اسمها وحده جمع سكارلت وكليوباترا وبلانش وآنا كارنينا والليدي هاملتون
كتب : إبراهيم العريس باحث وكاتب
ليلة الثامن من يوليو (تموز) 1967 أطفأت كل المسارح اللندنية أنوارها لعدد من الدقائق. وهو أمر لا تفعله مسارح العاصمة الإنجليزية العريقة إلا في مناسبات نادرة ذات طابع استثنائي. لكنها فعلته تلك المرة كنوع من التكريم الأسمى لامرأة في الثالثة والخمسين كانت رحلت الليلة الفائتة عن عالمنا. والحقيقة أن تلك المرأة كانت تحمل العديد من الأسماء “كليوباترا، آنا كارينينا، ليدي هاملتون”، ولكن خصوصاً بلانش دوبوا ثم بخاصة أكثر “سكارلت أوهارا”. لكن المسارح اللندية لم تقم بذلك التصرف من أجل أي من الأسماء. بل فقط لأن السيدة الراحلة كانت قبل ذلك بثلاث عشرة سنة قد فضلت أن تعود لتمثيل كامل الريبرتوار الشكسبيري على خشبة عاصمة صاحبة الجلالة بدلاً من أن تغرق في تلك اللعبة السينمائية المغرية… اللعبة التي أعطتها كل تلك الأدوار جاعلة منها نجمة النجمات، لا سيما حين جعلتها الصدفة وإرادة رجل واحد تلعب في عام 1939 ذلك الدور السينمائي الذي كانت تتطلع إلى لعبه عشرات من كبيرات نجمات هوليوود وكلهن من الأميركيات الأصيلات وبعضهن من الجنوب الذي هو مسقط رأس سكارلت أوهارا.
في هوليوود لأسباب خاصة
ولكي لا يبدو الأمر وكأننا نصيغ أحجية، لا بد أن نسارع هنا إلى القول، إن الراحلة في ذلك اليوم والتي نتحدث عنها هنا هي فيفيان لي، الإنجليزية المولودة في الهند والتي كانت تعيش في لندنها العريقة في ظل هوسها بالمسرح، ثم سافرت إلى أميركا لمجرد أن تلحق حبيبها لورانس أوليفييه كمجرد امرأة عاشقة يعتقد حبيبها نفسه أنها من الضعف بحيث تصلح أكثر ما تصلح للحياة الزوجية، لكنها ستكون هي نفسها التي سيقول عنها ونستون تشرشل بعد حين إنها “امرأة قُدّت من الإسمنت المسلح” في وقت سيشكو فيه أوليفييه من أنه “الرجل الذي تزوج سكارليت أوهارا” مصححاً حكمه السابق.
والحال أن هذه الحكاية كلها التي لا تحمل سوى عنوان واحد هو “فيفيان لي” تروى في إحدى سهرات نهاية هذا العام التلفزيونية في فيلم كان من الطبيعي أن يحمل عنوان “فيفيان لي ذهبت مع الريح”. ولكن سيكون من الخطأ هنا اعتبار أن ذلك الفيلم الأسطوري هو ما قضى عليها. الفيلم كشف لها بالأحرى كل ما كان خبيئاً في داخلها، ولعل ذلك ما أرعبها فتراجعت لاجئة إلى شكسبير وسط تصفيق محبي المسرح وأولئك الذين كانوا يعتبرونها حينها أجمل امرأة في إنجلترا.
لحظة هوليوودية عجائبية
ولنعد هنا إلى تلك اللحظة الهوليوودية التي لا تنسى. ففي ذلك الحين كان ما لا يقل عن عشر من نجمات هوليوود الكبيرات يتطلعن إلى لعب دور سكارليت أوهارا. فالدور الرئيس في فيلم “ذهب مع الريح” الذي كان المنتج سلزنيك ينوي تحقيقه كان دوراً من ذهب، من شأنه أن يؤمن لمن سيقيض لها أن تؤديه، مجداً هوليوودياً ما بعده مجد. ومن هنا راحت المناورات تتكاثر وراحت كبيرات النجوم، ومن بينهن كاترين هيبورن وبيتي دايفز، يرضين بأن تجرى لهن اختبارات تجرى عادة للمبتدئات، وبدأت التدخلات والحملات الصحافية، وصارت عملية ترشيح فلانة أو غيرها للدور أشبه ببورصة تتحدث عنها الصحافة يومياً. في ذلك الحين كانت كل الاحتمالات واردة، وكل التخمينات مطروحة، باستثناء احتمال واحد، وهو أن يعطى الدور لإنجليزية صبية لم يكن أحد في طول أميركا وعرضها يعرف عنها شيئاً. إنجليزية كانت، على أي حال، تزور الولايات المتحدة الأميركية بما يشبه الصدفة، راكضة وراء الفنان لورانس أوليفييه الذي كانت عهد ذاك على علاقة معه، ستنتهي في العام التالي بزواج مثالي ستظل الصحف تتحدث عنه كزواج سعيد طوال عقود طويلة مقبلة من الزمن قبل أن تعصف به العواصف مقتلعة فيفيان في طريقها.
إذن، بما يشبه الصدفة أو المعجزة الهوليوودية الصغيرة تحولت فيفيان لي إلى سكارليت أوهارا، لتصبح بعد عرض الفيلم واحدة من أشهر نجوم السينما في العالم. صحيح أن ذلك الدور لم يعطها كل الخير الذي كان مأمولاً منه أن يعطيها، لكنه أغدق عليها شهرة ووفر لها مكانة جعلتها تتعامل تعامل الند مع زوجها ورفيقها لورانس أوليفييه الذي كان، حتى ذلك الحين، يلعب دور النجم الكبير في مقابل حبيبته ذات المكانة الصغيرة، فإذا به منذ “ذهب مع الريح” يضطر لأن يلعب دور الحبيب في مقابل نجمة عمره الكبيرة.
أسيرة سكارلت
قبل “ذهب مع الريح” كانت فيفيان لي معروفة كممثلة مسرح في لندن، على الرغم من أنها مثلت أدوار البطولة في عشرة أفلام. وبعد “ذهب مع الريح” صارت فيفيان لي تعرف باسم سكارليت أوهارا، وصارت أسيرة لذلك الدور على الرغم من أنها مثلت أدواراً أساسية في ثمانية أفلام أخرى، أدوار كان من شأنها لولا طغيان دور سكارليت أن تخلد في تاريخ السينما وتخلد صاحبتها، ومنها على وجه الخصوص دور كليوباترا في “قيصر وكليوباترا” ودور “بلانش دوبوا” في “عربة اسمها اللذة” من إخراج إيليا كازان، ودور “الليدي هاملتون” في فيلم عن الجنرال نيلسون، كتب ونستون تشرشل حواراته كما ذكرنا هنا قبل أيام. لقد كانت فيفيان لي رائعة، مثلاً، في دور “بلانش” إلى درجة أن تنيسي ويليامز، صاحب المسرحية التي اقتبس إيليا كازان الفيلم عنها. لم يتوان عن إبداء إعجابه ودهشته الشديدين وهو الذي كان معروفاً بأن “العجب لا يعجبه”.
كان ذلك، بكل وضوح، لأن فيفيان لي لم تكن نجمة هوليوودية بالمعنى المعروف للكلمة. كانت بالأحرى ممثلة كبيرة، ترعرعت في أحضان المسرح الكلاسيكي البريطاني، واعتبرت مرورها على الشاشة صدفة سعيدة لا أكثر، مصرة دائماً على أن وجودها الأساسي كفنانة هو وجودها على المسرح أولاً وأخيراً.
حتى السوفيات عشقوها
فيفيان لي التي رحلت عن عالمنا معزولة مريضة وهي في الرابعة والخمسين من عمرها، وكانت قد طلقت شريك عمرها لورانس أوليفييه قبل ذلك بخمسة أعوام، كانت تقول دائماً، إن الحلم الهوليوودي لم يكن ليخطر على بالها لولا صدفة اختيارها لدور سكارليت. وكذلك كانت تقول، إنها لم تحلم أبداً بأن تحصل على جائزتي أوسكار، ولا بأن تصبح في الاتحاد السوفياتي، مثلاً، نجمة النجوم، ليس بسبب دور سكارليت هذه المرة بل بسبب دورها في فيلم “جسر واترلو” الذي أغرم السوفيات به كثيراً. وكان يحلو لفيفيان أن تتندر قائلة، إنها لئن كانت تشعر في أميركا أنها سكارليت، وفي الاتحاد السوفياتي أنها بطلة “جسر واترلو”، فإنها في بريطانيا كانت تشعر دائماً أنها زوجة لورانس أوليفييه لا أكثر.
سبعة أعوام من العذاب
ولدت فيفيان لي في دارجيلنغ في الهند في 1913، وبدأت عملها السينمائي، بعد بدايات مسرحية موفقة، في 1934 حين قامت بالدور الأول في فيلم “الأمور تتطلع إلى الأعلى” إلى جانب لورانس أوليفييه. ومنذ ذلك الحين تواكب عملها السينمائي مع عملها المسرحي، لكنها في السينما كانت تعطى على الدوام أدوار الفاتنة التي تعرف كيف تغوي الرجال. وكان هذا يدهش فيفيان كثيراً فهي التي كانت تقول، إن كل ما فيها يقف بالتضاد مع تلك الشخصيات التي ترسم لها. كانت بالأحرى تجد نفسها في شخصية سكارليت المرتبكة وذات الإرادة القوية تجاه ورطة الحياة، في آن، غير أن رأيها في نفسها لم يحل دون إعطائها أدواراً تغوي فيها تشارلز لوتون (في “سانت مارتن لين”) أو كونراد فيدت (في “رحلة معتمة”) أو أدوار إغواء خالدة مثل “آنا كارنينا” وغيره. وكان هذا على أي حال خلال النصف الأول من مسارها، أما خلال النصف الثاني، فإن معظم الأدوار التي كانت تعطى لها كانت أدوار نجمة تأفل، كما في “البحر الأزرق العميق” و”ربيع السيدة ستون”، وبخاصة في “سفينة المجانين” الذي كان في عام 1960 آخر أفلامها، ولم تعش بعده سوى سبعة أعوام من العذاب. قبل انطفائها وانطفاء أنوار المسارح اللندنية تكريماً لها وحزناً على رحيلها.
نقلا” عن أندبندنت عربية