كتب – هشام النجار
بصحبة حراسة مشددة مشكّلة من قوات الشرطة وعناصر من وحدة مكافحة الإرهاب، عاد زعيم الجماعة الإسلامية الإندونيسية السابق أبوبكر باعشير إلى منزله داخل حرم معهد المؤمن بمدينة سوكوهارجو في محافظة جاوا الوسطى، قادمًا من سجن غونونغ سينجار، بعد الإفراج عنه يوم الجمعة الثامن من يناير الجاري.
ويغري إطلاق سراح باعشير البالغ من العمر 82 عاما، بعد أن قضى مدة عقوبته بالسجن 11 عامًا على خلفية قضية التدريبات العسكرية لتنظيم القاعدة بمحافظة أتشيه، لتوظيفه سياسيًا وتوصيل رسائل عديدة في أكثر من اتجاه.
سبق باعشير البغدادي زعيم تنظيم داعش في فكرة طرح نفسه كخليفة للمسلمين وكقائد للجمهورية الإسلامية الإندونيسية عام 1945، حيث طرحها كمشروع إسلامي بديل عن النظام القائم آنذاك. وتوبته عن مبايعة داعش بعد اعتناق فكره لأربع سنوات كانت رسالة للواقعين تحت تأثير الدعاية الداعشية في بلاده بأن يتمهلوا وألا يتسرعوا، وأن يتعلموا من تجربة الشيخ الهرِم.
الجمهورية الافتراضية
حسابات جاكرتا في إطلاق باعشير تتعلق في هذا التوقيت بزوال خطره خارج السجن، حيث فقد زعامته للتيار الجهادي ولم يعد عناصر الجماعة الإسلامية ينظرون إليه كرمز
رحلة طويلة بدأها شابٌ قليل المعرفة يملأه الحماس وحب الظهور والزعامة ملقيًا خطبة في معهده تضمنت تحريم تحية العلم وترديد النشيد الوطني، وصولاً إلى تأسيس منهج الجماعة الإسلامية القائم على رفض المبادئ الخمسة الأساسية في الدستور الإندونيسي، وتمثل فلسفة الدولة بعد الاستقلال، إلى إعلان جمهورية إسلامية لا تدين بالولاء والطاعة للسلطة القائمة، يتلقى زعيماها أبوبكر باعشير وعبدالله سونكار بيعة الموالين لها بمدينة سولوا في جاوا الوسطى.
ها هو نفسه الآن بعد أن جرب تطبيق هذا المنهج التكفيري وطرح جمهورية إسلامية موازية من خلال نسخ شتى من التنظيمات والحركات بداية من دار السلام وبعدها جماعته، الجماعة الإسلامية، ودولته الموازية الافتراضية التي أطلقها وانتهاءً بنموذج داعش في الشرق الأوسط، تصبح تجربته دلالة على ضحالة تلك المناهج التي تكفر المجتمع والحكام، وتعتبر أن المسلمين فقط هم المنضوون تحت لواء الجمهورية الإسلامية الافتراضية.
توبته عن مبايعة داعش بعد اعتناق فكره لأربع سنوات تعدّ رسالة للواقعين تحت تأثير الدعاية المتطرفة في بلاده بأن يتمهلوا وألا يتسرعوا
تقلبه في كل الجماعات على الساحة بعد أن استقى من فكر الإخوان وتشرب من الجماعة الإسلامية المصرية، وتتلمذ على يد قادة القاعدة وسعى للتسلق على كتف داعش بعد فشل مشروع دولته في إندونيسيا، علامة على فشل مجمل تلك التنظيمات في أن تنهض بمشروع أكبر من خبراتها وقدراتها وتصوراتها.
في ظل بحث الجماعات الجهادية في الشرق الأوسط الآن عن ساحات بديلة ورهان قادتها على دول جنوب شرق آسيا، كوجهة مثالية ومفضلة للإرهاب العالمي، تحرص السلطات الإندونيسية على تشجيع النزوع لأفكار المواطنة والانتماء للدولة بغرض تجفيف منابع تجنيد الجماعات العابرة للحدود بالنظر لاحتضان إندونيسيا لعدد من الجماعات التي تتبنى الفكرة الأممية، مثل حزب التحرير الذي تم حظره عام 2017، ويمثل بيئة خصبة لاستقطاب مقاتلين لداعش وغيره. وينصب اهتمام تنظيم الدولة حاليًا على إتمام حلقة حظره بين أفغانستان والفلبين وإندونيسيا وماليزيا، وهي نفس خارطة نفوذ القاعدة سابقًا للهيمنة على إرثه ومراكز نفوذه التي شكلت مصدر خطورته.
لذلك يعد باعشير نموذجا مثاليا لدى السلطات في إندونيسيا لتقديمه الآن للشباب، خاصة مع عودته بعد إطلاق سراحه لإلقاء دروسه على طلابه في معهده المؤمن بمدينة سوكوهارجو بمحافظة جاوا الوسطى، ليعلمهم أن هذا المشوار الطويل عدمي فارغ ولا جدوى منه.
سوف يجلس باعشير أمام طلابه ليحكي لهم تجربته ويعرض مسيرته ويقول إنه جرّب كل شيء، وتمرد وكفّر وفجّر وخطط ونفذ وبُويع وبايع، وفي الأخير وجد كل هذا سرابا في سراب، وأن الوطن هو البداية والنهاية، وهو الإسلام، وهو المنقذ من الضلال والبيت والمأوى.
ويقول القيادي بمجلس علماء إندونيسيا الشيخ مجاهدين نور، إن السلطات الإندونيسية تحرص على توظيف إطلاق سراح باعشير كدليل على احترام الحكومة لحقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية. وتتعلق حسابات جاكرتا في إطلاق باعشير في هذا التوقيت بزوال خطره خارج السجن، حيث فقد زعامته للتيار الجهادي ولم يعد عناصر الجماعة الإسلامية ينظرون إليه كرمز.
البراغماتي المتلون
فكرة طرح نفسه كخليفة للمسلمين وكقائد للجمهورية الإسلامية الإندونيسية تعود إلـى عام 1945، وقد سبق بها باعشير البغدادي زعيم تنظيم داعش، حيث طرحها كمشروع إسلامي بديل عن النظام القائم آنذاك
وُلد باعشير في العام 1938، والتحق بمعهد دار السلام وتخرج من كلية الدعوة بجامعة الإرشاد بمدينة سولو، ثم أسس معهد المؤمن عام 1972، وأطلق من هناك الفتاوى بتحريم تحية العلم والنشيد الوطني قياسًا بالشرك. وعُرفت عنه البراغماتية والرغبة في الزعامة منذ إطلاقه لمشروعه التكفيري المسلح في إندونيسيا ومحيطها بجنوب شرق آسيا، بمساعدة رفيقه عبدالله سونكار.
لم يكن باعشير حافظًا للقرآن الكريم، مستواه في تحصيل العلم الشرعي أقل من المتوسط، غير أنه يتحدث العربية. وبعد أن ألحق بمعهده مسجدا ليخطب به، نجح في جذب الكثيرين ليس لبراعته العلمية، إنما عبر توظيف هيئته وحنوّه على أتباعه والمبالغة في التودد إليهم عامدًا إلى إظهار الحب للناس العاديين لكي يقبلوا على جماعته.
عندما كان يأخذ البيعة لجماعته في مدينة سولو، كان يعتمد على إظهار الشفقة بالناس بشكل خادع كأنهم أمام نسخة من المهاتما غاندي، الذي يناضل من أجل الفقراء وضد الاستعمار رغم أنه يبطن تكفيرهم.
مول باعشير نشاطه الخاص بمركز نفوذه بجزيرة جاوا من خلال لعبة خدعت الأغنياء، حيث روج أنه فصيل مقاوم ضد بقايا الاحتلال الهولندي، واستخدم الأموال في شن عمليات مسلحة ضد السلطة المحلية والسياح لخدمة حلمه بإقامة جمهورية إندونيسيا الإسلامية التي سيكون هو زعيمها. وبعد موت رفيقه سونكار تخبط الرجل، وكلما وجد فصيلًا صاعدًا أو كيانًا نافذًا سارع بالانتساب إليه، وعندما ينهار يتبرأ منه وينفصل عنه.
وذات يوم تجمع الآلاف من أنصار التنظيمات المتطرفة الإندونيسية في مدينة جوغ جاكرتا عام 1999 لتأسيس ما عُرف بمجلس مجاهدي إندونيسيا الذي ضم تنظيمات من الفلبين وتايلاند وبورما وسنغافورة وماليزيا، واختير أبوبكر باعشير آنذاك أميرًا للمجاهدين.
رغم رفض باعشير لتفجيرات أعياد الميلاد في ديسمبر 2000 قبل تنفيذها والتي استهدفت عدة كنائس بمناطق متفرقة بإندونيسيا في وقت واحد، ورغم أن الذي نفذ تفجيرات بالي قطاع داخل الجماعة يقوده رضوان عصام الدين حنبلي بخلاف القطاع الذي كان يقوده باعشير، إلا أن الأخير مسؤول عن وضع أسس هذا المنهج متزعمًا مجمل الفصائل التي اعتنقته، حيث أكد في الاجتماع التأسيسي لمجلس شورى المجاهدين أن من يرفض تطبيق الشريعة يُعلن الجهاد ضده.
تبرأ باعشير في أثناء محاكمته من المسؤولية عن أحداث العنف زاعمًا أن منصبه هو إمارة مجلس المجاهدين الإندونيسي وليس إمارة الجماعة الإسلامية، لذلك جاء الحكم عليه مخففًا على خلفية انتهاكه لقوانين الهجرة وليس لارتكابه أعمال عنف أو التحريض عليها.
رجل يختصر حالة
السلطات الإندونيسية تحرص على تشجيع النزوع نحو أفكار المواطنة والانتماء للدولة بغرض تجفيف منابع تجنيد الجماعات العابرة للحدود بالنظر لاحتضان إندونيسيا لعدد من الجماعات التي تتبنى الفكرة الأممية، مثل حزب التحرير الذي تم حظره عام 2017
قلل قادة سابقون بجماعات جهادية في إندونيسيا من أهمية دور باعشير الحالي بالأوساط الجهادية، نتيجة تحولاته الحادة وعدم استقراره على فكر جماعة بعينها، علاوة على طبيعة التغيرات التي طرأت على الحالة الجهادية في إندونيسيا وجنوب شرق آسيا في غيبته.
وكشف القيادي الجهادي السابق علي فوزي، وهو أحد من تورطوا في تفجيرات جزيرة بالي عام 2002، أن باعشير فقد نفوذه داخل الجماعة الإسلامية التي أسسها وقادها لسنوات بسبب بيعته لداعش. وأوضح فوزي الذي يدير الآن مركز دائرة السلام الذي اشترك في برنامج تأهيل المتطرفين وإعادة دمجهم تحت رعاية الحكومة الإندونيسية، أن باعشير فقد رمزيته، حيث ساعدته في الماضي بعض القضايا التي تبناها في تحقيق النفوذ والانتشار مثل الهجرة إلى أفغانستان لنصرة المسلمين ومحاربة الشيوعية، أما الآن فليس لديه قضية يستطيع من خلال إثارتها جذب مريدين جدد حوله. وغاب عن فوزي أن قضية باعشير الآن مختلفة ويُراد أن يكون له ثوب جديد بمعزل عن رمزية القيادي الجهادي والزعيم الحركي، وهي رمزية الجهادي الذي انتهى تائبًا نادمًا مستظلًا بالوطن.
تسلل باعشير إلى ماليزيا ثم إلى أفغانستان بعد أن وقف الرئيس السابق سوهارتو بالمرصاد للجماعات المتطرفة وطارد معظمها، مكّنه من دراسة أفكار سيد قطب وأيديولوجيات جماعة الإخوان
تسلل باعشير إلى ماليزيا ثم إلى أفغانستان، عندما وقف الرئيس السابق سوهارتو بالمرصاد للجماعات المتطرفة وطارد معظمها، وهناك درس أفكار سيد قطب وأيديولوجيات جماعة الإخوان والجماعة الإسلامية المصرية على يد كل من عبدالله عزام وأيمن الظواهري ورسول سياف.
تنحى سوهارتو فوجدت الجماعات فرصتها في العودة والانتشار. ورجع باعشير في بداية التسعينات منبهراً بمنهج الإخوان في التربية والتجنيد ونظام الأسر وتكوين خلايا صغيرة تتحرك بنظام محلي داخل خلايا أكبر ترتبط في النهاية بقيادة التنظيم، وهو الأسلوب الذي مكنه من استقطاب البنية الرئيسية لجماعته من بين طلبة الجامعات وأساتذتها.
تأثر باعشير أيضًا بعمر عبدالرحمن الأب الروحي للجماعة الإسلامية المصرية، وبسبب هذا التأثر أنشأ الجماعة الإسلامية بإندونيسيا بدلًا من الجمهورية الإسلامية.
ولم يمنعه تأثره بالإخوان والجماعة الإسلامية من الانبهار أيضاً بزعيم القاعدة أسامة بن لادن، حيث أقام في أفغانستان علاقات قوية معه وقويت الصلات بين التنظيمين بجهود خالد شيخ محمد. ثم جاء فشل باعشير في تأسيس دولة خلافة موازية في إندونيسيا ليدفعه إلى تجريب الانضواء تحت راية البغدادي، فبايع عدد من كوادر الجماعة الإسلامية ما سمّي بتنظيم الدولة الإسلامية عقب بيعة باعشير وأسسوا جماعة جديدة تحت مسمى “أنصار الدولة” متخذين أمان عبدالرحمن أميرًا لهم، الذي حرض أتباعه على القتال دون الاستعداد الكافي وفق رأي الوكيل السابق بالهيئة الوطنية لمكافحة الإرهاب اللواء المتقاعد حامدين آجي أمين، الذي وصف عبدالرحمن بالشخصية الضعيفة المتهورة.
إذا كان حظر حزب التحرير خدم داعش في استقطاب أعضائه، وممارسات الجهاديين عمومًا تصب في مصلحة جماعة الإخوان التي توظف ورقة العنف في ابتزاز السلطة والضغط عليها، فإن باعشير الذي خاض غمار تلك التجارب مجتمعة قادر على لعب دور ما في تفكيك أيديولوجياتها كوازن مستقل يرسم الطريق الثالث.
المصدر : العرب اللندنية