كريتر نت – العرب
الجدوى من تدوير فكرة قديمة حول حتمية وجود قطبين رئيسيين في الحياة الحزبية المصرية حركت خيوط الجدل بين المراقبين ودوائر صنع القرار، فبينما تشير تلك المساعي بشكل واضح إلى أن السلطات تبدو تائهة بين إشعال وإطفاء المخاوف حول مسألة التعددية، والهدف منها إرسال إشارات إلى الإدارة الأميركية الجديدة، يجد البعض أن ذلك النموذج مجرد انعكاس لطبيعة المشهد السياسي في الدولة، ومفهوم الممارسة الديمقراطية فيها.
عادت فكرة تشكيل حزبين رئيسيين لتطل برأسها في مصر حاليا، وتولى أساتذة في التنظير السياسي من المحسوبين على النظام الحاكم الترويج لها، وجس نبض الشارع والقوى والنخبة السياسية، ما يعني أن الفكرة غير مستبعدة رسميا، وأن هناك شعورا بالقلق من استمرار التجريف الحاصل في الحياة الحزبية، التي تكاد تكون غائبة بصورتها اللامعة، أو مغيبة عمدا.
وجربت الحكومة طرقا عدة لترتيب المشهد الحزبي مع وجود أكثر من مئة حزب لديها رخص قانونية لمزاولة العمل السياسي منذ فترة، ووجدت ضرورة في تقنين هذا العدد الذي لم يستطع أن يقدم حزبا واحدا قادرا على أن يحظى بثقة الجماهير والتفاهم حوله، ويفرض حضوره الشعبي والسياسي.
ووفرت الأمراض التي نخرت جسم الأحزاب المصرية فرصة للحكومة لتدبير المشهد بالطريقة التي أرادتها، وحدثت تدخلات في شؤون القوى الحزبية وانتشرت الخلافات التي تصاعدت في هياكلها، وأسهم عدم القدرة على الاقتراب من الشارع في تمكين الحكومة من السيطرة على مفاصل الأحزاب بالتهديدات والإغراءات.
تآكل الأحزاب السياسية
شهدت السنوات الماضية نقاشات عديدة حول الأحزاب ومصيرها، ولم تفلح في تصدير صورة جيدة، وترسخ انطباع بأن الحكومة فرضت قبضتها، وحددت القوى التي تدور في فلكها، وتلك التي تعارضها بشكل مستأنس، بما لا يتسبب في حدوث مفاجآت سياسية، وضجرت من تحالف 25 – 30 في البرلمان، والذي لا يتعدى النشطاء فيه أصابع اليدين، ولم يكن وجوده في الشارع مؤثرا.
جس نبض الشارع
وتدفقت مياه كثيرة في قناة الظهير السياسي لرئيس الجمهورية، ولماذا لا يكون له ظهير محدد، وتحدث الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في هذا الموضوع بما فُهم منه أن الشعب هو ظهيره، لكن بعض المجتهدين وجدوا أن هذه الصيغة بحاجة إلى قدر من التقنين، فتم اختراع حزب “مستقبل وطن” ليكون ظهيرا ضمنيا للرئيس والحكومة.
ولم يتمكن هذا الحزب من التحول إلى حزب بالمعنى الدقيق، فقد جاءت نشأته “مُعلبة”، وتدحرجت من أعلى إلى أسفل، وليس العكس، وارتكب بعض الأخطاء التي أدت إلى ترسيخ انطباعات سلبية عنه في الشارع، خاصة تلك التي ذكرّت المواطنين بأساليب الحزب الوطني (المنحل) خلال فترة حكم الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، وقامت على شبكة مصالح فقط، ودون مراعاة لأدبيات الحياة السياسية.
ولعبت مجموعة من العوامل دورا مهما في الشعور بعدم الرضاء عن أداء “مستقبل وطن” في انتخابات مجلسي الشيوخ والنواب في الآونة الأخيرة، أبرزها أن الحزب اختار التحالف الانتخابي مع عدد من القوى، التي تتفق مع هواه السياسي، ووجدت مصلحة عاجلة معه، ونجحت قوائمه في المجلسين، وغالبية المرشحين الحزبيين والمستقلين المحسوبين عليه.
وخلفت هذه النتيجة شعورا بالتلفيق السياسي، وأن الجهود التي قامت بها الحكومة لهندسة الانتخابات نجحت ظاهريا، وأخفقت في المضمون النهائي، لأن الحصيلة التي انطبعت في ذهن الجمهور، أن حزب “مستقبل وطن” بات رديفا للحزب الوطني ويعيد إنتاج أخطائه، بل لم يستفد من تجربته القاتمة.
وقد تتسبب هذه الأدوات في أزمات مستقبلا، لأن صمت المواطنين لا يعني “شيكا على بياض”، أو القبول بالواقع بكل ما يحمله من مفارقات وتناقضات، فحملات تبييض وجه “مستقبل وطن” لم تأت بمردود رضائي يضمن حضوره سياسيا وشعبيا، وربما يتحول إلى عنصر مستفز لمشاعر الناس مع إصابة الكثير من المنتسبين إليه بالتضخم المعنوي، الذي أصبح مستفزا لقطاعات عديدة.
قلق سياسي مبرر
شعرت بعض الدوائر المحسوبة على الحكومة بالقلق على المشهد الحزبي عقب نجاح المرشح الديمقراطي جو بايدن في انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة الشهر الماضي، وتحسبت من تقديرات تضع الحريات والتعددية السياسية في مرتبة متقدمة داخل أجندة الإدارة الأميركية الجديدة والتي قد تبدي عدم ارتياحها حيال هيمنة حزب واحد على مقاليد الأمور في مصر.
ورغم كثرة الأحزاب التي وصل عددها إلى ما يقارب من 99 حزبا إلا أنها لا تستطيع المنافسة في الاستحقاقات الانتخابية حتى أن هناك من يذهب إلى توصيفها بأنها أحزاب شكلية، ولا لزوم لها.
وأخذت فكرة وجود حزبين كبيرين تلح على بعض منظري الحكومة في مصر، وخرجت من عندهم لتشق طريقها عبر بعض وسائل الإعلام، وتقوم على افتراض أن حزب “مستقبل وطن” يمثل الحكومة، وأن الحزب الجمهوري ممثل للمعارضة، وعلى كل منهما أن يضم أكبر عدد من الأحزاب تحت جناحيه.
شعور الدوائر المحسوبة على الحكومة بالقلق حيال المشهد السياسي المصري عقب فوز بايدن يدفع إلى تدوير فكرة التعددية
ليس خافيا على المراقبين توقيت طرح الفكرة، فهي جاءت عقب انتخابات مجلسي الشيوخ والنواب، ما يعني أن الحكومة لم تكن مرتاحة للطريقة التي أديرت بها، وربما نجحت تنظيميا، لكنها فشلت سياسيا، وفقا لقياسات الرأي العام، ما يتطلب إعادة تصويب المسارات، ولو بمد جذور الأمل من خلال التفكير في صيغة توحي بالتحفظ على الصورة الراهنة، والرغبة في إدخال إصلاحات سياسية.
كما أن توقيتها، يتزامن مع تحولات بازغة في السياسة الخارجية الأميركية، بما يعزز القناعات بأن القاهرة على يقين أن الإدارة الديمقراطية لن تترك ملف الحريات، ولن تتخلى عن التفاعل معه، ولتحسين الموقف من الضروري زيادة الحراك بطرح أفكار جديدة قديمة، ومحاولة البحث عن حلول، ولو من قبيل الصخب السياسي.
وعندما أراد الرئيس الراحل أنور السادات تحريك المياه السياسية المتجمدة في منتصف السبعينات من القرن الماضي، طالب بتشكيل تيارين أحدهما يمثل اليمين، والآخر يمثل اليسار، ثم تطورت الفكرة إلى ظهور أحزاب عديدة، بينها الحزب الديمقراطي الحاكم، ونحو خمسة أحزاب متفاوتة في القوة والتأثير تدور في فلك المعارضة.
وكانت هذه الفكرة مقبولة في حينه، في ظل تكلس حزبي استمر أكثر من عقدين في مصر، لكنها لم تتطور بالصورة الكافية، ولم تنتج مشهدا حزبيا جادا يقوم على المنافسة السياسية، وانتهى الأمر بأن استمر الحزب الوطني خلال عهد مبارك قابضا على الدفة الحزبية، وكان سببا رئيسيا في سقوط حكمه.
تدوير فكرة سابقة
الجهود التي قامت بها الحكومة لهندسة الانتخابات نجحت ظاهريا وأخفقت في المضمون النهائي
بعد عقود طويلة، يعود البعض إلى إعادة تدوير الفكرة السابقة، والإصرار على الأخذ بها، وطغى الجهل بتشبيه طرحهم بما يفوق قدرات الشعب المصري، فقد أرادوا وجود حزبين على غرار الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة.
وإذا تركت هذه المفارقة الغريبة لحال سبيلها، لأن مناقشتها تمثل عبثا سياسيا، فإن الحياة الحزبية بمصر وما تنطوي عليه من جمود لن تسمح بإفراز حزبين كبيرين أو صغيرين، فالتعامل مع مستقبل وطن على أنه حزب كبير، ولا يتجاوز عمره السياسي ست سنوات، يهين الحياة الحزبية الطويلة والممتدة في مصر لنحو قرن ونصف، ومرت بأطوار غزيرة ومختلفة.
ويقول متابعون إن هذا الطرح يصمم على تجاهل المعطيات السياسية العميقة، والتي سئمت عمليات الترقيع، ويتغافل التجارب السابقة وعبرها ودروسها، ويتعامل مع نشأة الأحزب بطريقة فوقية صرفة، من دون مراعاة للمكونات الشعبية التي تلعب الدور المهم فيها، ومن خلال دروبها ودهاليزها تتشكل الأحزاب.
ويجمع مراقبون على أن الطريق إلى الأحزاب واضح المعالم، ولا يجب القفز عليه، فمن يريدون حياة منتعشة للأحزاب عليهم إطلاق الحريات أولا، وهنا يصطدم الأمر بذريعة أن مصر غير جاهزة تماما للديمقراطية والتعددية مكلفة، ففي ظل ارتفاع نسبة الأمية وكثافة تأثير تيار الإسلام السياسي الكامن في قاع المجتمع، يمكن أن تطفو عناصره مع كل هبة حزبية نزيهة، وتدخل البلاد موجة جديدة من الفوضى.
الزج بحزب مستقبل وطن على أنه من يقود المعارضة أمام الحزب الوطني الحاكم قد يتسبب في أزمات وربما يتحوّل إلى عنصر مستفز
ويشعر النظام المصري بأن ما يجري في الفضاء الحزبي تنقصه الكثير من المحددات والضوابط، إلا أنه يخشى أن يستكملها بصورة صحيحة من مغبة ما تحمله من انعكاسات سلبية على الجدران والقلاع والحصون التي أقامها وأتاحت له التحكم في مفاصل الأمور بارتياح، ويخشى أيضا أن يؤدي التمادي في الراحة إلى تطورات مزعجة داخليا وخارجيا.
ولذلك تفتقر فكرة المطالبة بحزبين في مصر للنجاعة السياسية، وتؤكد التصميم على القيام بالتفافات غير جديرة بالتطبيق بهدف الإيحاء بأن هناك حراكا، لكنه ممسوخ ولن يقود إلى نتيجة مرضية لأحد، فالخط المستقيم، الكامن في إطلاق الحريات، أقصر الطرق للوصول إلى حياة حزبية شفافة وناجحة وجذابة، كي يتبلور المشهد المصري على أساس أمواجها، صعودا أو هبوطا، ويتناسب مع تطلعات القاهرة السياسية