يمكن أن تصبح كل تلك الأصفار في تعداد القتلى بلا معنى ثم تأتي الأخبار لتفيد بأن شخصا ما كنا نعرفه ونحبه قد صار مجرد رقم آخر في قوائم الموتى
كتب : جيس فيلبس
مئة ألف شخص لقوا حتفهم في المملكة المتحدة في أعقاب تشخيص إصابتهم بفيروس كوفيد-19. مئة ألف عائلة ومجموعات من الأصدقاء، بمن فيها عائلتي وأصدقائي أنا، قد باتت تعاني من فجوة في حياتها. مئة ألف شخص. وهؤلاء ممن كانوا يأملون حين أجروا الاختبار أنهم من أصحاب الحالات الخفيفة، تماماً كما فعل كثيرون منا. مئة ألف شخص من أولئك الذين خابت آمالهم وضاعت صلواتهم سدى.
يقارب عدد الناس الذين يعيشون في دائرتي الانتخابية المئة ألف. وشهدت هذه الدائرة واحدة من أعلى معدلات الوفيات في البلاد. من الصعب تخيل سقوط مئة ألف ضحية، وذلك يشبه كما لو أن كل شارع وكل بيت في المنطقة الحضرية المزدحمة التي أمثلها في مجلس العموم البريطاني، قد أُخلي بصورة مفاجئة، أو هُجر نهائياً، على حين غرة، وبقي الراديو يصدح بنغمة المقدمة الموسيقية لتمثيلية “ذي آرتشرز” الريفية الرائجة، فيما تقفز قطة على طاولة في البيت وهي تتبختر، متسائلة أين ذهب جميع ساكنيه. إنه لوضع بائس فعلاً.
مئة ألف شخص ماتوا. يمكن أن تصبح كل تلك الأصفار بلا معنى، ثم تأتي الأخبار كل يوم لتفيد بأن المئات تلو المئات من الأشخاص الآخرين قد هلكوا بدورهم. وأحياناً يبدو أننا قد أصبحنا سلفاً محصنين ضد هذا الواقع؛ فلقد بدأنا نتوقع حصول هذه الوفيات، والأسوأ من هذا أننا بدأنا نقبل أن لا مفر منها.
وبعد ذلك، ترد الأخبار، كما كان الحال في منزلي هذا الأسبوع، أن شخصاً عرفناه وأحببناه، شخصاً ضحكنا معه وتمازحنا في حفل عائلي في مثل هذا الوقت من العام الماضي، قد أصبح رقماً جديداً في قوائم الضحايا الذين فقدناهم إلى الأبد. والشخص الذي فقدت أنت هو مجرد رقم في القوائم التي تتابع في نشرات الأخبار أمام أعيننا كل مساء، وذلك تماماً مثل كثير من الأشخاص الآخرين. لكن هذه المرة، اللافت أن هذا الشخص كان بخير، ويضج بالحياة وكان من المرجح والمتوقع أن يعيش سنوات طويلة.
في بداية الأزمة، اشتريت بطاقات تعزية بالجملة، جاهزة للكتابة، كي تكفيني لأشهر للتواصل مع أبناء دائرتي الانتخابية ممن فجعوا ببعض الأحبة وكانوا يتألمون جراء هذه الخسارة. وكانت أول حالة وفاة تعاملت معها تخص رجلاً رائعاً اسمه والي. فقد دأبت على الجلوس بالقرب منه هو وزوجته خلال الاستماع إلى ترانيم عيد الميلاد المحلية في دائرتنا كل عام. والي كان رجلاً سليم البنية في الخامسة والسبعين من العمر. وضعته زوجته ذات مساء في سيارة إسعاف حين كان يكافح كي يتنفس، ولم تره بعد ذلك على الإطلاق.
وبسبب مستوى الصدمة الناجمة عن ذلك، كانت تلك السيدة تشعر بالهلع من منزلها، فقد شعرت أنه مليء بالفيروسات المعدية، في وقت شعرت أنه مثل سجن، إذ بقيت في البيت بمفردها من دون أن تسمح لأي من أولادها بالدخول للعناية بها وتهدئة خاطرها. تحدثت معها يومياً على امتداد أسبوع، في محاولة لتقديم النصيحة ومساعدتها على التواصل مع من يوفرون لها الخدمات اللازمة.
وفي أعقاب مكالمتي الهاتفية الأولى مع هذه السيدة، وضعت الهاتف جانباً ثم انفجرت بالبكاء. ولفرط تأثري ذلك المساء بحادثة الوفاة تلك فقط، كتبت رسائل فردية موجهة لكل من زوجي وأولادي على سبيل الاحتياط في حالة موتي بصورة مباغتة. وأشرت على أصدقائي أن يفعلوا الشيء نفسه. وبدت الوفيات خلال فصل الربيع جديدة ومرعبة، وكل منها عبارة عن مأساة شخصية مليئة بالألم. كيف يمكن أن يكون شخص ما أمام أعيننا ثم فجأة يختفي ليصبح من الماضي؟
تصعب معالجة هذا السؤال بما فيه الكفاية بالنسبة للناس في حالات حوادث الطرق أو النوبات القلبية أو القتل أو كل أشكال الوفيات المفاجئة. ومن الصعب احتساب مدى المفاجأة الذي ينطوي عليه ذلك. ومع هذا فنحن نحصي حالياً 100000 حالة وفاة مفاجئة كما لو كانت كلها حتمية. غير أنها لم تكن كذلك. وهناك موتى كان يجب إنقاذهم. حبذا لو أن الناس الذين أعرفهم ممن لقوا حتفهم بسبب إصابتهم بكوفيد لم يتوفوا؛ كانوا أساساً أشخاصاً بالغين أصحاء في السبعين من العمر.
بدت الحكومة هذا الأسبوع وكأنها تحاول الاتكاء على فكرة أن أبناء الشعب البريطاني متقدمون في السن ويعانون من زيادة الوزن، الأمر الذي يفسر ارتفاع معدل الوفيات بيننا هنا. ويبدو هذا أشبه بمحاولة أخرى لوضع مهمات إدارة الأزمة في أيدي أبناء هذه البلاد بدلاً من حكومتها، في هذه الحالة إنهم يلقون باللوم على الموتى أنفسهم، وهو أمر أنا واثقة بأنه سيكون مريحاً بالنسبة لأقاربهم المفجوعين. يجب على الحكومة أن تتحمل مسؤولية هذه الأصفار العديدة [عدد الوفيات]. مئة ألف بريطاني ماتوا.
أعرف أن ثمة حاجة للتفاؤل ولتشجيع البلاد على الشعور بالأمل. وأنا بالطبع سعيدة لأننا نوزع اللقاحات. ولا يسع المرء إلا أن يلاحظ أن هذا العنصر اللوجستي الناجح من عناصر الأزمة قد أدارته هيئة “خدمة الصحة الوطنية” ومنظمات القطاع العام التي لا تسعى إلى تحقيق الأرباح. وبالمقارنة مع عملية توزيع اللقاحات، ما أزال أتلقى، كل أسبوع، شكاوى تتناول خدمة الاختبار والتتبع. فقد جاءت في ديسمبر (كانون الأول) نتيجة الفحص الذي أجرته واحدة ممن يعيشون في دائرتي الانتخابية، إيجابية، لكن لم يُتتبع أي من الأشخاص الذين خالطتهم. لم يجر تتبع أي واحد من هؤلاء المخالطين. مئة ألف شخص قضوا.
سيترتب على الحكومة أن تجيب على السؤال التالي: هل كان جميع الذين توفوا سيموتون لو أنهم كانوا يعيشون في بلد آخر؟ لا أعتقد أن أعضاء البرلمان في نيوزيلندا يشترون حالياً بطاقات تعزية بالجملة. وهل كانت أوضاع أبناء دائرتي الانتخابية أفضل مما هي عليه الآن لو أنهم ولدوا في كوريا الجنوبية أو سنغافورة؟ بقيت المملكة المتحدة منذ أسابيع تشهد واحدة من أعلى معدلات الوفيات في العالم لكل مليون شخص من السكان. إن رئيس وزرائنا هو بحق صاحب رقم قياسي عالمي. فاسم المملكة المتحدة يُدرج أسبوعاً بعد أسبوع على قائمة أكثر عشر دول في العالم من حيث معدلات الإصابة. وهذا أمر لا يمكن تجاهله والاكتفاء بالحديث عن اللقاح وغمغمة بعض الوزراء عن السكان المتقدمين في العمر. مئة ألف شخص ماتوا.
غايتي ليست اللوم. فأنا أريد أن أعثر على إجابات من شأنها أن تؤدي إلى تحسين هذا المسار وذلك بالسرعة الممكنة. أريد أن أتأكد من أن هذا لن يحدث ثانية على الإطلاق. ألم يكن بوسعنا أن نتوقع أن الجائحة ستكون أشد فتكاً في الشتاء، أو أنه قد تكون هناك سلالات جديدة للفيروس؟ ألم يكن بمقدرونا أن نُعد خططاً أكثر فاعلية بالنسبة للمدارس؟ ألم يكن باستطاعتنا أن نتتبع مزيداً من الناس؟ ألم يكن بوسعنا أن نحقق نتائج أفضل؟ ألم يكن من الممكن إنقاذ من أعرفهم من الضحايا؟
لا شك أننا كنا سنفقد بشكل مأساوي كثيرين من الأشخاص الذين سيقضي عليهم كوفيد-19. بيد أن مئة ألف شخص في المملكة المتحدة قد خرجوا من بيوتهم إلى غير عودة. فهل كان ذلك في نهاية المطاف حتمياً؟ مئة ألف شخص ماتوا.
(جيس فيلبس هي وزيرة دولة لشؤون العنف المنزلي والحماية في حكومة الظل العمالية المعارضة، وهي عضوة في مجلس العموم البريطاني عن دائرة برمنغهام ياردلي الانتخابية)
نقلا” عن أندبندنت عربية