كريتر نت – العرب
العراق الذي سبق له أن خبر خطورة العقاب الجماعي على استقراره ووحدة مجتمعه، بصدد تكرار الخطأ نفسه في معالجة مخلّفات حقبة تنظيم داعش والتخلّص من آثارها، إذ بنفس عقلية العزل والإقصاء والانتقام تجري معاملة الآلاف ممن يُعرفون بعوائل داعش بمن في ذلك الآلاف من الأطفال، وذلك في عملية تخدم التشدّد وتغذّيه بدل أن تلغي أسبابه وتجتثّه من جذوره.
على بعد حوالي ستين كيلومترا غربي مدينة الموصل مركز محافظة نينوى بشمال العراق، وتحديدا في ناحية زمار، على الطريق باتجاه محافظة الحسكة بشمال شرق سوريا، يقوم مخيّم العملة ليشكّل معلما يذكّر أبناء تلك المناطق بإحدى أحلك الفترات التي عاشوها خلال سيطرة تنظيم داعش على مناطقهم والحرب المدمّرة التي دارت ضدّه، وليكون كذلك شاهدا جديدا على افتقار العراق دولة ومجتمعا لثقافة الصفح والتسامح الضرورية لتمكين الشعوب من التخلّص من أسر الماضي وتجاوز مآسيه والتوجّه نحو المستقبل.
ويخصص المخيّم الذي بلغت أشغال إنشائه مراحلها الأخيرة لإيواء الآلاف من عوائل تنظيم داعش غالبيتهم العظمى مستعادون من مخيّم الهول الواقع شرقي محافظة الحسكة بالشرق السوري والذي تديره قوات سوريا الديمقراطية الكردية المدعومة من الولايات المتّحدة.
ويمثّل إنشاء المخيم المكوّن من حوالي ثلاثة آلاف خيمة، من وجهة نظر اجتماعية وحقوقية، نموذجا آخر عن سطحية المعالجة العراقية لمخلّفات حقبة داعش المظلمة بشكل لا يساعد على طي صفحتها بل يجعل لها نتائج وتبعات طويلة الأمد قد تمتد لأكثر من جيل، حيث ستظلّ جمرة التطرف مشتعلة وتستمدّ وقودها من عملية العزل والإقصاء التي يعامل بها الآلاف من الأشخاص الذين كانت لهم صلات ما بعناصر من تنظيم داعش، وجلهم لم تثبت بحقّهم تهمة الانتماء إليه، بل بينهم عدد كبير من الأطفال المولودين لآباء وأمهات من التنظيم.
تشدّد وتشدّد مضاد
إهمال مصير الأطفال أكبر نقاط ضعف معالجة ملف مخلفات حقبة داعش سواء في سوريا أو في العراق
مع اقتصار جهود الدولة العراقية في معالجة ملف ما يعرف بنساء داعش وأطفاله إلى حدّ الآن على التجميع والاحتجاز والمحاسبة القانونية للنساء المنتميات للتنظيم بطريقة تحمل الكثير من العيوب والثغرات، تغيب أي معالجة اجتماعية للملف ويتمّ إهمال مصير الآلاف من الأطفال ويحرمون من حقوقهم الأساسية وعلى رأسها إثبات النسب والتسجيل في السجلاّت الرسمية للحصول على أوراق ثبوتية، فضلا عن الحرمان من التعليم.
ويذهب حقوقيون إلى وصف هذه الطريقة في معاملة عوائل داعش، وحتى المشتبه بانتمائهم للتنظيم، بأنّه عبارة عن محاربة للتشدّد بالتشدّد، مذكّرين بوجود حقوق أساسية معترف بها دوليا لا يمكن إسقاطها أو تجاوزها عند محاسبة أعتى المجرمين والإرهابيين كما أنّ هناك مبادئ راسخة على رأسها تحريم العقاب الجماعي وتحميل الأشخاص تبعة جرائم اقترفها غيرهم، فما بالنا إذا ما تعلّق الأمر بأطفال “ذنبهم” الوحيد أنّهم ولدوا لمجرمين أو إرهابيين.
ويعتقد البعض أنّ الميل العام لعدم التسامح مع عوائل داعش ورفض إعادة إدماجهم في المجتمع، يأتي نتيجة لثقافة رسّخها النظام العراقي الذي نشأ قبل أكثر من سبعة عشر عاما، وهي ثقافة الاجتثاث التي مورست ضدّ الآلاف ممن انتموا لحزب البعث القائد للنظام السابق كصورة من صور العقاب الجماعي التي أثبتت فشلها الذريع وساهمت في تقسيم المجتمع وإضعاف وحدته، ورفّعت من منسوب التشدّد لدى كثير من فئاته، وجعلت بعض شرائحه المقصية والمهمّشة صيدا سهلا لتنظيمي القاعدة وداعش.
ويبلغ عدد عوائل داعش الذين تعتزم وزارة الهجرة والمهجرين العراقية إعادتهم من سوريا إلى مخيّم العملة حوالي إثنين وثلاثين ألف فرد غالبيتهم العظمى من النساء والأطفال.
وبرزت بمجرّد قرب اكتمال عملية إقامة الثلاثة آلاف خيمة المشكّلة للمخيّم، الأصوات الرافضة لاستقبال تلك العوائل في منطقة شهدت أكثر حلقات حقبة داعش دموية غير بعيد عن قضاء سنجار الذي مارس التنظيم المتشدّد مجازر وعمليات “سبي” واغتصاب مروّعة للنساء من الإيزيديين السكان الأصليين للقضاء.
ونقلت شبكة رووداو الإعلامية عن مختار منطقة زمار محمد أحمد قوله إنّ أهالي المنطقة يرفضون قطعيا عودة “الدواعش” من مخيم الهول، معتبرا أن عودة هؤلاء مؤذية لمشاعر الأهالي الذين فقدوا المئات من ذويهم على يد عناصر داعش لدى غزوهم مناطق شمال وغرب العراق سنة 2014 وسيطرتهم على مساحات شاسعة منها حتى سنة 2017.
وانتقد قائم مقام قضاء تلعفر القريب من زمار قاسم محمد، السلطات العراقية لعدم استشارتها أهالي المنطقة بشأن إقامة مخيّم العملة قائلا “لم يأخذوا موافقتنا ولم تردنا كتب رسمية، بل عملوا مخيما لإسكان عوائل داعش من المحافظات الأخرى”، مؤكدا قوله “نرفض نحن وأهالي زمار هذا القرار وسنعقد مؤتمرا رسميا وعشائريا نرفض فيه رفضا قاطعا إقامة هذا المخيم وجلب عوائل الدواعش إليه”.
وعن قضية المخيّم ذاته يقول شيروان دوبرداني عضو مجلس النواب العراقي عن محافظة نينوى إنّ اختيار منطقة زمار مقرا لمخيم العملة “يعتبر مشكلة كبيرة تعيق عودة النازحين بل تشكل خطرا من الناحية الأمنية على محافظة نينوى بشكل خاص والعراق بصورة عامة خصوصا في هذا الوقت”، مضيفا “الحكومة العراقية أنشأت المخيم دون علم الحكومة المحلية في نينوى ونواب المحافظة”، ومطالبا بأن “تكون لحكومة نينوى ونوابها وقفة جدية بخصوص هذا الأمر”.
وتظهر مثلُ هذه المواقف الرفضَ المجتمعي الشديد لكل من لهم صلة بداعش، بمن في ذلك الأطفال المحكوم عليهم بشكل مسبق بالعيش على هامش المجتمع.
عقد مستحكمة
يمثّل مصير الأطفال أكبر نقاط ضعف معالجة ملف مخلّفات حقبة داعش سواء في العراق أو سوريا، فبالإضافة إلى المآسي الغامرة التي يعيشها الآلاف من هؤلاء الأطفال مع انعدام مختلف ظروف العيش العادي لهم من مأكل ومشرب ورعاية صحية وتعليم، فضلا عن وعي بعضهم بالانتماء إلى طرف منبوذ ومجرّم ما يخلق لديهم جروحا نفسية غائرة وعُقدا من الصعب التخلّص منها، فإنّ ترك هؤلاء لمصيرهم هو بمثابة تشكيل خزّان بشري لحلقات قادمة وموجات جديدة من التطرّف والعنف.
أمّا التعويل على القضاء العراقي لأجل تطبيق معالجة عادلة لملف داعش وعوائله، فيصطدم بعيوب جوهرية في الجهاز القضائي نفسه وفي أسلوب عمله وفي ضعف الإمكانيات والوسائل المتاحة للعاملين فيه.
وتقول جو بيكر مديرة برنامج الدفاع عن حقوق الطفل في منظمة هيومن رايتس ووتش بالنيابة، إنّ المحاكم العراقية نظرت حتّى يناير 2020 في أكثر من 20 ألف قضية إرهاب ضد مشتبه بانتمائهم إلى تنظيم داعش، ومن ضمنهم المئات من الأطفال، مشيرة إلى صدور تقرير عن الأمم المتحدة يستبعد تحقيق العدالة في تلك المحاكمات التي تشوبها عيوب خطرة.
وتضيف بيكر أنّ أربعة وأربعين من الحالات التي عرضت على القضاء العراقي كانت تتعلق بمتهمين كانوا أطفالا في وقت نشاطهم المفترض ضمن داعش وقال أغلبهم إنهم تعرضوا للتعذيب، ومع ذلك حكم على معظمهم بالسجن بين عشر وعشرين سنة.
وتؤكّد الناشطة الحقوقية أنّ التقرير الأممي ليس سوى تصديق لما كانت قد توصّلت إليه هي شخصيا بالتعاون مع أحد زملائها في شمال العراق بعد مقابلتهما تسعة وعشرين طفلا محتجزين كمشتبه بانتمائهم إلى داعش في أربيل، وقال معظمهم إن المحققين عذّبوهم للحصول على اعترافات منهم، وضربوهم بأنابيب بلاستيكية أو كابلات كهربائية أو قضبان وأخضعوهم لصدمات كهربائية أو أجبروهم على أوضاع مُجهِدة ومؤلمة. وقال العديد من الأطفال إن نشاطهم إلى جانب داعش كان بسيطا أو أنّهم لم يتورّطوا معه أصلا، لكنهم اعترفوا بذلك فقط لوقف التعذيب.
وتتوصّل بيكر من معايشتها لملف داعش وعوائله في العراق إلى حقيقة أنّ البلد “مصمم على تكرار أخطاء الماضي”، وأنّه “يحتاج إلى تغيير كبير في نهجه تجاه المشتبه بانتمائهم إلى داعش عبر الوقف الفوري لجميع أشكال تعذيب المعتقلين، واستبعاد الاعترافات القسرية كدليل، وضمان محاكمات عادلة مع تمثيل قانوني فعلي، والسماح للضحايا بالمشاركة في المحاكمات. كما ينبغي الاعتراف بالأطفال تحديدا كضحايا لداعش، وبأنّ لهم الحق في إعادة التأهيل وليس السجن”.
تواطؤ وانتقام
ما مصير عوائل الدواعش اليوم
يقول حقوقيون إنّ ما يشجّع السلطات العراقية على ارتكاب المزيد من التجاوزات في معالجة ملف داعش وعوائله وأطفاله حالة الصمت بل التواطؤ الدولي، وخصوصا من قبل دول غربية معنية بالملف مباشرة وترغب في التخلّص من مواطنيها الذين تورّطوا في القتال إلى جانب التنظيم في سوريا والعراق وارتبطوا بعلاقات زواج عرفي هناك وأنجبوا أطفالا.
ومن أسوأ السيناريوهات في هذا المجال أن تستغلّ السلطات العراقية تلك الحاجة وتحوّلها إلى ضرب من “التجارة” لجلب دعم أوروبي هي في أمسّ الحاجة إليه.
وعلى سبيل المثال تصرّ حكومة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على وجوب أن يحاكم مقاتلو تنظيم داعش الذين يحملون الجنسية الفرنسية في الدول التي قاتلوا على أرضها وقبض عليهم فيها، ذلك أنّ القوانين الفرنسية والقيم الحقوقية المطبّقة في البلد تفرض الكثير من الشروط والضوابط الصارمة التي من شأنها أن تعقّد عملية محاكمة العائدين من ساحات القتال بالخارج، لاسيما النساء اللاتي يصطحبن أطفالهنّ المولودين في سوريا والعراق والمفتقرين للوثائق والأوراق الثبوتية.
ويخشى طيف واسع من الأوروبيين من اختلاط المنتمين لداعش بأفراد المجتمعات الأوروبية سواء داخل السجون أو خارجها مما قد يكون سببا في نشر الأفكار الجهادية المتشدّدة.
وما يزيد معالجة ملف مخلفات حقبة داعش في العراق تعقيدا حالة النقمة الشعبية الكبيرة على التنظيم بفعل دمويته وممارساته البشعة ضدّ سكّان المناطق التي احتلّها، وشيوع الرغبة في الانتقام من كل ما يمتّ للتنظيم بصلة حتّى وإنّ تعلّق الأمر بأقارب لعناصر قاتلوا إلى جانب التنظيم، فضلا عن زوجات هؤلاء العناصر وأطفالهم.
وكمثال على شيوع النزعة الانتقامية يتحدّث شهود عيان على العشرات من حالات الانتقام من عوائل داعش في مدينة الموصل التي كان التنظيم قد احتلها طيلة ثلاث سنوات واتّخذ منها أحد المراكز الكبرى لـ”خلافته الإسلامية” المزعومة، متسببا لسكانها في مآس غير مسبوقة.
وكشف أحد القضاة العراقيين في وقت سابق عن أمثلة عملية لحالات الانتقام تلك. وذكر حالة أم أحد أفراد تنظيم داعش وشقيقته اللتين قتلتا بمنزلهما في حي الحدباء على يد أحد المتضررين من التنظيم. كما ذكر حالة قتل طفلة صغيرة هي شقيقة عنصر من داعش خلال عودتها من المدرسة بسلاح كاتم للصوت انتقاما لمقتل زوجته وأطفاله على يد التنظيم.
وكان مجلس قضاء الموصل قد أصدر في وقت سابق من سنة 2019 تعليمات بنقل عوائل داعش إلى مخيمات، خشية حدوث عمليات ثأر عكسي ضدهم من قبل المواطنين المتضررين من حقبة احتلال التنظيم للمدينة.
ورغم ذلك تبدو فكرة الانتقام مترسخة لدى عدد من أهالي المدينة، خصوصا مع وجود ثغرات في نظام العدالة بالعراق تقلّل ثقة المواطنين فيه. وعبّرت سيدة ستينية تُكنّى بأم معن مسألة أخذ الثأر والانتقام، قائلة إنّ “ما يصيب عوائل الدواعش اليوم، كان أصاب عوائل أخرى في أحد الأيام، وسبب لها الألم والحزن على فقدان فلذات أكبادها، وهذا هو يوم تبشير القاتل بالقتل ولو بعد حين، وأن دماء الضحايا لن تذهب سدى والعين بالعين والسن بالسن والدم بالدم”.