قدم جاك ماريتان وإيتيان جيلسون ويوهانز هيرشبرغر وغيرهم تفسيرا جديدا لمعطيات ومتغيرات العصر
كتب : عماد الدين الجبوري
في الحلقة السابقة عرضنا رد توما الأكويني على ابن رشد الذي أثرت فلسفته بقوة في الجانب الأوروبي، وخلقت ثلاثة تيارات: الرشدية المسيحية، والرشدية النهضوية، والرشدية اليهودية، وكان الأكويني في صراع شديد ضدها، وعمل على إدخال نظام أرسطو كأساس للفلسفة المسيحية.
التوماوية المحدثة
تم إحياء فلسفة القديس توما الأكويني عام 1897، عندما أشار إليها البابا ليون الثالث عشر (1810-1903)، ثم انتشرت على يد مجموعة من الفلاسفة والعلماء الغربيين، أمثال جاك ماريتان وإيتيان جيلسون ويوهانز هيرشبرغر وغيرهم، إذ قدموا تفسيراً جديداً لمعطيات ومتغيرات العصر وفق المبادئ والأفكار التوماوية. ودفع في هذا الاتجاه البابا بيوس العاشر (1835-1914)، إذ قال في سنته الأخيرة، إن تعاليم الكنيسة لا يمكن فهمها من دون الأسس الفلسفية الأساسية لأطروحات القديس توما. كما أصدر البابا يوحنا بولس الثاني (1920-2005) عام 1998، رسالة موسومة “الإيمان والعقل” تكريماً إلى توما الأكويني.
في الجانب الفلسفي، يعد جاك ماريتان (1882-1973) أحد أكبر أقطاب التوماوية المحدثة، ورأى أن التقدم العلمي أخذ يحل محل الفلسفة المسيحية، حتى أصبح “العلم إلهاً” يغتصب منهجه دور العقل والفلسفة. وفي كتابه “مقدمة في الفلسفة” عام 1920، ذكر في مقدمته عن دور الأكويني المميز في إعادة نظام أرسطو ليكون بحق “منسجماً تماماً مع حقائق الإيمان” في الفلسفة المسيحية. (طبعة إنجليزية).
ولقد تجاوزت مؤلفات ماريتان الـ50 كتاباً، منها “فلسفة البرغسونية والتوماوية”، إذ يقارن ويقارب ما بين فلسفة هنري برغسون (1859-1941) والفكر التوماوي، لا سيما أن ماريتان كان متأثراً بأفكار ونظريات برغسون. وكذلك في كتابه “الوجود والموجود” الذي يبين فيه قرب التفكير الوجودي من التوماوية، إذ إن الوجودية تعني فعل الاختيار والحرية والمبدأ الإنساني، وهي بهذا النهج متطابقة مع التوماوية، فـ”الوجود هو كل موجود، واللاوجود هو سلب للوجود بنفي الكيان أي العدم”. (طبعة إنجليزية).
وفي قضايا الخلق والإنسان والمعرفة، يرى ماريتان أن الله هو الفاعلية الكاملة لكل إمكانيات الوجود بأسره. أما الإنسان فإن وجوده مشدود نحو قطبين مادي وروحي. الأول، لا يهم الإنسان كشخص حق، بل كونه ضلالاً للشخصية. أما الثاني، وهو الذي يهتم به الإنسان. وعالم الوجود فيتطلب معرفة ماورائية تستدعي معرفة بديهية تقوم على العقل الحدسي الذي يسبق العقل المنطقي. وبالنسبة إلى عالم الطبيعة المتغير والمتبدل فيستلزم معرفة تجريبية– إدراكية، وعالم الكم صورته المعرفة الرياضية. كما أن للمعرفة الإنسانية مراتب وأنواعاً يكمل بعضها البعض، ولكل نوع يوجد العقل المناسب له، وقبل المعرفة الشعورية والمعارف البديهية هناك اللاشعور الروحي الذي يسبق اللاشعور الغريزي، وهو مصدر المعارف جميعاً، سواء كانت إدراكية أو بديهية، والتي يصنفها ماريتان إلى صنفين، معرفة فلسفية وشعرية، ومعرفة صوتية.
وفي الأخلاق، يعكس ماريتان تصوراته من خلال مفاهيم الأكويني في الماورائيات، إذ إنها ذات طابع قانوني صارم يتوافق فيها القانون الأخلاقي مع القانون الطبيعي، وأن الخير يتمثل في متطلبات الإنسان الحقة، والتي يُكشف عنها بالعقل السليم في مجال العمل أو السلوك، وغاية المجتمع هي الوصول إلى الخير العام، الذي لا يتعارض مع خير الإنسان لأنه أساس الخير ومبدؤه. فالإنسان يحمل طبيعة مزدوجة، فهو كفرد يرتبط بالمجتمع كجزء من كل. أما الشخص، فهو أكثر من مجرد اجتماعي أو سياسي، إنه يتجاوز حدود المجتمع ويعلو بما يمتلكه من حقوق طبيعية تتوافق مع طبيعته المزدوجة.
وكما كان الأكويني في صراع ضد الفلسفة الرشدية، فكتابات ماريتان لا تخلو من التنديد أيضاً، فهو ينظر إلى فلسفة ابن رشد على أنها “محاولة لفصل الحكمة الفلسفية عن الحكمة الإلهية”. وبحسب توماويته، فإن الحكمة الحقة هي حكمة الخلاص السماوية، وليست الحكمة الدنيوية.
وعلى نمط ماريتان يأتي يوهانز هيرشبرغر (1900-1990)، الذي ينظر إلى الحكمة الإلهية اللامتناهية التي تظهر لنا متجلية في كل شيء من نظام وقوانين طبيعية واجتماعية. إذ إن الله وحكمته وقدرته تجعل العالم يحيا في يقين، وطبيعة الإنسان ووضعه في هذا الكون، في قدرته الروحية والمعرفية وتنظيم حياته وما يتعلق بكرامته وحريته وخلوده، والقانون ونظام الدولة ومعنى التاريخ. فالنظام والوحدة هما السمة البارزة في هذا الزمان.
وفي كتابه “تاريخ الفلسفة”، يفرد هيرشبرغر مساحة خاصة بالأكويني، ويقر بدور “العرب” الخاص في نقل فلسفة أرسطو، وجاء في مقدمة الفصل، “أعطى الكُتاب القديس توما الأكويني لقب (أمير الفلسفة المدرسانية)، وهذا منطقي، فهو مؤسسها الحقيقي. ومهما كانت المستجدات التي تم استيعابها في المدرسانية في العصر الذي سبقه، بخاصة أفكار أرسطو عن طريق العرب، أو من خلال الترجمة المباشرة من اليونانية، فقد جمعت معاً وطورت إلى بنية موحدة، وهذا التوليف الذي نسجه فنياً من القديم والجديد متماسك بقوة في كل التفاصيل، وهو مميز بشكل خاص بسبب وضوحه”. (طبعة إنجليزية).
أما إيتيان هنري جيلسون (1884-1978)، الذي حصل مع ماريتان على شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة القديس توما الأكويني البابوية في أنجليكوم الدومنيكية في روما عام 1930، فبعد انتقاله من الديكارتية إلى التوماوية، أظهر اهتماماً خاصاً في تحليل الفكر التوماوي من منظور تاريخي، خصوصاً بعد عودة العلوم الطبيعية إلى الفلسفة، وما صار يعرف في مطلع القرن العشرين بالفلسفة العلمية. إلا أن جيلسون يعتقد أن انضواء الفلسفة تحت مظلة العلم يعد مؤشراً نحو تدهور الإنسان في تنازله عن الحق في تقنين ومحاكمة الطبيعة. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على تخريب حياة الإنسان والمؤسسات ضد أنظمة الفلسفة. لذلك، يؤكد جيلسون أن إحياء فلسفة توما الأكويني سيفتح لنا الطريق للخروج من هذه المغامرات المتهورة والخطيرة. ومن بين مؤلفاته في هذا الخصوص، “التوماوية: مقدمة لنسق القديس توما” 1919، و”القديس توما الأكويني” 1925، و”التوماوية الواقعية ونقد المعرفة” 1939، و”القديس توما الأخلاقي” 1974، وغيرها.
وبالنسبة إلى مورتيمر جيروم أدلر (1902-2001)، فبالرغم من قراءته فلسفة الأكويني منذ مطلع شبابه، لكنه لم يحسم موقفه لصالح التوماوية والعقيدة الكاثوليكية إلا بعد سنوات طويلة من رحلته الفلسفية واللاهوتية، حتى أن كتابه “كيف تفكر في الله: دليل للوثنية في القرن العشرين” 1980، يؤكد أنه وثني لا يؤمن بوجود الله. ويقول فيه “يجب أن ألفت الانتباه إلى حقيقة أن الوثنيين المعنيين هم ورثة ما نعتبره حضارة غربية مميزة. لقد ولدوا ونشأوا في الحضارة التي كانت البيئة الثقافية للديانات الثلاث الكبرى في الغرب–اليهودية والمسيحية والإسلام. بينما كانوا يعيشون في الوطن ذاته الذي كان موطناً لهذه الديانات العظيمة الثلاث، اختار هؤلاء الوثنيون الغربيون أن يظلوا غرباء غير مؤمنين بالله الذي يؤمن به ويُعبد من قبل العديد من مواطنيهم، من خلال الحياة المشتركة معهم في المجتمع المدني والثقافي نفسه، فهم لا يشاركونهم في الرفقة أي مجتمع ديني”. (طبعة إنجليزية).
ولكن أدلر لم يستمر على هذا النهج، فقد انتقل من الوثنية إلى المسيحية، معتنقاً المذهب الكاثوليكي، وكان داعماً للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأميركية، واتخذ من مفهوم “الحياة المشتركة في المجتمع” أو كما يسميها “الخبرة المشتركة للإنسانية”، قاسماً مشتركاً بين البشرية جمعاء، فهي ثابتة لا تتغير البتة، وبما أن الفلسفة تابعة إلى تلك الخبرة المشتركة، فإن كل شيء فيها يكون ثابتاً إلى الناس كافة أيضاً. ومن خلال هذا المدخل، يروم أدلر إلى فصل الخبرة اليومية عن التجربة العلمية. فالتوماوية المعاصرة تنكر المشكلات الفلسفية التي تطرحها العلوم، كما أنها تفسر الخبرة اليومية على ضوء الماورائيات.
ومن الجانب الفلسفي إلى الجانب العلمي، ودور أندرو كونواي إيفي (1893-1978)، أحد كبار العلماء الطبيعيين في القرن الماضي، فالتوماوية المحدثة تؤيد العلوم الطبيعية، إذ تعدها الإثبات على المتأملات اللاهوتية، وعندما كتب إيفي بحثه الموسوم “حتمية اليقين بوجود الله”، كان أقرب إلى الدين من العلم والفلسفة، إذ أكد أن “الإيمان بوجود الله هو المصدر لأسمى فكرة إنسانية” التي تقوم عليها الأخوة بين الناس، وهو المصدر لإحساسنا بالحقوق والواجبات، والأساس القوي إلى القيم الروحية. (طبعة إنجليزية).
كيفما كان الأمر، فإن فلاسفة وعلماء التوماوية المحدثة بالقدر الذي يتفقون في الجانب اللاهوتي، لكنهم يختلفون في التوافق بين العلم والدين، إذ هناك من يصر على الفصل فيما بينهما، لأنه يوجد فارق كبير بين الجانبين، لهذا قال ماريتان إن “عصرنا يتميز بصراع بين الحكمة والعلوم، وبانتصار العلم على الحكمة”. وبحسب تصوره، لا سبيل في هذا الاتجاه إلا في الكتاب المقدس الذي فيه الحكمة التامة.
ومن هنا، ترى التوماوية المحدثة أنه يمكن للعلوم الطبيعية أن تستند إلى حقائق العقيدة المسيحية المتجلية فوق قدرة العقل الإنساني، لأنها تستمد حقيقتها من الله، ولا تقف ضد العقل ولا تعارضه. بلا ريب، إنها نظرة ذات بُعد ديني أكثر من أي بُعد آخر، ما يجعل المشكلات مستمرة لم تحلها التوماوية تماماً. كما أنها تنطلق من الماضي في تفسير الحاضر، بينما لكل عصر معطياته ومتغيراته، وشتان بين أخذ أفكار أو نظريات من الماضي بما تفيد وتخدم الواقع الحالي، وجعلها منطلقاً رئيساً في فهم عصرنا الراهن.
نقلا” عن أندبندنت عربية