التكفير بدأ في الجزائر ولا أحد يمكنه توقيفه إلا الدولة المدنية القوية التي تتحمل مسؤوليتها في الحفاظ على المواطنين
كتب : أمين الزاوي
الفتنة نائمة فلا توقظوها!
ما يحدث هذه الأيام في الجزائر من نقاشات حادة على وسائل التواصل الاجتماعي بين التيار الوطني التنويري من جهة والتيار الإخواني السلفي من جهة ثانية، على خلفية دعوى رفعتها مجموعة من المحامين، يتزعمهم أحد الأساتذة الجامعيين والمنتمين فكرياً إلى الإخوان المسلمين ضد الباحث الإسلامولوجي سعيد جاب الخير، تدل على أننا لم نخرج بعد من عصر محاكم التفتيش، ولم نتحرر بعد من فكر التكفير والتخوين. لقد حرّكت هذه المجموعة هذه الدعوى ضد هذا الباحث وهو متخصص في العلوم الإسلامية، رداً على مجموعة من منشوراته وتفكيراته الشخصية الاجتهادية على وسائل التواصل الاجتماعي، وفحوى الدعوى القضائية هو “الاستهزاء بالمعلوم من الدين وبالشعائر الدينية والتهكم من آيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية…”، وهي التهم التي تتكرر دائماً عند الإخوان المسلمين كلما رفعوا دعوى قضائية ضد خصومهم الفكريين.
وتذكرنا هذه الواقعة الجزائرية بما حدث في مصر قبل نصف قرن تقريباً، حين حاكم البرلمان المصري كتاب “ألف ليلة وليلة” في جلسة علنية على إثر صدور طبعة جديدة وافية عن طبعة بولاق الأولى الكاملة، كان ذلك في السبعينيات من القرن الماضي. وقد طالب نواب الشعب وقتها، إذ كانت غالبيتهم تنتمي فكرياً أو تنظيمياً إلى جماعة الإخوان المسلمين، بمصادرة الطبعة الوافية وسحبها من التداول باعتبارها تسيء إلى الأخلاق وتفسد إيمان الناس الذين يعتبرون أنفسهم وكلاء ورقباء عليه. وقد فاتهم أن هذا الكتاب الذي يحاكمونه ويطالبون بإعدامه وبتر جزء منه يعدّ من أهم الكتب السردية الإنسانية التي أثرت في جميع كتّاب الكرة الأرضية الأساسيين منذ قرون، بغض النظر عن عقائدهم الدينية أو مذاهبهم الفلسفية أو رؤاهم الجمالية، وعلى اختلاف لغاتهم وثقافاتهم.
ويذكرنا ما أقدم عليه هؤلاء الإخوان المسلمون الجزائريون، اليوم، بما حدث للباحث والأستاذ الجامعي المصري الدكتور نصر حامد أبو زيد، إذ زندقوه وكفّروه، ووصل بهم الأمر أن طالبوا المحكمة بتطليق زوجته منه وهي أستاذة جامعية أيضاً، وإذ أصبحت حياته في خطر، قرر الهجرة إلى هولندا بحثاً عن سلامته وهروباً من تنفيذ حكم “إعدام شعبي معلن ضمنياً”.
وحدث الأمر مع الباحث والمفكر فرج فودة والروائي نجيب محفوظ في مصر، ومع المفكرين حسين مروة ومهدي عامل في لبنان، ومع كل من الطاهر جاووت وعبد القادر علولة وعز الدين مجوبي وبختي بن عودة وسعيد مقبل وغيرهم في الجزائر.
الفتنة نائمة فلا توقظوها!
موجة التكفير في الجزائر ومخاطرها على لحمة المجتمع؟
لقد سمحت مرحلة حكم الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة (1999 – 2019)، خصوصاً في السنوات العشر الأخيرة منها، بتوسع واضح في نشاط الإخوان المسلمين الذين عملوا على استرجاع القاعدة الشعبية للحزب المحظور، “الجبهة الإسلامية للإنقاذ”، ولبعض أساليب عمله أيضاً، كالترهيب والتخويف والتهويل والشعبوية الدينية. وما منحهم القوة هو أن عملهم أصبح من داخل المؤسسات الشرعية، وقد أصبح النظام البوتفليقي الذي نخره الفساد الذي لا مثيل له في المنطقة، يغازلهم كي يبقى في سدة الحكم من خلال توفير شروط تمددهم ووجودهم في مفاصل الدولة والمؤسسات القضائية والتربوية والإعلامية والتجارية.
لقد كانت “المصالحة الوطنية” التي رعاها ودعا إليها نظام بوتفليقة ومن دون محاكمة القتلة، ووضع الضحية والجلاد في مرتبة واحدة، هي الطريق التي أعادت أحلام الإسلاميين المتطرفين في التموقع والتغول السياسي والاجتماعي.
الجميع يتذكر ما عانت منه وزيرة التربية الوطنية السابقة نورية بن غبريط حين حاولت تعديل البرامج المدرسية وإصلاحها وتخليصها من أيديولوجيا التيار الإخواني والسلفي، إذ وقف الإخوان بكل قواهم وأخرجوا كل أسلحتهم للمحافظة على ما يشكّل مراكزهم المتينة وهي المدرسة. والحملة التي شنت ضدها أكدت الوزن السياسي الجديد لهذا التيار ووصوله إلى كل مفاصل الدولة.
كما أن التصريحات الإعلامية لبعض القادة القدامى من “الفيس” الجبهة الإسلامية للإنقاذ والمعروفين بتورطهم في الاغتيالات إبان العشرية الدموية، وقد عادوا إلى الساحة بكثير من الحرية في التعبير وفي النقاش وفي لعب دور الضحية، وفي إطلاق التهم على القيادة العسكرية وعلى الأمن وتحميلهم تبعات الدم المسفوك ما بين (1990 – 2000)، هذه العودة منحت ضمانة سياسية لكي تتحرك الخلايا النائمة في كل نقطة، خلايا في الجامعة وفي الإعلام وفي الاقتصاد أيضاً.
وما زاد الطين بلة، كما يقال، هو مسألة فتوى “تحليل اللقاح ضد كوفيد-19” الصادرة عن وزارة الشؤون الدينية والأوقاف الجزائرية. وهي سابقة خطيرة جداً، تدل على ما وصل إليه الوضع الفكري في الجزائر من دروشة وخلط ما بين الديني والطبي، ما بين العلمي والروحاني. فإذا كان “التحليل” هذه المرة قد جاء لأجل لقاح “كوفيد-19″، فقد يطلب غداً أي مريض الفتوى في شرب الأسبرين وآخر عن جواز تناول أدوية السرطان أو السكري وما إلى ذلك من أمراض أخرى. فقد أدخلت وزارة الشؤون الدينية المجتمع الجزائري بفتواها هذه في نفق مظلم، وقد فتحت الباب على مصراعيه للدجالين والمشعوذين للحديث غداً في أمور علاقة الطب والعلم، مع أن الدين بعيد من الطب، الدين دين والعلم علم.
الفتنة نائمة فلا توقظوها!
إذا كان مفكر وباحث قد سأل عن أمور في الدين والتدين، وهو شأن ناقشه الفقهاء واختلفوا فيه منذ بداية التدوين في الإسلام، وهي من اختصاصه وهو ليس بغريب عن هذا الفضاء المعرفي، باجتهاد فردي، فيه ما يؤخذ وفيه ما يناقش، وفيه ما يردّ عليه بالنقاش، يجد نفسه أمام المحاكم. والأخطر من ذلك، هو أن تصرفاً مثل هذا سيجعل حياة الباحث في خطر آت من “حمقى الله”Les fous d’Allah الذين قد يغتالونه في أي ركن أو شارع. وإذا كان الأمر بهذه البساطة وبهذه المهزلة، فغداً سيرفع أحدهم دعوى ضد مخرج سينمائي لأنه صوّر لقطة يراها غير متناسبة مع ذوقه ورأيه وثقافته. وقد يتعرّض شاعر للمحاكمة على قصيدة، وروائي على رواية، وفنان تشكيلي على لوحة… فكرة ثلج التكفير قد بدأت في الجزائر، وأعتقد أن لا أحد يمكنه توقيفها بعد الآن، إلا الدولة المدنية القوية التي عليها أن تتحمل مسؤوليتها كاملة في الحفاظ على جميع المواطنين على اختلاف رؤاهم في ظل الاحترام والتعددية والدفاع عن الاختلاف.
إن انتقال مسألة الصراع في الجزائر من طابعه السياسي بين قوى ظلت متصارعة على السلطة في التسعينيات إلى مربع الجامعة والنخب الفكرية والقضاء هو ظاهرة خطيرة جداً وقد تدخل البلاد في فوضى لا تحمد عقباها.
إن المدّ الإخواني في الجزائر، الذي وصل إلى المحاماة اليوم، هو شبيه بوضع مصر، ويبدو أكثر خطورة، لأن في الجزائر تنوعاً ثقافياً ولغوياً وإثنياً واضحاً أكثر مما هو عليه في مصر، والجزائر لا تزال تحمل ندوب وذكريات تجربة العنف المشروع أي عنف الثورة الجزائرية التحريرية (1954 – 1962) وعنف سنوات الحرب الأهلية في العشرية السوداء أو الدموية (1990 – 2000) التي خلفت أكثر من 200 ألف قتيل.
إذا كان الدستور الجزائري الجديد 2020 يحمي حرية المعتقد والحريات الجماعية والفردية وحرية الرأي، فإن المادة الثانية التي تقول إن “الإسلام دين الدولة” هي البوابة التي يستغلها ويستند إليها المتعصبون أصحاب الأيديولوجيا المتطرفة لإقصاء خصومهم الفكريين من التيارات والمعتقدات الأخرى. وهي المادة التي تزرع الخوف في أوساط كثير من المثقفين، وتخلق انسحاباً واضحاً للنخب الجامعية من الحياة الثقافية والفكرية ومن الاجتهاد الديني والفلسفي.
أيها السادة، الفتنة نائمة فلا توقظوها!