كتب : احمد عبد اللاه
كل الصيوف مرت من هنا تاركة خلفها حكايات وتداعيات… يذهب صيف ويأتي صيف ولا جديد سوى “الشمس” الجارحة وغياب المدينة خلف أوجاعها.
أتدرون كيف يكون صيف عدن مع الحرب القريبة منها وخلايا الموت والظلام وشحة المياه والأفق الغاطس خلف التأويلات وتحالف عربي مغشوش؟ أتدرون؟ هي خلطة نوازل فادحة… تتناوب أصنافها على المدينة منذ سنين حتى تصالح فيها العشق والموت… “فما كادت تعضّ الأرض حتى انقضّ حاميها على الأعراس والذكرى”.. وما تزال تنتظر معطيات صراع جديد بعد اتفاق “عاصمة الاحتواء” لتتنفس بداخلها معالم البلد الملطوش.
عدن هي العشق المحطم منذ سنين. تحملت عبء حروب صنعاء وعبء الشرعية- كارثة العصر وعبء إخفاقات التحالف وعبء الإرهاب والإخوان وعبء كل من لديه وكالة إقليمية وكل من لديه قضية ضد جماعة أو منطقة، وكل من عقر قلمه في أن يكتب لغير الفتنة، وعبء “الهجّامة” المختصة في نهب الأراضي وتغوُّل الزائفين. جميعهم تحملتهم عدن… فمن يحملها في الشدائد؟
عدن عاصمة الجنوب تقلب صفحات ماضيها على شاطئ خليجها الحار، وبمحض الصدفة أن جرفه القاري كان منسي منذ عقود ولم يفصح عن مكامنه الغنية وعن جوفه المغمور لتتراجع فتنته الكبرى وتكتفي عدن بالانتداب العربي الذي أضاع صرة أهدافه قبل فتح مغاليقها، وتتمنى أن لا تحتاج إلى ترجمان لقائد عجمي بطربوشه الأحمر بعد أن يدّعي بأن الشواطئ الشمالية لشرق المتوسط يربطها نسب تاريخي مع مياه جنوب الجزيرة ويجهل أن عدن هي سيدة البحور المفتوحة منذ الخريطة البابلية وحتى زمن المرافئ المنكوبة.
لم تحظَ من كل تضحياتها بطائل ولم تلتئم قلوب عاشقيها.. إذ لا شيء يتكرر سوى الخوف والظلام.
باسم الله يقتلونها، باسم الشعب، باسم الوحدة والاقاليم، باسم الولاية والخلافة والمشروع العربي يقتلونها، باسم الليل والنهار والسماوات والأرض وباسم الجبال والكهوف والسهول الخضراء والغبراء يقتلونها. باسم كل شيء وتحت كل العناوين تصبح حياتها في متناول الجميع، مباحة كأنها جزء من شعائر يقترب بها الآخرون إلى أهدافهم.
يدرك الناس أن المصائب يعاد تدويرها بأشكال مختلفة منذ ٢٠١٥م.. وأن السعودية تنقل قوافل الشتاء والصيف محملة بأعباء إضافية على شعب منهك مستنزف، وكلما تجهزت فنادقها لاستيعاب ضيوف جدد اضطربت الأرض تحت سكانها وشُقّت أنفسهم بسكاكين السراب.
السعودية لا تستطيع خوض حرب حاسمة ولن تسعى لسلام دائم ولن تكون مع حق الجنوب ولن تفلح حتى في ضمان صفقة تهدئة مؤقتة… فهي ليست سيدة “الجيوبوليتيكا” بعد اختبارها الحقيقي في عاصفة الحزم وفي أدائها السياسي والدبلوماسي وحتى الإغاثي، لهذا على (صاحب الأرض) أن يحافظ على خياراته العملية وأن يصبح جاهزاً لها في كل الأوقات حتى لا تأخذه حوارات التهدئة والمحاصصة (التي تسبب طولها وتعاريجها بغثيان جماهيري) إلى أحابيل الواقعية السياسية في بلد غارق في اللاواقعية. فالاتفاقات والحوارات التي يتم تصميمها لتمكين الدولة الراعية من تحقيق أهدافها بعيداً عن طبيعة الأزمات العميقة لا تنتج سوى معطيات أقوى للصراع خاصة وأن واقع اليمن مُدرك ومتاح للقارئ الاعتيادي ولا يأتي عبر إشارات لاسلكية من الفضاء الخارجي ولا يحتاج إلى دلائل استنباطية على الطريقة الرياضية.
عدن بكامل وعيها الوطني قاومت من أجل حياتها ومستقبلها.. أما مَن أعلن أنها خط أحمر فقد جعلها اليوم خط أصفر أمام الآخرين وغداً خط أخضر حين يتم ترحيل عقلها إلى جسد مضيف. لهذا لا فضل لأحد عليها إذ أنهم لم يأتوا من أجلها إلا فيما تتقاطع مصالحهم مع ثباتها وتضحياتها، ولو طلبتهم بصورة مجردة عن دوافعهم وهواجسهم لن يأتوها لاخفاف ولا ثقال. وعليها لهذا وذاك أن لا تأمن من ساعدوا في زراعة الموت حول خيامها وأضافوا إلى مصابها أمراضهم الداخلية وارتباكهم وعقولهم المكوّمة في رقائق التاريخ المقبور.