإهمال أدوار الدولة الاقتصادية والاجتماعية، وغابت الوعود والمشاريع والبدائل بشكل جعل الحالمين بالتوظيف السهل يشعرون بصدمة ثانية كانت ردّات الفعل عليها الاجتراء على الدولة ومؤسساتها من خلال الإضرابات وإغلاق مؤسسات حيوية مثل منشآت النفط والفوسفات.
إن غياب الدولة بسبب الصراعات الحزبية والسياسية فتح البلاد على المجهول ومهد لظهور الإرهاب واستجابة مئات الشبان التونسيين له من خلال ما بات يعرف بشبكات التسفير باتجاه ليبيا وسوريا، أو بلحاق العشرات من الشبان بالجبال ورفع السلاح بوجه الجيش والشرطة في عمليات شبيهة بحرب الاستنزاف.
حلول مجتزأة
تنفيذ عملية قتل تحت مظلة الشعار الديني لا يعدو سوى هروب من واقع صعب إلى واقع جديد
لا يمكن البحث في أسباب توسع دائرة الإرهاب بالبلاد دون الإشارة إلى دور الطبقة السياسية الجديدة في تفكيك الدولة وصدمة الفئات الشبابية، وخاصة أصيلي المناطق الفقيرة والمهمشة، في الحصول على فرص عمل داخل مؤسسات الدولة مع تقارير عن توظيف شبه يومي لفائدة منسوبي الأحزاب أو من لوبيات وسماسرة نجحوا في الاحتماء بالثوريين الجدد لإعادة إنتاج ماكينة الفساد والمحسوبية في الوظيفة العمومية.
ردة الفعل الشبابية كانت قوية وصادمة من خلال هروب جماعي باتجاه الإرهاب أو الهجرة غير القانونية إلى أوروبا، تحت أنظار الدولة المفككة. لقد كان “استيراد” شيوخ من الشرق وإطلاق خطاب محرض على “الجهاد” في سوريا، فضلا عن التحريض في المساجد الداخلية، من العوامل المغذية لعملية الاستقطاب، لكن المسؤولية الأولى تعود إلى غياب البدائل واليأس من المستقبل.
ولم تحل المعالجة الأمنية، التي نجحت في تطويق الإرهاب كتعبيرة عنيفة ضد الدولة، دون استمرار الشروط المشجعة على الالتحاق بالإرهاب كملجأ لليائسين، وهو ما يفسر من استمرار عمليات الاستقطاب عن طريق مواقع التواصل وتحرّك البعض كذئاب منفردة.
لكنّ الأهم هو وضع الآلاف من الشبان اليائسين كاحتياطيّ جاهز لأن يكونوا ضحايا لإغراءات المتطرفين داخل البلاد أو خارجها، وهو ما تفسره قصة إبراهيم العيساوي الشاب الفقير الذي امتهن مهنا وضيعة لتوفير لقمة العيش، وكان يلجأ إلى المخدرات لينسى وضعه ووضع أسرته الصعب، لكن بداخله إحساس أنه ضحية خيارات الدولة والحكومات المتعاقبة، فلجأ إلى مخدر آخر في هروب من نوع آخر حوّله إلى ضحية ثم إلى مجرم.
قد يحلّ التنسيق الأمني بين تونس وباريس، وفق ما تهدف إليه زيارة وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، جزءا من المشكلة ولو بشكل ظرفي آني، لكن الأمر سيظل قائما طالما استمرت الأزمة العميقة في تونس واستمرت موجة الهجرة (الحرقة) غير القانونية كنتيجة حتمية لفشل الخيارات الاقتصادية.
ويظل النظر إلى ظاهرة الإرهاب وسهولة الاستقطاب لدى الشبان التونسيين، سواء أكانوا داخل البلاد أم خارجها، دون فهم عمقها الاجتماعي والاقتصادي، قاصرا ولا يؤدي إلى أي حلول على المدى البعيد. وبالنتيجة، فإن مواجهة الإرهاب لن تتم دون تحمل الحكومات القادمة مسؤوليتها في إخراج الاقتصاد التونسي من أزمته وإعادة الثقة للمستثمرين الأجانب والمحليين لأجل عودة الإنتاج بما يخلص فرق العمل.
يمكن أن تستمر المعركة السياسية والفكرية حول الإرهاب والجهات التي هادنته أو خلقت مناخا مشجعا له، لكن دون عمق اجتماعي واقتصادي لمواجهة الفقر والبطالة وتطوير أوضاع المناطق المصنفة تاريخيا كمناطق ظل وهامش، فلا جدوى لتلك المعارك. وعلى العكس فقد تكون مشجعا للاستقطاب لدى المتشددين العنيفين من خلال إثارة قضايا دينية خلافية وتحريك أسئلة تفضي في المجتمعات التقليدية إلى ردات فعل عكسية.
وبالنتيجة، فإن الطريق إلى مواجهة الإرهاب تقوم على تطوير البنى التحتية واجتراح حلول اجتماعية واقتصادية شاملة تقدر على كسب ثقة ملايين الشبان الغاضبين، والذين هم على استعداد للتحالف مع شيطان الإرهاب والهجرات المغامرة المحفوفة بالموت، قبل الحديث عن معالجات دينية أو ثقافية وفنية استعراضية تكشف في عمقها عن تأخر في فهم الظاهرة وسذاجة في مواجهتها.
نقلا” عن العرب اللندنية