كتب : أبو بكر العيادي
تجتاح الشبكة الإلكترونية والمواقع الاجتماعية مقالات وفيديوهات متستّرة بالعلم والمعرفة، وتبث معلومات عن جائحة كوفيد – 19، وهي في الواقع مدفوعة الأجر، تقف وراءها لوبيات وشركات كبرى لا غاية لها سوى تحقيق مصالحها ولو فَنِيَ الكون. وقد شهدنا مثيلاتها منذ أواخر القرن الماضي تنشر الأكاذيب حول صناعة التبغ والطاقات الجوفية والمبيدات الحشرية، وتنفي خطورة منتجاتها، ولكنها صارت اليوم تسعى إلى الاستيلاء على سوق المعلومة العلمية، وتستهدف كل مستخدمي الإنترنت.
من منّا لم تصادفه على صفحته بفيسبوك أو على حسابه الخاص دراسات موثقة وفيديوهات لعلماء وأطباء وأكاديميين ومثقفين وصحافيين وحتى وزراء سابقين ينفون من خلالها كل ما يروّج عن جائحة كوفيد – 19، ويدّعون الكشف عن الحقائق المغيبة.
الشركات الكبرى لم تعد تكتفي باللوبيات ولا بأساليبها القديمة في استمالة نواب الشعوب ووزراء الحكومات لتمرير قوانين تيسّر رواج بضائع الشركات التي تمثلها، بل أوجدت وكالات متخصصة مهمتها الوصول إلى أستاذ البيولوجيا في المعهد، ومبسّط العلوم والمعارف، والمدوّن، وصاحب الحساب الخاص بيوتيوب، وتطويعهم لخدمة أهدافها، بعد أن نجحت في تحويلهم إلى ناشري رسائلها، وتقديمهم على أنهم “حراس العقل”. وهو عنوان كتاب ساهم فيه ستيفان فوكار وزميلته بجريدة لوموند ستيفان هوريل، اللذان ساهما من قبل في فضح انحراف شركة مونسانتو الأميركية، إلى جانب عالم الاجتماع سيلفان لورانس، الأستاذ المحاضر بمدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية بباريس.
التغيير التكتيكي
صناعات عملاقة لا يوقفها شيء
ثمة قائلون بنظرية المؤامرة، ينددون بأقوياء هذا العالم دون أن يملكوا أدلة على مزاعمهم، مثل مخرج الشريط الفرنسي “سَطو” الذي أثار استياء كبيرا في الأيام الأخيرة، لتبنّيه أباطيل وأضاليل لا يملك عن صحتها أيّ حجة.
وثمة أيضا متآمرون أقوياء، نصّبوا أنفسهم حرّاسا للعقل، يقضون أوقاتهم في ملامسة أكبر قدر ممكن من السذّج لإقناعهم بما يزعمون أنها حقائق لا تقبل الدّحض.
قلة من مدققي الحقائق والمعلومات فقط يجهلون أنهم يضخّمون ويروّجون عناصر الخطاب التي تجمّعها وكالات علاقات عامة، ولكنّ نفرا من رجال العلم والثقافة يساهمون عن دراية في ترويج محتوى مشروع سياسي يموّله أرباب المال والصناعة، الذين تجمعهم أيديولوجيا مناهضة البيئة والحركات النسوية، ليشكلوا فئة تستهين بالحقيقة، باسم العلم، أي أن “الظلامية عادت، ولكننا اليوم أمام أناس يحتكمون للعقل” كما قال بورديو.
صحيح أن تسخير الشركات العملاقة العِلمَ لغايات اقتصادية وسياسية سبق إثارته وفضحه، ولكن هذا الكتاب يبين بالأدلة والبراهين الدرجة التي بلغها التلاعب بسلطة العلم للمزيد من التأثير، منذ عمليات “تجار الشكّ” الذين كانوا يموّلون في التسعينات دراسات تنكر مخاطر التدخين والمواد الكيمياوية والمشروبات الغازية.
والمؤلفون يستكشفون الحدود الجديدة لعمليات اللوبي ودرجات المراوغة التي بلغتها استراتيجيات الشركات العملاقة في الدفاع عن مصالحها، باستعمال العلم وسيلة للتضليل. لم يعد التأثير على أصحاب القرار يحتاج إلى دراسات تستند إلى حقائق علمية، بل صار يمرّ عبر ادّعاء الدفاع عن العلم كحقّ عام، فالوقوف ضد المبيدات الحشرية واستعمالاتها الراهنة، والتشكيك في استخدام التكنولوجيا الحيوية ونقد الصناعة النووية باتت في رأيهم معارضةً للعلم، وعودة إلى اللاعقلانية، وتأييدا للظلامية.
الكتاب يصف بالتدقيق كل الشبكات الاجتماعية والثقافية والمالية والعلمية التي تستند إليها هذه الهجمة “العقلانية المحافظة
وبما أن استراتيجيا “صناعة الشك” ولّى أمرها، فقد وُضعت استراتيجيا جديدة تتمثل في أن تتولّى هيئة علمية تقديم دراسات لحرفائها توصف بكونها معارف تحظى بتأييد العلماء، ولا يمكن بالتالي أن يأتيها الشك.
وقد نجحت هذه الاستراتيجيا في بريطانيا حيث تم بعث مركز الإعلام العلمي عام 2002 كشكل جديد من وكالات الأنباء، شبيه بأكاديمية العلوم في فرنسا، بتمويل من القطاع الخاص، وتخطيط من مجموعة من المدافعين عن التقنية العلمية والصناعة، فصار مرجعا في المسائل العلمية والتكنولوجية، يصدر أحكاما كالقول الفصل.
وقد عهد بإدارة هذا المركز لفيونا فوكس التي كانت تنتمي كبقية واضعي المشروع إلى الحزب الشيوعي الثوري، ومجلة “الماركسية الحية” التي يصدرها، ولكنها كسائر رفاقها، يلتقون حول خطابٍ مناصر للتكنولوجيات مناهض للإيكولوجيا، ونقدٍ صارم للسياسات الاجتماعية والصحية.
هذا التغيير التكتيكي يسمح ببعثرة الآثار السياسية، فبعد أن كانت الأفكار العقلانية التي تربط العلم بالتطور من أسس اليسار، صارت اليوم تخضع لأجندة محافظة أو رجعية، وتندرج في ثنائية مضللة بين عالَمِ التصنيع والمخابر المبشِّرِ بحياة أفضل، والحياة البدائية على طريقة “أميش” (طائفة مسيحية منغلقة ترفض التقدم وتعيش عيشة بدائية)، وبين تضخم الأخبار الكاذبة القائلة بنظرية المؤامرة، والانفعالات اللاعقلانية.
ففي فرنسا مثلا، كانت مجلة “العلم والعلوم المزعومة”، التي تصدر عن الجمعية الفرنسية للمعلومات العلمية، تخصص حتى التسعينات أكثر من نصف مقالاتها لفضح العرّافين ودارسي الأجسام الطائرة المجهولة الهوية والتحيل بخصوص البيوت المسكونة، صارت تنشر مقالة من اثنتين تهدف إلى طمأنة الجمهور الواسع حول التطبيقات الصناعية للتكنولوجيات الجديدة، وتتهجم صراحة على المدافعين عن البيئة ونقاد التكنولوجيات.
وقد دأبت هذه المجلة منذ مطلع الألفية على ترويج عبارة “التشكيك في تغيّر المناخ” دون أن تذكر أنّ أول من استعمل المصطلح في فرنسا تحت اسم شارل مولر، الذي تقدمه كمحرر علمي، هو في الواقع شارل شامبيتي، رئيس تحرير سابق لمجلة “إيليمان” (عناصر)، لسان اليمين الجديد المتصلب الذي يرأسه ألان بونوا.
استغلال السلطة العلمية
نظرية المؤامرة
من بين من أسماهم المؤلفون “كتائب العلم”، نجد صناعيين ومنظماتهم مثل اتحاد صناعات حماية النبات، وتوابعها كغرفة التجارة أو الفيدرالية القومية لنقابات المستثمرين الفلاحيين، وخبراء في شتى الاختصاصات، ومراكز بحوث مثل مؤسسة التجديد السياسي (فوندابول) ومعهد سابينس، ومثقفين أبرزهم عالم الاجتماع جيرالد برونر، وصحافيين أمثال بيغي ساستر، وجيرالدين فوسنر، وإيمانويل دوكرو، وموظفين سامين أشهرهم لوران ألكسندر.
ولكن هذه الكتائب تضمّ أيضا رجال علم وعلماء اجتماع، مثلما تضم طلبة ومدونين وجمعيات لهواة العلم يروّجون عن حسن نية ما تصدره تلك الهيئات العلمية المدجّنة. ذلك أن الاستراتيجيا الجديدة تعمل عمل وكالات اتصال عامة، غايتها الارتكاز على المواطنين العاديين لدفعهم إلى المساهمة في مشروع سياسي لا يعرفون طبيعته ولا مراميه.
ولئن كان استعمال المواطنين العاديين كسند لاستراتيجيات التأثير ليس بجديد، فإنه وجد في المواقع الاجتماعية وسيلة للانتشار على نطاق واسع. والغاية هي منافسة كنفيدرالية الأعراف الكلاسيكية من خلال خلق تجمّع مواز يشرف عليه مكتب خدمات استشارية للتشكيك في كل ما لا يخدم مصالح أصحاب هذه السياسة من جهة، ومن جهة ثانية فرض أمر واقع باسم العلم، كما حصل في كل الخلافات الاجتماعية التقنية حول الغلايفوسات والمبيدات الحشرية والطاقة النووية والكائنات المعدلة وراثيّا.
والكتاب يفنّد في مواقع كثيرة الحجج التي يستعملها مناهضو “مبدأ الحذر”، أولئك الذين ينتقدون “النفور من الخطر” وهم بعيدون عمن هم أكثر عرضة له. ومنها الادعاء بأن التعالق ليس السببية، وهو مبدأ علمي صحيح ويعتبر ركيزة من ركائز البحث العلمي، ولكن يقع تحويله هنا للطعن في الروابط بين التعرض للمواد وبعض الأمراض، استنادا إلى أن كل دراسة عن الأوبئة لا يمكن أن تثبت إلا التعالق، أي الارتباط المتبادل بين مادة وآثارها. فهم يؤكدون أن ثمة فرقا بين التخوف والخطر بخصوص الغلايفوسات مثلا، ويدعون أن المقدار هو الذي يمثل سمّا وليس المادة في حدّ ذاتها.
الصناعة أضرت بالبيئة
هذه الحجة وقع الترويج لها لاحقا عبر إذاعتي فرنسا الثقافية وفرنسا الإخبارية من خلال فيديو يزعم واضعوه أنه خضع لتدقيق الحقائق، يبين فيه هيرفي لوبار، الناطق الرسمي باسم الجمعية الفرنسية للمعلومات العلمية، أن تقييم الخطر، الناجم عن شرب لتر من الغلايفوسات، لا يمكن أن ينظر إليه نظرة تخوف وارتياب، ما دام الفرد لا يمكن أن يحتسي مثل تلك الكمية. وبذلك تخلق حصةٌ صحافية تدّعي تدقيق الحقائق تضليلا في أوساط الشعب، بطريقة تشبه ديستوبيا أورويلية.
كما يبين الكتاب كيف يتستر مروجو هذا “العلم الصلب” المرتبطون ارتباطا وثيقا بمصالح الصناعيين خلف أسماء مضللة مثل “المعهد الدولي لعلوم الحياة” الذي يحمل اسم منظمة بحوث علمية والحال أنه لوبي صناعي يجمع تقريبا كل المصانع الكبرى للكيمياويات الزراعية. أو “مجلة الأطباء والجراحين الأميركيين” التي هي في الحقيقة مجموعة ضغط متحدّرة من اليمين المتطرف الأميركي، ومن بين مزاعمها أن الإجهاض يزيد من مخاطر سرطان الثدي، وأن منع الـ”دي.دي.تي”، تحت ضغط حماة البيئة، تسبّب في موت آلاف الأطفال بالملاريا، والحال أنّ استعمالها في الفلاحة هو الذي مُنع في الولايات المتحدة منذ السبعينات، قبل أن يسري المنع في شتى أنحاء العالم، بينما بقي ذلك المبيد يستعمل في مكافحة الحشرات الناقلة للأمراض.
والأخطر منها حكاية هستيريا الخوف من العلاج الكيمياوي، التي تقف وراءها خلية تفكير ليبرتارية أميركية تعرف باسم “معهد المشاريع التنافسية”، وقد تسربت إلى فرنسا عبر مجلة “فوزيون” (التحام) النسخة الفرنسية لفصلية أميركية بعنوان “علوم وتكنولوجيا القرن الحادي والعشرين” أسسها ليندون لاروش، أحد الوجوه البارزة في اليمين المتطرف الأميركي. غير أن المقالة التي ألّفها عالم حشرات، وهو في الواقع مستشار لدى منظمات – واجهة يموّلها صانع السجائر فيليب موريس، لم تتوصل إلى فرض سرديتها الكاذبة في فرنسا، فاستعانت بالحركة العقلانية الفرنسية ومجلتها “العلم والعلوم المزعومة”، وكلتاهما من أهمّ ركائز ترويج تلك المزاعم، للتأثير في الأنسيين الذين راعهم مصير أطفال العالم الثالث.
هناك نفر من رجال العلم والثقافة يساهمون عن دراية في ترويج محتوى مشروع سياسي يموّله أرباب المال والصناعة
والكتاب يصف بالتدقيق كل الشبكات الاجتماعية والثقافية والمالية والعلمية التي تستند إليها هذه الهجمة “العقلانية المحافظة”، التي تتمركز داخلها “هومينيس” وهي فرع من شركة إعادة تأمين أسّسها دنيس كيسلر، مدير مساعد سابق بمنظمة الأعراف يملك واجهة عريضة من الناشرين مثل لوبوميي، ومنشورات الأوبسرفاتوار، والمنشورات الجامعية، ونشريات علمية مثل “من أجل العلم”، وخاصة “المخ والنفس” التي جعلت من علوم الجهاز العصبي والوراثيات حقلها المعرفي المفضل، لنشر ما اصطلحت على تسميته بـ”إيفوبسي” أو التطور السيكولوجي، وغايته نقد الأفكار النسوية والزعم بأن المرأة خلقت لتكون خاضعة لهيمنة الرجل.
وليس أدلّ على تهافت تلك الفئة التي تدّعي العلم والمعرفة من موقفها من الجائحة، فقد استهان بها رؤوسهم مثل غاسبار كونينغ، مدير النشر بدار الأوبسرفاتوار، وجيرالد برونر أستاذ علم الاجتماع بجامعة ديدور بباريس، ثم قللوا من خطورتها قولا وكتابة في أكثر المواقع انتشارا، ووجدت أقوالهم وكتاباتهم لدى الذين أسلفنا ذِكرَهم بوقا يردّد مزاعمهم، عن وعي وغير وعي.
يقول المؤلفون في خاتمة هذا الكتاب، الذي يعتبر بحثا جادّا عن التضليل العلمي، إن كان لجائحة كوفيد – 19 فضل، فهو أنها أماطت اللثام عن حقيقة استغلال الليبراليين، المتسترين بالعقلانية، للسلطة العلمية ونفوذها.
نقلا” عن العرب