مزيج من الأفكار التجريبية والمثالية والشكية واللاعقلانية والنفعية
كتب : عماد الدين الجبوري
يُعد مذهب الذرائعية أو البراغماتية (Pragmatism) سِمة الفلسفة الأميركية، وهو مزيج من الأفكار التجريبية والمثالية والشكية واللاعقلانية والنفعية. ويحدد ذلك المذهب “الفكرة” التي يبني عليها فلسفته بثلاثة شروط أساسية هي، القيمة الفورية وتوافق الفكرة ذاتها مع باقي الأفكار وأن تطمئن لها نفس الإنسان. ولتوضيح تلك الشروط التي تحدد صدقية الفكرة، نوجزها كما يلي:
الشرط الأول، يجب أن يكون للفكرة قيمة فورية تقترن بمشاهدة الإنسان في صحة أو خطأ تجربته العملية، فإذا كانت تجربته العملية موافقة للفكرة، كانت الفكرة صحيحة، وإلا فهي باطلة.
الشرط الثاني، أن تكون الفكرة منسجمة مع سائر أفكاره وآرائه، إذ لا يكفي أن تكون كل فكرة صحيحة بمفردها وفق قيمتها الفورية، بل يجب إلا تناقض الأفكار الأخرى أيضاً. على سبيل المثال، لا يجوز أن أفرض نوعاً من الذرات في علم الطبيعة، ثم أفرض نوعاً آخر منها في علم الكيمياء، حتى ولو كان كل منهما صحيحاً في ميدانه الخاص، فإذا وجدنا أمامنا فكرتين عن شيء ما، كل منهما صحيح بالنسبة إلى قيمته الفورية، وجب أن نختار إحداهما على أساس البساطة، إذ أن أبسط الفكرتين تكون أصحهما. مثال على ذلك، أثبت كوبرنيكوس برأيه الجديد أن الشمس هي مركز الكواكب لا الأرض، وبذلك عارض رأي بطليموس القديم. كانت الفكرتان صادقتان إذا قيستا إلى ما ينجم عنهما من النتائج العملية في حياة الناس، ولكن ما دامت فكرة الأخير أقل تعقيداً من السابق، كان لزاماً أن يقع اختيارنا عليها.
الشرط الثالث: يجب أن تطمئن نفس الإنسان للفكرة وترضى بها، وألا تتعارض مع القيمة العملية. على سبيل المثال، عل الرغم من أن العقيدة الدينية ليس لها قيمة فورية في حياتنا إلا بمقدار ضئيل، إلا أنها تمنح حياتنا صبغةً من التفاؤل، وهي في ذات الوقت، تنسجم مع الأفكار الأخرى ولا تتعارض معها. وهذا يعني، إذا تساوت ظروف فكرتين، ثم كانت إحداهما تبعث على التفاؤل والأخرى على التشاؤم، فإن الأولى تكون أصدق وأصح. فالمؤمن والملحد كلاهما لا تؤثر عقيدته في شؤون حياته، بيد أن الأول متفائل يرجو الآخرة، بينما الثاني متشائم لا يرجو شيئاً، إذاً فالإيمان أصدق من الإلحاد وأحق، لأنه أجدى وأنفع للإنسان.
في الواقع، إن تطبيق هذه الشروط سيؤدي لا محالة إلى تنافر بين الناس أجمعين، وكذلك إلى نفي الانسجام والوئام المجتمعي، إذ كل فرد سيتخذ لنفسه رأياً خاصاً، من منطلق المنفعة الذاتية بغض النظر عما يتخذه غيره، فالمهم المزاج والظروف التي تحيط بكل فرد، ولتصحيح هذا الخلل سارعت الذرائعية إلى تعميم النفع لصالح أكبر عدد من الناس وليس الفرد، ومن الأفضل أن تشمل نتائج الفائدة العملية الإنسانية بأسرها. معنى ذلك، أن حكمنا على فكرة ما بالصواب أو الخطأ يجب أن يأتي بعد تجربة اجتماعية قطعت شوطاً زمنياً طويلاً.
تشارلز بيرس (1839-1914)
يعود جذر الذرائعية إلى تشارلز ساندرس بيرس، ففي عام 1878 أطلق على فلسفته التي تقوم على أساس مبدأ الخبرة الحسية كلمة “براغماتية” وهي كلمة يونانية قديمة تعني “العمل–الفعل”. وإلى جانب مؤلفاته في البراغماتية والمنطق والطبيعة ونقد الوضعية، له مجموعة من المقالات أيضاً، خصوصاً في الفترة ما بين عامَي 1891 و1893، إذ يطرح فيها رؤيته المستقبلية للوجود البشري، وما يتعلق بتطور نظرية الكون التي كشفت عنها العلوم الطبيعية. كذلك نشر في أبريل (نيسان) 1905، مقالة بعنوان “ما هي البراغماتية؟” يوضح فيها شيئاً من مفهوم هذا المذهب، وجاء فيها، أن الفيزيائي والكيميائي، بل وكل مختص في أي قسم من أقسام العلوم التجريبية، يتشكّل عقله من خلال حياته في المختبر تبعاً إلى فكرة مشكوك فيها قليلاً. إذ يصعب على العالم التجريبي نفسه أن يدرك ذلك على نحو تام، كما أن الأشخاص الذين يعرفون عقولهم حقاً، يشبهونه كثيراً في هذا الصدد أيضاً. وعلى الرغم من أنهم يتبعون طرقهم العقلية المتعددة، لكن نتائج التحصيل النظري غير عملية، فالعقل التجريبي له مهارة أكثر تجاه الموضوعات الحسية، لأنه يبني بشكل مثالي على أساس الملاحظة والتجربة. (أنظر: The Monist, Vol. 15 issue 2).
كما يرى بيرس أن “البراغماتية تؤيد مبدأً معيناً، إذا كان صحيحاً، يجب أن يجعل أي قاعدة أخرى غير ضرورية في ما يتعلق بقبول الفرضيات في مرتبة الفرضيات. وهذا يعني، أن تفسيرات الظواهر تُعد اقتراحات مفعمة بالأمل. علاوةً على ذلك، إن كل مبدأ البراغماتية هو أن يتظاهر فعلاً بفعله. بالنسبة إلى مبدأ البراغماتية، فهو أن المفهوم لا يمكن أن يكون له تأثير منطقي أو استيراد يختلف عن المفهوم الثاني إلا بقدر ما يتم أخذه في ما يتعلق بمفاهيم ونيات أخرى، سلوك متخفي مختلف عن المفهوم الثاني”. (بيرس والبراغماتية: طبعة إنكليزية).
وبحسب تصور بيرس، فإن التجربة الحسية وما تخلفه من آثار تكون نتاجها العقلية على الموضوع الذي يجري التفكير فيه. وبذلك فإن الفكرة التي تتبلور عندنا من جراء هذه الآثار، تكون بالضبط هي تلك الفكرة التي نحملها عن الموضوع. على سبيل المثال، فإن “النبيذ” مهما كانت فكرتنا عنه، فإنه لا يعني شيئاً إلا من خلال ما له من آثار معينة على حواسنا، سواء كان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وكذلك بالنسبة إلى أي مادة صلبة، فإنها لا تعني إلا لكونها قوية لا تنخدش بمواد أخرى تكون أقل منها صلابةً. وهكذا، فالفكرة التي نحملها عن أي شيء، ما هي إلا فكرتنا عن آثارها المحسوسة فحسب.
وبناءً على ذلك، إذا قلنا إن الله موجود، فوفق مبدأ بيرس، “إن ذلك محال!” والسبب لأن التجربة هي الجذر الأساس إلى الحقيقة، كما أنها هي التي تحدد بدقة معنى العبارة أو الكلمة في الشيء الذي نبتغيه. إذ إن بيرس يهتم ويركز على العبارة التي يكون لها معنى صحيحاً بعد تحويلها إلى عمل، ولذلك فإن الله والروح والملائكة وأي موضوع يتعلق بالعالم الماورائي، ولا يخضع إلى مبدأ المشاهدة الحسية والتجربة العملية، لا وجود له البتة. ومن هنا، يعيد بيرس بفلسفته البراغماتية الجديدة مبدأ السفسطائي بروتاغوراس “الإنسان مقياس كل شيء”، ولكن ضمن نمط عملي منفعي حديث.
وعلى الرغم من أن “الماورائيات” تستند إلى الملاحظات، سواء كانت بوعي أم بغير وعي، وكذلك على أنواع من الظواهر، التي تكون تجربة كل إنسان بها مشبعة لدرجة أنه عادة لا يوليها اهتماماً خاصاً، إلا أن تكييف المفاهيم الماورائية يتم من خلال تلك الخاصة بالمنطق الصوري فقط، وبذلك لا يمكن فهمها إلا في ضوء نظام دقيق وشامل للمنطق الصوري. فالمفاهيم الماورائية أساسية، أنها أفكار حول الكلمات أو الأفكار حول الأفكار فحسب.
وفي كتابه “تخمين في اللغز”، يقدم لنا بيرس الخطوط العريضة الرئيسة لعلم الكونيات أو الصورة الكونية الخاصة به، وكذلك نظريته في المستقبل، واستمرار تطور نظرية الكون وفق ما كشفت عنها العلوم الطبيعية. ويقول في الفصل الأول إن “نقطة بداية الكون، الله الخالق، هي المطلق أولاً، نهاية الكون، الله مكشوف تماماً، هي الثانية المطلقة، كل حالة من الكلية في نقطة زمنية قابلة للقياس هي الثالثة. إذا كنت تعتقد أن ما يمكن قياسه هو كل ما هو موجود، وأنكرت أي اتجاه محدد من أين أو في أي مكان، فأنت تفكر في زوج النقاط الذي يجعل المطلق خيالياً وأبيقورياً. إذا كنت تعتقد أن هناك انحرافاً واضحاً في مجرى الطبيعة ككل، ولكن مع ذلك تعتقد أن نهايتها المطلقة ليست سوى النيرفانا (العدم) التي انطلقت منها، فأنت تجعل نقطتَي المطلق متطابقتين ومتشائمتين. ولكن، إذا كانت عقيدتك هي أن الكون بأسره يقترب في المستقبل البعيد اللامتناهي من حالة لها طابع عام يختلف عن تلك التي ننظر إليها في الماضي البعيد بلا حدود، فإنك تجعل المطلق يتكون من نقطتين حقيقيتين متميزتين ومن أنصار التطور”. (الطبعة الإنكليزية).
نقلا” عن أندبندنت عربية