كريتر نت – العرب
يبقى مارتن لوثر كينغ مغروسا في الذاكرة الأميركية كزعيم عظيم للحقوق المدنية. ومع ذلك، وكما أوضح خطابه في كنيسة ريفرسايد في مدينة نيويورك في أبريل 1967، ذهبت مهمة حياته إلى أبعد من محاربة التمييز العنصري، فقد كان هدفه الحقيقي يكمن في إنقاذ روح الولايات المتحدة، وهي مهمة كانت إما متغطرسة أو نبوئية.
وفي كلتا الحالتين، لم يستقبل الكثيرون كلماته في كنيسة ريفرسايد بحفاوة في ذلك الوقت. وامتد رد الفعل حتى إلى الأوساط الداعمة لحركة الحقوق المدنية، وانتشر النقد الصحافي على نطاق واسع. ووبخ منتقدو كينغ أفكاره لأنها “تجاوزت حدوده”.
خليط من الأزمات
يرى أندرو باسيفيتش عالم السياسة الأميركي والمتخصص في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والسياسة الخارجية والتاريخ الدبلوماسي والعسكري الأميركي أن العنصرية والمادية المتطرفة والعسكرة تستحق الإدانة، وبشكل منفصل أحيانا، لكن الطريقة التي يترابط الثلاثة بها هي التي تفسر حالة المخاطر التي “تحوم بأمتنا”.
أندرو باسيفيتش: العنصرية والمادية المتطرفة والعسكرة إذا اجتمعت فهي خطر
ويعتقد باسيفيتش رئيس معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول في تحليل نشرته مؤسسة “أجنس غلوبال” مؤخرا أن وصفة كينغ لا تزال صالحة اليوم كما كانت عندما تحدّث عنها منذ أكثر من نصف قرن، خاصة وأن الشعب والطبقة الحاكمة الأميركية متجاهلان هذه الوصفة أكثر مما فعلا في 1967.
وهنا يسرد كيف كانت وسائل الإعلام الأميركية حاضرة في طرح القضايا التي باتت واجهة تحدد بوصلة الأميركيين. فقد أصرت صحيفة “نيويورك تايمز” على أن تحويل طاقات حركة الحقوق المدنية إلى قضية فيتنام يعد إهدارا سيحقق نتائج عكسية. وأكدت هيئة تحريرها لقرائها أن العنصرية والحرب المستمرة كانا مختلفين وغير مرتبطين.
وذكرت هيئة تحرير الصحيفة أن ربط هذه المشاكل الصعبة والمعقدة لن يؤدي إلى حلول ولكن إلى المزيد من الارتباك. وساد الرأي الذي يزعم أن على كينغ التمسك بقضايا العرق وترك مواضع الحرب للمؤهلين لتناولها.
واتفقت “واشنطن بوست” مع هذا الرأي، واعتبرت أن كينغ قلل من فائدته لقضيته وبلده وشعبه. ووفقا لهيئة التحرير في الصحيفة “تسبب في ضرر جسيم لمن هم حلفاؤه الطبيعيون” و”أصاب نفسه بقدر أكبر”. وذكرت أن سمعته تعرضت لضرر دائم قللت من عدد الذين يستمعون له باحترام شديد.
ورددت مجلة لايف هذا الموقف في افتتاحية لها. واعتبرت اقتراح أي صلة بين الحرب في فيتنام وحالة المواطنين السود في الوطن مجرد “افتراء ديماغوجي”. وشددت على أن الصراع الدائر في جنوب شرق آسيا “ليس له علاقة بالمعركة المشروعة من أجل حقوق متساوية هنا في الولايات المتحدة”.
وعند النظر إلى الماضي، قد يتساءل البعض كيف أمكن للمراقبين المتمرسين التغاضي عن العلاقة بين العنصرية والحرب ونظام القيم غير السليم. وفي الأشهر الأخيرة، وصف عدد من المراقبين المشهد الأميركي في العام الماضي بأنه الأسوأ لهذه الدولة. ولن يوافقهم سوى أولئك الذين يعانون من ذاكرة قصيرة.
ففي ستينات القرن الماضي، امتدت المعارضة والاضطراب على نطاق أوسع بكثير وعلى أساس أكثر استدامة من أي مستوى تحمله الأميركيون مؤخرا ولا شك في أن الوباء ودونالد ترامب قد تعاونا لجعل سنة 2020 عاما من البؤس والموت، وأن الهجوم على مبنى الكابيتول أضاف علامة تعجب مقلقة إلى الكابوس.
لكن، تذكّر الأحداث الرئيسية التي تلت خطاب كنيسة ريفرسايد، انطلقت سنة 1968 مع هجوم تيت في فيتنام، الذي أبطل المزاعم الرسمية بأن الولايات المتحدة كانت “تكسب” الحرب هناك.
وبعد ذلك، جاء استيلاء كوريا الشمالية الجريء على سفينة تابعة للبحرية الأميركية، يو.أس.أس بويبلو، فيما اعتبر إذلالا وطنيا. بعد فترة وجيزة، أدى قرار الرئيس ليندون جونسون المفاجئ بعدم الترشح لإعادة الانتخاب إلى قلب السباق على الرئاسة رأسا على عقب.
المعركة مع العنصرية
العنصرية تحتل المرتبة الأولى في التسلسل الهرمي للقضايا التي تستحوذ على الاهتمام الأميركي
تحدد حروب الولايات المتحدة ضد العنصرية في القرن الحادي والعشرين أن الرغبة في الحياة والحرية والسعي وراء السعادة تبقى جوهر أسلوب الحياة الأميركي. وهذا ما أعلنه الآباء المؤسسون، وهو ما تعلم الأميركيون اليوم.
لكن كينغ ذكر قبل أكثر من خمسة عقود أن العنصرية والمادية والعسكرة غرست نفسها في نسيج الحياة الأميركية. وبقدر ما قد نفضل التظاهر بخلاف ذلك، تحدد هذه النقاط الثلاث هويتنا بقدر ما يعرّفها إعلان جيفرسون أو الدستور.
ولأسباب مختلفة، ليس أقلها ترامب، تحتل العنصرية المرتبة الأولى في التسلسل الهرمي للقضايا التي تستحوذ على الاهتمام الوطني مرة أخرى. ويعلن التقدميون السياسيون، ودعاة التنوع والنخب الثقافية، وحتى الشركات متعددة الجنسيات التي تهتم بالنتيجة النهائية، التزامها بإنهاء العنصرية (كما يعرّفونها) بشكل نهائي وإلى الأبد.
لكن نسبة مهمة من بقية السكان يتمسكون برأي آخر وعلى سبيل المثال، يهتف القوميون البيض “لن تحلوا مكاننا”. ويتطلّب القضاء على العنصرية، على افتراض أن مثل هذا الهدف معقول، بالتأكيد نضالًا طويل الأمد.
ورغم أن العدد الإجمالي للوفيات الأميركية الناجمة عن كوفيد – 19 في العام الماضي، يتجاوز عدد الوفيات الناجمة عن حرب بعيدة والعنف الداخلي في 1968. ومع ذلك، كان الضغط الذي تعرض له الأميركيون في 1968 بحجم ما حدث في 2020 على الأقل.
تتبنى إدارة بايدن الإنصاف كشاغل رئيسي ويكمن هدفها المعلن في تمكين “المحرومين والمتخلفين عن الركب” من اللحاق، مع إعطاء الأولوية “للمجتمعات الملونة والأميركيين الآخرين المحرومين من الخدمات”
ويرى باسيفيتش أن الهدف لا يكمن في إجراء مثل هذه المقارنة بالإيحاء بأنه مع نفي ترامب سيمكن للأميركيين أن يسترخوا ويعتمدوا على الرئيس الجديد جو بايدن “لإعادة البناء بشكل أفضل” واستعادة ما يشبه الحياة الطبيعية في البلاد. لكن يبدو أن الشرور التي تصيب الأميركيين عميقة الجذور ومستمرة وتتجاوز قدرة أي رئيس على علاجها.
وكان كينغ قد توصل في 1967 إلى أن الفوز في تلك المعركة يتطلب توسيع نطاق التحاليل. ومن هنا، كان لابد من التحدث ضد حرب فيتنام علنا، وقد كان مترددًا في هذا حتى تلك اللحظة. بالنسبة إلى كينغ، أصبح من الواضح أن الحرب المستمرة تسمم “روح أميركا”، فقد كانت العنصرية والحرب متشابكتين وتتغذيان من بعضهما البعض.
وحتى الآن، يجب أن يكون من الواضح أن الحروب الأبدية في القرن الحادي والعشرين، والتي خاضتها الولايات المتحدة على نطاق أقل من فيتنام، على الرغم من أنها على مدى فترة زمنية أطول، تسبب تأثيرا مماثلا، إذ عادة ما تندرج الأماكن، التي تقصفها الولايات المتحدة أو تغزوها أو تحتلها ضمن فئة ما وصفها الرئيس ترامب ذات مرة بـ”الدول القذرة”.
ويميل مواطنوها إلى أن يكونوا فقراء وغير بيض ولا يتحدثون الإنجليزية. وبحسب المعايير الأميركية، غالبا ما يكونون غير متعلمين جيدًا. ويؤمنون بالعادات والتقاليد الدينية التي يعتبرها العديد من الأميركيين بدائية إن لم تكن غريبة تماما.
ويبقى اعتبار جندي عادي لأرواح الأفغان أو العراقيين أقل قيمة من حياة الأميركيين مؤسفا، لكن ذلك لن يكون مفاجئًا نظرا إلى تاريخنا. فمن القضايا المستمرة للحروب الأميركية التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية، أنه بمجرد بدء إطلاق النار، يصبح الآخر أقل قيمة.
وعلى الرغم من عدم وجود مسؤول حكومي رفيع المستوى ولا ضابط عسكري كبير يعترف بذلك، إلا أن العنصرية تتغلغل في حروب الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر 2001. وكما هو الحال في الكثير من الأحيان، تتمتع السموم المنتجة في الخارج بموهبة إيجاد طريقها إلى الوطن.
تجاهل الحقيقة
الوباء ودونالد ترامب تعاونا لجعل سنة 2020 عاما من البؤس والموت
مع استثناءات قليلة، يفضل الأميركيون تجاهل هذه الحقيقة، فضمنيا في التحيات، التي تقدم الشكر للقوات، هناك وهم بأن الخدمة في زمن الحرب ترتبط بالفضيلة، وكما لو كان القتال منشئا عظيما للشخصية. وكان يجب أن يجعل هجوم الشهر الماضي على مبنى الكابيتول الحفاظ على هذا الوهم مستحيلا.
وفي الواقع، يؤكد باسيفيتش أنه نتيجة لـ”حروبنا الأبدية” في العقدين الماضيين، أصاب فايروس كورونا النزعة العسكرية العديد من شرائح المجتمع الأميركي وربما حتى أكثر من التي أصابت الشعب خلال خطاب كينغ.
ومن النتائج الواضحة انتشار الأيديولوجيات العنصرية واليمينية المتطرفة في صفوف القوات المسلحة، وتحويل قوات الشرطة إلى كيانات شبه عسكرية تميل لاستخدام القوة المفرطة ضد الأشخاص من ذوي البشرة الملونة، وظهور ميليشيات مسلحة تتظاهر بالوطنية بينما تتآمر لقلب نظام دستوري.
ومن المهم بالطبع عدم رسم مثل هذه الصورة بفرشاة واسعة، فليس كل جندي نازيا جديدا وليس كل شرطي سفاحا عنصريا يطلق النار أولا ثم يطرق. ولا يتآمر كل مدافع عن التعديل الثاني لـ”إيقاف السرقة” وإعادة وضع ترامب في المكتب البيضاوي. لكنّ الجنود ورجال الشرطة السيئين والخونة الذين يلفون أنفسهم بالعلم موجودون بأعداد كبيرة بشكل مقلق.
وبالتأكيد، لم يكن كينغ ليتوانى عن الإشارة إلى أن الميل الأميركي للحرب في العقود الأخيرة قد أسفر عن مجموعة من النتائج الضارة هنا في الوطن، لو كان على قيد الحياة اليوم.
ويمكن ملاحظة الثلاثي الذي أشار إليه كينغ على مرأى من الجميع “المادية المتطرفة” لشعب عازم على إرضاء شهوات لا حدود لها في مجتمع أصبح غير متساو اقتصاديًا أكثر من أي وقت مضى. لطالما أراد الأميركيون أكثر. لا يزال ما كان صحيحا في 1776 قائما حتى يومنا هذا.
حلول إدارة بايدن
الحرب المستمرة تسمم “روح أميركا”
كان كينغ قد حذر في العام 1967 من أن الأمة التي تحظى فيها “الآلات وأجهزة الكمبيوتر ودوافع الربح وحقوق الملكية” بالأسبقية على الناس، تعاني مما يشبه الموت الروحي. ولم يكن شاغل كينغ الأساسي يكمن في توزيع الثروة المادية، بل في الهوس بامتلاكها وتكديسها.
واليوم، تتبنى إدارة بايدن الإنصاف كشاغل رئيسي ويكمن هدفها المعلن في تمكين “المحرومين والمتخلفين عن الركب” من اللحاق، مع إعطاء الأولوية “للمجتمعات الملونة والأميركيين الآخرين المحرومين من الخدمات”. باختصار، أكثر بالنسبة إلى البعض وليس للآخرين.
وسيؤدي مثل هذا الجهد حتما إلى رد فعل عنيف، فنظرا إلى الثقافة التي تعتبر المليارديرات تحقيقا نهائيا للحلم الأميركي، يبقى البرنامج الوحيد المقبول سياسيا ذلك الذي يحمل وعدا بالمزيد للجميع. فمنذ أيامها الأولى، كان الغرض من التجربة الأميركية هو تلبية هذا الطلب على المزيد، حتى لو تسبب استمرار هذا الجهد في إلحاق أضرار لا توصف بالبيئة الطبيعية.
وذكر كينغ أن “العالم يطالب الآن بنضج أميركي قد لا نكون قادرين على تحقيقه”. في العقود التي تلت ذلك، هل “نضجت” أمتنا بأي معنى ذي معنى؟ أم أن عادات الاستهلاك التي حددت أسلوب حياتنا في 1967 أصبحت أكثر رسوخا، مع عصر المعلومات الذي يعزز هذه العادات أكثر؟
ويوحي النضج بالحكمة والحكم. ويعني اعتماد الخبرة السليم. هل يصف هذا أميركا في عصرنا؟ مرة أخرى، يجب تجنب الرسم بفرشاة واسعة، لكن 74 مليون أميركي صوتوا لمنح دونالد ترامب فترة ولاية ثانية. ويعتقد الملايين أن عصابة من عبدة الشيطان المتحرشين بالأطفال تتحكم في جهاز الحكومة.
وسواء كان هذا عن قصد أم بغير قصد، عندما ألزم جو بايدن نفسه في 2020 بإنقاذ “روح أميركا”، كان يردد صدى أفكار مارتن لوثر كينغ التي عبّر عنها في 1967. لكن إنقاذ روح الأمة يتطلب أكثر من مجرد استبدال ترامب في المكتب البيضاوي، وإصدار تدفق مستمر للأوامر التنفيذية، وتلاوة الخطب من شاشة تلقين (وهو ما يفعله بايدن بصعوبة واضحة). ويتطلب إنقاذ هذه الروح خيالا أخلاقيا، وهي ميزة لا توجد عادة في السياسة الأميركية. ربما كان جورج واشنطن يتمتع بها. وكانت لدى أبراهام لينكون بالتأكيد.
من القضايا المستمرة للحروب الأميركية التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية، أنه بمجرد بدء إطلاق النار، يصبح الآخر أقل قيمة
وللحظة وجيزة أثناء إلقاء خطاب الوداع، تحدث الرئيس دوايت أيزنهاور بصوت أشعر سامعيه بأن له هذه الخصال، وكذلك جيمي كارتر في “خطاب التوعّك” في 1979 الذي سخر منه على نطاق واسع رغم عمقه. وكما تشير هذه الأمثلة القليلة، نادرا ما تتكرر هذه الشخصيات.
وفي حين أن بايدن قد يكون لائقا بدرجة كافية، لكنه لم يُشعرنا في أي وقت في حياته السياسية الطويلة بامتلاكه لهذه المواهب. ويمكن قول الشيء نفسه عن قدامى المحاربين السياسيين ذوي المصداقية العالية الذين أحاط نفسه بهم: كامالا هاريس، أنتوني بلينكن، لويد أوستن، جيك سوليفان، جانيت يلين، والبقية. وعندما يتعلق الأمر بالتنوع، فإنهم يلبون جميع المعايير. ومع ذلك، لم يقدم أي منهم حتى أدنى مؤشر على استيعاب محنة أمة وقعت في قبضة الثلاثي الذي ذكره كينغ.
وكمسيحي متدين وواعظ فائق الفصاحة، عرف كينغ أن الخلاص يبدأ بالاعتراف بالخطيئة ثم التوبة، عندها فقط يصبح التكفير ممكنا. ومن خلال الاعتراف بالشر الناجم عن الوجود المتزامن للعنصرية والمادية والنزعة العسكرية في قلب هذا البلد، سيكون من الممكن أن تتخذ الولايات المتحدة الخطوات القليلة الأولى نحو الخلاص. ويقول باسيفيتش “نحن ننتظر الصوت النبوي الذي سيوقظ الشعب الأميركي لهذه الضرورة”.