الحبيب الأسود
تعتبر مدينة سرت من المواقع الاستراتيجية المهمة التي تحتل موقعا متوسطا بين شرق ليبيا وغربها، وهي في نفس الوقت تعدّ بوابة للمناطق الداخلية بفزان، ويمكن اتخاذها قاعدة للانطلاق إلى الواحات التي تقع إلى الشرق والجنوب، وبالتالي فهي سرّة ليبيا، تقع في شمال وسط البلاد، تلفها الصحراء من الجنوب والغرب والشرق، وتنفتح بوابتها الشمالية على البحر الأبيض المتوسط.
دور استراتيجي
سكانها يمثلون نموذجا فريدا في التنوع الثقافي والاندماج بين القبائل. وقد كان هناك أكثر من سرت في تاريخ المنطقة، الأولى سرت البونيقية التي بنيت بالقرب من موقع المدينة الفينيقية ماكوميديس – يوفرانتا، وكانت تسمى إينوسبيتا سيرتيس في ”إنيادة“ فيرجيل وفي ”الفردوس المفقود“ لجون ميلتون، وعرف عن موقعها أنه مصدر خطر على العابرين ببحرها بسبب القراصنة، وفي صحرائها بسبب قطاع الطرق.
أما الثانية فهي سرت الإسلامية التي نشأت في حوالي منتصف القرن الثامن الميلادي، وكانت جسراً للتواصل بين المشرق والمغرب، كما كانت نقطة للتزود بالمؤن والماء لجيش للفاطميين لدى زحفهم من تونس، في اتجاه مصر في العام 969 ميلادية.
أما سرت الحالية فقد تأسست خلال ولاية الوالي العثماني على طرابلس الغرب أحمد راسم باشا، وأشرف على تأهيلها قائم مقام قضاء سرت عمر باشا المنتصر، ووطن بها من يرغب من قبائل البادية مثل العمامرة والهماملة والورفلة والقذاذفة والفرجان ومعدان وقماطة والحسون وأولاد سليمان والجماعات والمزاوغة والربايع والمشاشية وأولاد وافي والمغاربة والهوانة والزياينة وغيرهم.
كما انتقل إليها عدد من العائلات من مصراتة، وأسس بها جامع ابن شفيع والذي يعد اليوم أهم المعالم القديمة في المدينة. وحين احتل الإيطاليون سرت شهدت أبرز وأهم ملاحم المقاومة الوطنية من خلال احتضانها أبناء طرابلس وبرقة وفزان في أول معركة جامعة ضد الاحتلال، والتي تعرف باسم معركة ”القرضابية“ التي شاركت فيها أغلب القبائل الليبية، ووقعت آنذاك هزيمة مدوية للقوات الإيطالية بقيادة الجنرال مياني، ردت عليها بأعمال انتقامية ضد السكان المحليين، من إعدامات ميدانية، سواء بالرصاص أو بالرمي في البحر، أو بتدمير المساكن، واعتقال أكثر من ألف من أبناء المدينة وإرسالهم الى سجون روما.
ثم احتضنت سرت أول مؤتمر جامع لقبائل الأقاليم الثلاثة تم خلاله التوقيع على ميثاق سرت للمصالحة الوطنية، وإنهاء الخلافات، والوصول إلى الهدف الوطني الذي يحقق توحيد حركة المقاومة ضد الاحتلال الايطالي تحت قيادة واحدة. وعاشت هذه المدينة ومحيطها مثل كل المناطق الليبية ظروفا صعبة في ظل الاحتلال، حيث كانت ليبيا واحدة من أكثر دول العالم فقرا، أغلب سكانها من البدو يعتمدون على الرعي وتربية الماشية.
وفي تلك الأثناء، عرفت سرت حدثين مهمين سيكون لهما تأثير مهم في مستقبل البلاد عموما، وهما ولادة معمر القذافي في السابع من يونيو 1942 في منطقة اسمها “جهنّم” بالقرب من شعيب الكراعية في وادي جارف إحدى ضواحي سرت، واكتشاف النفط في أول بئر نفطية ذات جدوى اقتصادية في ليبيا نهاية الخمسينات.
خزان النفط
قبائل سرت تعرف بولائها للقذافي، وبأنها قدّمت عددا كبيرا من أبنائها في معركة الدفاع عنه حتى سقوطه، ولذلك لم يكن غريباً أنه اختار سرت لتكون ملجأه الأخير، إلى أن قتل فيها
يعتبر حوض سرت أو ما يسمى بالهلال النفطي أبرز المناطق التي تضم حقول نفط ليبية، ويمثل إنتاجها 60 في المئة من صادرات النفط الليبي، حيث يضم 16 حقلًا منتجًا منها حقل السرير أكبر حقول ليبيا إنتاجًا، وبه 4 موانئ رئيسية هي الزويتينة والبريقة ورأس لانوف والسدرة، وجميعها يطلق عليها الهلال النفطي، نظرًا لأن شكل المنطقة يشبه الهلال على الخريطة.
تبلغ مساحة حوض سرت حوالي 230 ألف كيلومتر مربع، ويحتل المرتبة 13 بين دول العالم المنتجة للبترول، وباحتياطيات نفطية تقدر بنحو 43.1 مليار برميل وهو ما يشكل 1.7 في المئة من احتياطي النفط العالمي المعروف.
وفي السبعينات أعلنت ليبيا رسميا أن كامل خليج سرت جزءٌ من مياهها الإقليمية، ورفضت أميركا هذا الإعلان دون دول العالم الأخرى، متذرّعة بأن ليبيا “لا تملك مقوّمات السيطرة على هذا الخليج الكبير”.
ثم أعلن عن تأسيس شركة سرت للنفط وهي شركة النفط والغاز التي تتبع للمؤسسة الوطنية للنفط، وتوجد في مرسى البريقة الشركة بكافة الأنشطة المتعلقة باستكشاف وإنتاج وتصنيع النفط والغاز وكذلك نقل الغاز إلى المستهلكين عبر الخط الساحلي.
خط الموت والولاءات
سرت لا تزال ترمز لوحدة ليبيا رغم كل آلامها، ورغم أنها عرفت خلال عشرة أعوام حكم الميلشيات والتنظيمات الإرهابية المنفلتة
كان الأسطول السادس الأميركي يتمركز بصورة دائمة قبالة سرت، وبسبب الخلافات السياسية بين طرابلس وواشنطن، تعمّدت الطائرات الأميركية اختراق المجال الجوي لخليج سرت، وقاد ذلك إلى مواجهات جوية بين البلدين فوق الخليج شهدتها الثمانينات، عندما أطلقت طائرة ليبية مقاتلة صاروخ ”جو- جو” تجاه طائرة تجسس أميركية كانت تحلق فوق الخليج ولم يُصبها، ولم يتخذ الأسطول البحري المرافق أيّ عمل مضاد، وجرت بعدها مواجهة عسكرية بين طائرات ليبية وأميركية فوق الخليج، ثم حدد القذافي خط عرض 32 الذي ينتهي عنده الخليج من الشمال، كنقطة لا يجوز تجاوزها إلاّ بإذن مسبق منه وأطلق عليه اسم “خط الموت”.
ومنذ بداية التسعينات تحدث القذافي عن تحويل سرت إلى عاصمة، طالباً من وزرائه، باستثناء الخدمات الخارجية، نقل مقارهم إليها. لكن غالبية العمل المدني بقي عملياً في طرابلس. وفي أواخر ذلك العقد شهدت المدينة حدثين هامين أيضا، هما إعلان الاتحاد الأفريقي في الـ9 من سبتمبر 1999 بمجمّع “قاعات واجادوجو” الذي يعتبر من أكبر قاعات المؤتمرات بالمنطقة، وتوقيع اتفاق سلام البحيرات العظمى.
كما كانت تعقد في المدينة، وبشكل دوري اجتماعات مؤتمر الشعب العام، وتنظم فيها المؤتمرات الدولية ومؤتمرات القمة. وقد رشحت وقتها لاستضافة بعض مقار الاتحاد الأفريقي الوليد. كما عقدت في قاعات واجادوجو بسرت القمة العربية الثانية والعشرون في مارس 2010 واختيرت كعاصمة للثقافة العربية في عام 2011.
عرفت سرت بأنها من أكثر المدن الليبية ولاء لنظام القذافي، ولذلك اختارها لتكون ملجأه الأخير، إلى أن قتل فيها إلى جانب نجله المعتصم ووزير دفاعه أبوبكر يونس جابر في الـ20 من أكتوبر 2011. كما قدمت قبائل سرت عددا كبيرا من أبنائها في معركة الدفاع عن النظام حتى سقوطه، وشهدت بعد ذلك عمليات نهب وسلب وتخريب ممنهج قامت به الميليشيات المسلحة التي سيطرت عليها في حين اضطر الآلاف من السكان المحللين إلى النزوح إلى مدن أخرى أو اللجوء إلى الخارج.
اضطر أكثر من نصف سكان المدينة إلى الفرار من ديارهم بسبب قصف حلف شمال الأطلسي من البحر والجو وعنجهية الميليشيات التي كانت ترفع شعار تحرير سرت من أهلها المتهمين بالولاء للنظام السابق، وما أن استولت على المدينة حتى مارست نفس ما فعله جنود الجنرال الإيطالي مياني بعد معركة القرضابية الشهيرة في أبريل عام 1915.
الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يدرك قيمة هذه النقطة الحساسة في شمال أفريقيا كله، ولذلك أعلن أن سرت خط أحمر لا يسمح بالاقتراب منه
وفي 28 يونيو 2013 أعلن عن تأسيس فرع تنظيم أنصار الشريعة التابع لتنظيم القاعدة بعد إلغاء اللجنة الأمنية وانضمامها إلى التنظيم الإرهابي، وتحولت المدينة إلى قبلة للعناصر الإرهابية من دول المنطقة، قبل أن تشن ميليشيات ”فجر ليبيا“ المحسوبة على مصراتة رفقة عناصر من جماعة أنصار الشريعة هجوماً على الكتيبة 136 مشاة التابعة للجيش الليبي والتي يعود الكثير من منتسبيها إلى قبيلة الفرجان بالمنطقة أثناء حراسة المحطة البخارية لتوليد الكهرباء غربي سرت.
شهدت سرت أول ظهور علني لعناصر “داعش”، وأصدر التنظيم شريط فيديو أظهر فيه قطع رؤوس 21 قبطيا مصريا، فأعلنت ميليشيا “فجر ليبيا” سحب فلولها من سرت وإعادتها إلى مصراتة، ما أعطى تنظيم داعش سيطرة كاملة على المدينة حيث قام بإعدامات ضد عدد من السكان المحليين، وفرض سلطته الكاملة على المدينة لتتحول إلى عاصمة لدولته الوهمية بشمال أفريقيا.
وفي ديسمبر 2016 أعلن عن تحرير المدينة نهائيا من داعش من قبل قوات حكومة الوفاق المدعومة من ”الأفريكوم“، وفي السادس من يناير 2020 ، أعلن الجيش الوطني الليبي أن قواته سيطرت بالكامل على مدينة سرت الساحلية بوسط البلاد، في عملية خاطفة ومفاجئة لم تستغرق أكثر من ثلاث ساعات، لتنتقل سلطة المدينة إلى الحكومة المؤقتة التي تتخذ من شرق البلاد مقرا لها. كما أعلن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أن سرت والجفرة خط أحمر لا يسمح بالاقتراب منه من قبل ميليشيات حكومة الوفاق المدعومة من النظام التركي.
لا تزال سرت ترمز لوحدة ليبيا رغم كل آلامها وجراحاتها، ورغم أن عددا كبيرا من أبنائها لا يزال في سجون الميليشيات أو في المهاجر الأجنبية، ورغم أنها عرفت خلال عشرة أعوام حكم الميليشيات المنفلتة والقاعدة وداعش و”فجر ليبيا”، وشاهدت أجساد بعض شبابها مصلوبة على جدران المأساة، ورغم أن الرعب أصاب حتى قطعان الإبل والأغنام، وأحرق الأشجار، وهدم المباني، ورغم أن إذاعتها المحلية مرت خلال عقد من الزمن بكل أشكال الخطاب الموجه سواء على لسان الثوار المدفوعين بنزعة الانتصار الوهمي أو أسامة بن لادن أو البغدادي وصولا إلى خطاب الجيش الوطني، فإن سرت اختيرت لتكون حاضنة الليبيين للاجتماع من جديد على أرضها تأكيدا على وحدتهم التي لا تقبل التقسيم.
نقلا” عن العرب اللندنية