يرى الأكويني أن الحكمة أو الفلسفة لا بد لها أن تكون خاضعة إلى اللاهوت أو الدين
عماد الدين الجبوري
تناولنا في الحلقة الماضية مجمل فلسفة الراهب والقديس الإيطالي توما الأكويني، منها البراهين الخمسة التي طرحها في إثبات وجود الله، وأن المعرفة التي نحصل عليها من خلال الحواس والشعور بالذات هي قاصرة، والعقل البشري قاصر أيضاً، لأنه يستمد معلوماته الطبيعية من الحواس، وبذلك ليس بمقدوره معرفة عالم ما وراء الطبيعة، وأن الكتاب المقدس هو الطريق الأمثل.
قبل أن نستعرض رد القديس توما على ابن رشد، من المفيد أن نتطرق بإيجاز شديد إلى محاولة ابن رشد في التوفيق بين الحكمة والشريعة أو بين دين الإسلام وفلسفة اليونان، وكذلك “الرشديين” الأوروبيين المتأثرين به والمدافعين عنه، خصوصاً أن مسألة التوفيق بين الدين والفلسفة تطرق إليها بعض الفلاسفة المسلمين، أمثال الفارابي وابن سينا وابن طفيل، بالإضافة إلى إخوان الصفا في رسائلهم وغيرهم، لكنهم جميعاً لم يتعمقوا فيها ويشبعوها بحثاً كما فعل ابن رشد في كتبه، “فصل المقال” و”الكشف عن مناهج الأدلة” و”تهافت التهافت”.
وبحسب رأي ابن رشد، أن الشرع قد دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به، وجاء في القرآن أكثر من آية، مثل قوله تعالى، “فاعتبروا يا أولي الابصار”، وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي أو القياس الشرعي معاً، ولما كان القياس أنواعاً، فلا بد أن يكون القياس العقلي هو الذي دعا إليه الشرع، لأنه أتم أنواع الأقيسة وأصحها على الإطلاق، فلا غنى لنا أن نستعين بما انتهى إليه القدماء حتى لو كانوا على غير ملتنا، لأن من العبث أن ننبذ ما كتبه القدماء ونستأنف البحث من جديد.
أما القول إن “القياس العقلي بدعة لم يكن لمسلمي الصدر الأول عهد بها”، فإن جواب ابن رشد، أن “القياس الفقهي أيضاً لم يكن لمسلمي الصدر الأول عهد به، وإنما استنبط في ما بعد. فإذا كان الأول بدعة فكيف لا يكون الآخر بدعة أيضاً؟”. (فصل المقال، ص 30). ويصل ابن رشد إلى القول، إن الاطلاع على كتب الفلسفة وعلوم الأوائل واجب في الشرع، فلا خلاف بين الدين والفلسفة، ولا يوجد تناقض في ما بينهما، بل هما “المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة”، ويكرر ابن رشد في أكثر من موقع على أن الفلسفة الصحيحة لا تتنافى مع الدين، وإذا لاحظنا تعارضاً بين النص القرآني والبرهان الفلسفي، فإن ذلك في الظاهر يزول بعد البحث العميق.
فقبل أن يظهر بين الدين والفلسفة ما نعرف من خلاف وخصومة، ظهر تعارض بين الآيات، وللتوفيق بينها لجأ العلماء إلى التمييز في بعض النصوص بين المعاني الظاهرة والمجازية وبين المعاني الباطنة الحقيقية، فكانت المشاكل التي من هذا الضرب تُحل بكشف المعنى الباطن للنص المتشابه، وطريقة التوفيق هذه التي سموها التأويل تكفي لإزالة كل ما يُظن من خلاف وتناقض بين الدين الفلسفة.
تُرجمت فلسفة ابن رشد وشروحاته لفلسفة أرسطو إلى اللغة اللاتينية على يد عالم الرياضيات والفلكي والكيماوي الأسكتلندي مايكل سكوت (1175-1232)، الذي تعلم اللغة العربية في مدينة طيلطلة في الأندلس، وكان أعظم مفكر في زمانه، ومن بين الذين تأثروا وأعجبوا بالفلسفة الرشدية مجموعة كبيرة من المفكرين الأحرار يُدعون “الرشديون”، أمثال سيغر البرابسوني وبونفيس الثامن ودانتي أليغيري وجان جاندون وجون بكاونثروب وغيرهم. وكان التيار الرشدي الأوروبي يهدف إلى التوازن بين الدين والفلسفة، واستخدام التأويل بين النص المقدس والمنطق والفلسفة، وإيقاظ العقل المسيحي من غيبوبة الغوص في التصوف والباطنية الروحية، أما نفوذ ابن رشد على الفلاسفة المحترفين، فتجلى أكثر في الفرنسيسكان بخاصة، وفي جامعة باريس عامة.
في الواقع، إن تأثير فلسفة ابن رشد في أوروبا أفرزت ثلاث تيارات هي، الرشدية المسيحية والرشدية النهضوية والرشدية اليهودية، وكانت المؤسسة الدينية تجاه هذه التيارات سلبية إلى حد ما، إذ كفّرت الرشدية وأتباعها بشكل عام، وهكذا وقف الأكويني بشدة ضد النفوذ الفلسفي الرشدي على العقلية المسيحية الأوروبية، بل وصل الأمر إلى حد المطاردة والقتل لمن يعتنق الرشدية، كما جرى مع كبير الرشديين البرابسوني الذي وقف نداً للأكويني فقُتل عام 1284.
وتمكن الأكويني من إقناع الكنيسة الأوروبية بأن نظام أرسطو يجب عده مع نظام أفلاطون كأساس للفلسفة المسيحية، وأن المسلمين و”الرشديين المسيحيين” قد أساءوا في تفسير أرسطو، وبذلك قدم فلسفة أرسطو لتكون عوناً للكنيسة، بعد أن أجلاها وطورها وجعلها ملائمة توافق وتخدم العقيدة الكاثوليكية.
ويرى الأكويني أن الفلسفة ترتكز على حقائق العقل في العالم المحسوس فحسب، أما الدين فهو يشرح حقائق الله وعالمه الذي لا يخضع إلى حقائق العقل، لأنها تصدر من العقل الإلهي، وبذلك، فإن الحكمة أو الفلسفة لا بد لها أن تكون خاضعة إلى اللاهوت أو الدين، إذ تتحول محبة الحكمة إلى شعور ديني متعقل، ولا يمكن أن تكون الفلسفة غير أنها تفسير للحكمة الإلهية، التي هي مشروحة على أصالة الدين المسيحي في الإنجيل، كما أن الفيلسوف ليس بإمكانه أن يصل إلى أي استنتاج جديد لم يكن من ذي قبل، لأن كل النتائج هي معطاة مسبقاً، وعليه فكل ما يتوجب عمله هو التمهيد المنطقي إليها ليس إلا.
معنى هذا، أن القديس توما يروم إلى تبرير العقيدة المسيحية في الحياة الحسية، لكي يكون هناك إيمان بمعجزات المسيح، عليه السلام، بالتالي بالله تعالى، لأن الخوارق تعكس فكرة الله الموجود والقادر على كل شيء، ولذلك، قسم الحكمة إلى ثلاثة أنواع، الإلهية (الوحي) واللاهوتية (الدين) والماورائية (الغيب)، وجعلها أساساً لفكره الفلسفي القائم على الدين المسيحي، خصوصاً أنه يقر قائلاً، “هدفي هو كشف الحقيقة التي يدعيها الإيمان الكاثوليكي. ولكن هنا، يجب أن ألجأ إلى العقل الطبيعي، لأن الأمم لا تقبل سلطة الكتاب المقدس”.
وفي كتابه “الخلاصة ضد الوثنيين” (ويعني فيه المسلمين والرشديين من الطرفين المسيحي واليهودي) في أربعة أجزاء ما بين (1259-1265)، جاء في الجزء الثاني الذي يركز فيه على النفس البشرية، قول الأكويني إن “العقل جزء من النفس، وليس كما أكد ابن رشد، أن هناك نفساً واحدة يشارك فيها مختلف البشر فحسب. فالنفس لا تنتقل بالسائل المنوي، بل تتولد من جديد مع كل إنسان. صحيح أن هناك صعوبة، عندما يولد الإنسان خارج إطار الزواج، يبدو أن هذا يجعل الله شريكاً في الزنا. ومع ذلك، فإن هذا الافتراض خادع لا غير”. (الطبعة الإنجليزية). فوفق رأي الأكويني أن “المسلمات ليست موجودة خارج النفس، بل العقل في فهم المسلمات، فهو يفهم الأشياء التي تقع خارج النفس”.
ليس هذا فحسب، بل هناك اختلافات أخرى للأكويني مع ابن رشد، منها مسألة قدم العالم، فعلى الرغم من أن ابن رشد ينص على قدم العالم وينكر حدوثه، من أجل أن يتلاءم مع أرسطو، لكنه يؤكد أن العالم قديم بالزمان حادث بالمادة، فالله خلق العالم من العدم، فالزمن لا ينطبق على أفعال الله، بل ينطبق على الأشياء المادية وأفعال الإنسان، ويفرق ابن رشد بين العالم في الشاهد والعالم في الغائب، “فالباري سبحانه ليس من شأنه أن يكون في زمان، بينما العالم شأنه أن يكون في زمان”. (تهافت الفلاسفة، ص 136). أما الأكويني فيرى، أن العقل يمكن أن يبرهن على حدوث العالم، وأن الدين يخبرنا عن قضية الحدوث في عملية الخلق. وفي هذا الصدد، كتب رسالة “في وحدة العقل رداً على الرشديين”.
وكذلك الاختلاف في نظرية المعرفة، إذ إن ابن رشد فسّر المعرفة على ضوء فلسفة أرسطو، بأن العقل يدرك لأنه مشترك في العقل الفعال المفارق الواحد ويتعقل عقل فلك القمر، وأن اتصاله بالشخص يحصل بواسطة الصورة المعقولة الفائضة منه، أما الأكويني فذهب إلى القول، إن العقل يتعقل وفقاً إلى القوة المكمونة فيه، فينتقل إلى فعل تعقل عندما يخرج إلى التعقل ليس إلا، والاتصال بين العقل والحس، فإن العقل الإنساني معادل لماهية الإنسان يستفيد من المعقولات والمحسوسات، فمن حيث هو عقل إنساني فله موضوع خاص معدل له هو ماهية الشيء المحسوس، فلا بد من وجود قوة في النفس تجرد الماهية عن علائقها المادية الممثلة في الصورة الخيالية الحاصلة من الإحساس، فتجعلها معقولة بالفعل، وقوة أخرى تتعقلها، القوة الأولى تسمى عقلاً فعالاً، وتسمى الثانية عقلاً منفعلاً.
ومع أن الأكويني خالف ونقد ابن رشد، لكن لا يخفى تأثير الأخير على الأكويني نفسه، سواء في طريقة الشروح بسرد النص وتحليله أو في جوانب أخرى، على سبيل الذكر لا الحصر، عندما يتناول الأكويني التفريق بين “ما نفهمه من طريق العقل، وما نعتقده من طريق الإيمان”، فهو يقترب من مفهوم ابن رشد في مسألة التوفيق بين الحكمة والشرع، وما يخص العلماء عن الجمهور أو العامة من الناس، إذ يؤكد الأكويني على أن ميدانيْ الفلسفة والتصور ميدانان منفصلان، ويجوز للعلماء أن يبحثوا في ما بينهم ما يعترض به على الدين، ولكن لا يحسن بالسذج من الناس أن يسمعوا إلى ما يقوله غير المؤمنين ضد الدين، لأن العقول الساذجة ليس لها من الاستعداد ما تستطيع أن ترد به على المعترضين، ويجب على العلماء والفلاسفة، كما يجب على الفلاحين، أن ينحنوا أمام قرارات الكنيسة، ومن واجبنا أن نهتدي بهديها في كل شيء.
نقلا” عن أندبندنت عربية