مصطفى عبيد
بين الخوف من سياط المُجتمع المزدرية للنساء، والخوف من انتقام الجناة إن تجرأت الضحايا على فضحهم، تفضل النساء في الكثير من الدول العربية الصمت، ويخترن الكتمان، وحبس حكايات الوجع النسوي داخل صدورهن، طلبا للسلامة وإيثارا لدرء الفتنة، فتبقى الجريمة قائمة، ويمرح المجرمون في سلام، ما يدفعهم إلى تكرار أفاعيلهم المُشينة مرة ومرات.
غير أن نادين أشرف، الطالبة المصرية والبالغة من العمر 22 عاما انتصرت على توحش القبيلة، وإرث العادات المناهضة للعدل، وهي ترفع راية المجاهرة بتوثيق وفضح جرائم التحرش والاغتصاب في المجتمع المصري، ليتم اختيارها من مجلة “تايم” الأميركية قبل أيام ضمن مئة شخصية الأكثر تأثيرا في العالم بالقائمة السنوية التي تعلنها المجلة مطلع كل عام.
وقبل ذلك اختارتها هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” من بين شخصين من مصر، اعتبرتهما الأكثر تأثيرا في الناس خلال العام الماضي.
ضد الصمت
الاختيار الأخير وسابقه، جاءا ردا على نتائج مذهلة حققتها مبادرتها بتدشين حساب على إنستغرام باسم “شرطة الاعتداءات”، الذي يوثق لحكايات فتيات ونساء ضحايا للتحرش في مصر، واللاتي يضطرِرن تحت وطأة الخوف من نظرة العار، وصعوبة إثبات الاتهام على الجناة إلى اختيار الصمت بديلا وحيدا للدخول في مشكلات معقدة، ما يؤدي إلى معاناتهن بأوجاع نفسية عديدة، تترك شروخا في نفوسهن.
رغم اهتمام الإعلام في مصر بمجلة “تايم” الأميركية، باعتبارها واحدة من كبريات المجلات السياسية المعروفة، إلا أن اختيار أشرف ضمن قائمة المئة شخصية الأكثر تأثيرا مرّ على غالبية المصريين مرور الكرام.
لم تستضف برامج “التوك شو” المختلفة في الفضائيات المصرية هذه الفتاة، ولم يلتفت أحد من كتاب المقالات والأعمدة الصحافية إلى أمرها، وكأن مبادرتها لا تعني أحدا، كما لم يتداول رواد السوشيال ميديا الخبر من باب التساؤل عما فعلته تلك الفتاة الصغيرة لتستحق أن تحوز اهتمام المجلة العريقة، وربما جيران الفتاة أنفسهم لا يعرفون عنها شيئا.
57 في المئة من المصريات يتعرضن لحوادث تحرش جسدي مباشر في وسائل النقل العامة اليومية، ونحو 31 في المئة للتحرش الإلكتروني عبر السوشيال ميديا، وفق استطلاع رأي أجرته مؤخراً طالبات معهد السينما بالقاهرة.
مع أن اسم أشرف بات مرتبطا بواحدة من أخطر القضايا التي يواجهها المصريون في الوقت الحالي، وقد تكون الأخطر في ظن كاتب السطور من الإرهاب نفسه، إلا أنه يبدو للعيان أن عدم اكتراث العامة في مصر بمَن يقاوم التحرش صار أمرا معتادا، لأن جانبا كبيرا من الناس اعتاد رؤية التحرش والسماع عنه، وكأنه أمر طبيعي، مثل شروق الشمس وغروبها كل يوم.
وتدلل على صحة ذلك دراسات عدة، لم يبد أحد استغرابه من نتائجها، حيث تشير إلى أن مصر من أكبر دول العالم التي تتعرض فيها النساء للتحرش الجنسي، لفظا وفعلا وتلميحا.
حسبنا أن نشير هنا إلى استطلاع رأي أجراه مؤخرا فريق بحثي من طالبات المعهد العالي للسينما بالقاهرة، شمل عينة من 157 فتاة وسيدة من أعمار مختلفة، انتهى إلى أن 57 في المئة منهن تعرضن لحوادث تحرش جسدي مباشر خلال استخدامهن لوسائل النقل العامة اليومية، وأن نحو 31 في المئة منهن تعرضن للتحرش الإلكتروني عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
يعتقد الكثير من الباحثين في مجال العلوم الاجتماعية أن تلك النتائج المفزعة أقل كثيرا مما هو كائن بالفعل، نظرا إلى وجود تصورات موروثة تدفع بضحايا التحرش في الكثير من الأحيان إلى الكتمان. ويعني ذلك أن نتائج المسح الذي أجرته الأمم المتحدة سنة 2013، والذي أكد أن 99 في المئة من النساء في مصر يتعرضن للتحرش الجسدي أو اللفظي صحيح تماما.
المقاومة عبر إنستغرام
يُمكن إدراك قيمة ما فعلته أشرف عندما أطلقت في شهر يوليو الماضي حسابا أسمته “شرطة الاعتداءات” وطالبت كل فتاة وامرأة في أي مكان بمصر أن تُقدّم للعالم حكايتها، إن كانت قد تعرضت لانتهاك أو تحرش، بهدف ملاحقة المتحرشين ومقاومتهم بالفضح والحكي ثم محاسبتهم قانونا.
لم يهتمّ البعض في بداية الأمر بتدشين الحساب، وربما لم تعتقد أشرف نفسها أنها قادرة على إذابة ولو جانب من جبل الجليد المتراكم عبر عقود من السيادة الذكورية، وغلبة مفاهيم التدين الشكلي، وتحميل الأنثى آثار الكبت الجنسي، واعتبارها بمظهرها وزيها المسؤولة الأولى عن انحراف بعض الشباب والتحول إلى أدوات مخاصمة لمفهوم الأنوثة.
بدأت الحكاية بإطلالة قصيرة لم تزد عن بضعة أسطر قدمتها طالبة غير معروفة على فيسبوك، تروي فيها تعرضها للاغتصاب من شاب معروف ينتمي إلى عائلة ثرية، لها مكانتها ونفوذها الكبير في المجتمع.
ساعات قليلة مرت على ذلك، حتى تعرضت الحكاية المنشورة فجأة للمحو التام، ما آثار غضب نادين، ودفعها إلى التشكك في تعرض الطالبة الشاكية للضغط والتهديد، وهو ما جعلها تسارع في البحث والتحري وإعادة نشر حكاية الطالبة داعية كل من لديه شهادة على الحادثة إلى الإدلاء بها.
كانت أشرف طفلة في الثانية عشرة من عمرها في يناير 2011 عندما شهدت مصر انتفاضة غضب تاريخية ضد نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، ورأت وقتها جموع الشباب وهم يحاولون الصمود في مواجهة القمع، ويرفعون رايات الإصرار على التغيير والتحول الاجتماعي، ما غرس في نفسها جينات المقاومة وأنبت لديها إرادة قبول التحدي.
“شرطة الاعتداءات” حساب على إنستغرام أطلقته أشرف في شهر يوليو الماضي، وطالبت كل فتاة وامرأة في أي مكان بمصر أن تُقدّم للعالم حكايتها.
كما أن انتماءها إلى طبقة فوق متوسطة ميسورة الحال، ودراستها للفلسفة والعلوم السياسية في الجامعة الأميركية بالقاهرة، جعلاها أكثر حرصا على مد يد المساعدة والمساندة لضحية لا تعرفها ولا تعلم حجم ما تعرضت له من ضغوط لتسقط شكواها.
ولكون والدها مهندسا وخبيرا في تطوير برمجيات وشبكات الاتصالات، جعلها قادرة على استيعاب ما يمكن لوسائل التكنولوجيا الحديثة أن تُحققه من تغيير وتحول في المجتمع حال استخدامها في قضية عادلة، وهو ما لا يمكن تحقيقه عبر الوسائل التقليدية المعتادة.
بالإضافة إلى تلك الدوافع إيمانها بأهمية البوح والفضح في مواجهة القبح، وهو إيمان قديم، لكنه نضج مؤخرا بفضل محاورات التواصل الاجتماعي. فجيل المرأة العربية في ما بعد انتفاضات وثورات الربيع بدا متأثرا بشدة بمنشورات الشاعر الراحل نزار قباني المحرضة على التمرد ضد تقاليد البداوة، والداعية إلى البوح والإفصاح والشكوى علنا.
يقول قباني في إحدى قصائده المتداولة بين مجموعات البنات على التواصل الاجتماعي “سأجمع كل تاريخي على دفتر/ سأُرضع كل فاصلةٍ حليب الكلمة الأشقر/ سأكتبُ لا يهم لمن/ سأكتبُ هذه الأسطر/ فحسبي أن أبوح هنا، لوجه البوح لا أكثر/ حروف لا مبالية أبعثرها على دفتر/ بلا أمل بأن تبقى/ بلا أمل بأن تُنشر/ لعل الريح تحملها فتزرع في تنقلها/ هنا حرجا من الزعتر/ هنا كرما/ هنا بيدرَ/ هنا شمسا وصيفا رائعا أخضرَ”.
كل ذلك كان وقودا دفع أشرف إلى المضي في الحكي، واستقبال شكاوى الفتيات، وترتيبها ثم عرضها مع أسماء وصور المتهمين تمهيدا لإدانتهم.
نشرت في البداية الحكاية المحذوفة لزميلتها الطالبة ودعت الفتيات إلى أن يكتبن بأسمائهن، وبأسماء مستعارة وحروف رمزية، حكايات تعرضهن للانتهاك الجسدي والاغتصاب وأن يشرن إلى الجناة بأوصافهم لتكسر فيهن نزعة الخجل من نظرات الاستهجان أو الازدراء.
بدأت الاستجابة ضعيفة، وربما نادرة، واتسعت وارتفعت وتيرتها تدريجيا، لكن في نقطة ما انفتح شلال الحكي وجأرت سيدات كثيرات بالشكوى لتكتشف نادين أمامها مجلدات من الفظائع الحقيقية المستترة، وجمعت منها خيوط قضايا حقيقية كانت لها تأثيرات في الكثيرات.
بتعبير أشرف نفسها في حوار مع مجلة الجامعة الأميركية بالقاهرة، نامت ذات ليلة، واستيقظت لتجد أكثر من مئة ألف متابع لحسابها والعشرات من الرسائل والحكايات الموثقة والشكاوى، وبدت أولى القضايا المطروحة قضية الشاب الذي حكت عنه زميلتها، والذي تم القبض عليه بالفعل والتحقيق معه ثم إدانته سريعا بعد تحول القضية إلى قضية رأي عام والحكم بسجنه ثلاث سنوات.
من بعده تكشفت تفاصيل قضية أخرى، عُرفت إعلاميا بفتيات الفيرمونت، نسبة إلى استدراج بعض أبناء رجال الأعمال لزميلاتهن في أحد الفنادق وتخديرهن والاعتداء عليهن.
المصدر : العرب اللندنية