كتب – د. عيدروس النقيب
قبل الاسترسال أشير إلى ما فاتني التعرض له في الوقفة السابقة، حينما قال صاحب نظرية “الحقيقة بدون مكياج” أن مساهمة الجنوب في إجمالي الموازنة اليمنية لا يتجاوز 28% وهو رقم غير حقيقي بطبيعة الحال، كما بيننا في موضوع الموارد النفطية، ولم نتوقف عن الثروات السمكية والزراعية والمعدنية والضرائب والجمارك والرسوم والزكوات، وجميعها موارد معروف عن الجنوبيين أنهم لا يتهربون من دفعها ولا يزورون في البيانات عنددفع استحقاقاتها، بعكس ما جرت عليه العادة في الشماال حيث لا تطبق إجراءات التحصيل إلا على الفقراء ومتوسطي الدخل بينما يتهرب الأثرياء وكبار الملاك من دفع كل تلك الاستحقاقات، بل وهناك فئة من المتنفذين ممن تستلك الكررباء والمياه الحكوميتين مجانا، أقول إنه وحتى لو صدقت مقولة الـ 28% فإنها تبين أن الجنوب يساهم في رفد ميزانية الأشقاء في الشمال وليس العكس، لأن الإنفاق يتم تبعا للكثافة السكانية كمبدأ عام، ويعلم الجميع أن سكان الجنوب، لا يصل إلى ربع سكان الشمال، ما يعني أن الجنوبيين يدفعون أكثر مما عليهم، بافتراض أن الـ 28% صحيحة وهي غير صحيحة بطبيعة الحال.
هناك مجموعة من التنظيرات الطريفة والمضحكة التي يقدمها الرجل، لكنها تعبر عن ضحالة ثقافته أو عن استخفافه بالقدرات العقلية لمتابعيه، وسأتوقف عن النقاط التالية التي وردت في مقالته، لأن عدم تفنيدها يصنع تصورات مغلوطة ومشوهة عن من يتابعه من البسطاء:
1. أجهد الكاتب نفسه في البحث في موضوع الموظفين الحكوميين من الجنوب وراح يتحدث عن 990 ألف ثم 440 ألفاً ويضيف لهم 40 ألف ثم يقول عن 360 ألف ليخلص أن قيام الدولة الجنوبية سيعني 600 ألف موظف، لكن أطرف ما توصل إليه إن مداخيل الجنوب لا تكفي لتسديد رواتب الموظفين، ويقول ” اي الانفصال ليست (هكذا بصيغة المؤنث) فقط زعامات و انما توفير مرتبات لما يقارب من 600 الف شخص كرقم واقعي”، هذا الاستنتاج الطريف يريد أن يقنعنا به كاتب المقال أن على الجنوبيين البقاء في الدولة (المفترضة) لأنها توفر لهم مرتبات (على افتراض أنها تفعل ذلك)، وهكذا يختزل صاحبنا ما أسماه بـ”الانفصال” وما نسميه نحن “استعادة دولة الجنوب” يختزله بتوفير المرتبات.
ونحن نقول له ولأمثاله إن استعادة الدولة أكبر بآلاف المرات من مجرد توفير المرتبات التي هي حق أصيل لكل من يعمل في وظيفة حكومية مدنية أو عسكرية، لأنها (أي استعادة الدولة) تتمثل في بناء منظومة الحكم والإدارة والتشريعات والمؤسسات القضائية والنيابية والتنفيذية والخدمية والأمنية والدفاعية، والاقتصادية والمالية والعلاقات الدولية وغيرها مما لا يمكن أن يخطر على بال بعض المتثاقفين الطارئين.
2. وعند تناوله لموضوع الفساد في نظام الجمهورية العربية اليمنية وغيابه عن دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، يبدي الكاتب تواضعا ملحوظا فيوافق على وجود سرقة وفساد في الشمال لكنه يعزي غياب الفساد والسرقة في الجنوب بقوله ” اما عن نظام الجنوب الاداري كان لا يوجد فيه فساد لانه اصلا لا يوجد مال, فميزانية الدولة كانت مضحكة اي لم تتجاوز في الثمانيات 150 مليون دولار” وهو استنتاج غريب ومضحك ومسلي في نفس الوقت، عندما يربط صاحبه الفساد بوجود المال وغياب الفساد بغياب المال، لكنه استنتاج أعرج لا يقول به مبتدئ في دروس القانون والاقتصاد والإدارة والمال.
إن الفساد ليس فقط سلوكاً بغيضا مرتبطاً بالتربية والتعليم السيئين وبتدهور القيم الأخلاقية للمجتمع، فلا يوجد مجتمع خالي من القيم الأخلاقية النبيلة، والفساد ليس بسبب وجود المال وإلآ لكانت ألمانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو الإمارات العربية المتحدة أو اليابان هي الأكثر فسادا في العالم.
إن الفساد مثلما يرتبط بسوء الإدارة وغياب القوانين وأهم منها غياب المساءلة والمحاسبة، فإنه في اليمن يمثل سياسسة رسمية كرستها الأنظمة المتتالية لكسب الولاءات وشراء الذمم وتخريب أخلاقيات بعض القادة السياسيين والقبليين والدينيين والعسكريين، وهو لم يكن موجودا في جمهورية اليمن الديمقراطية، ليس لأنه لم يكن يوجد مال، بل لأن هناك قانوناً صارماً كان يطبق على الكبير قبل الصغير ولأن المنظومة الإدارية كانت فاعلة والقوانين كانت مفعلة، ولأن القيم الأخلاقية القائمة على النزاهة والإيثار والعفة والاعتزاز بالنقاء والششرف والولاء للوطن كانت جزءً من النهج السياسي والتربوي والتعليمي للبلد.
3. يتنقل صاحب المقال بين مجموعة من التنظيرات حول استحالة قيام دولة في الجنوب أو كما يسميه هو بـ”الانفصال” مستعرضا هذه المرة عددا من القرارات الدولية والمبادرة الخليجية التي تؤكد على وحدة اليمن، ليخلص إلى استحالة قيام دولة في الجنوب مشيرا إلى أن كل تلك القرارات والمبادرات لا تذكر ” انه هناك حتى قضية احتقان جنوبية و انما هناك مشكلة تمرد حوثي اي جميع القرارات لا تحتمل تفسيرات اخرى”.
والحقيقة إن الخوض مع الإخوة المتشبثين بتلك المرجعيات يتطلب صبراً ووقتا وافتراض حسن النية لديهم، فأولا القرارات الدولية كما هو معروف، لا تطبق إلا عندما يوافق عليها المعنيون بها، فكم هي القرارات التي اتخذت بشأن فلسطين، لم تجد طريقها إلى النور، وكم قرارات اتخذت لإلزام الولايات المتحدة نفسها بالالتزام ببعض القيود منذ حرب فيتنام وقضايا المناخ وقضايا الأسلحة النووية والحفاظ على البيئة وغيرها، ولم ينفذ منها شيءٌ لأن طرفاً رئيسياً أو أكثر من المعنيين بها لم يوافق عليها، وعموماً للفرحين بهذه القرارات هنيئا لهم بها، استمتعوا وافرحوا بها كما يحلو لكم، لكن الجنوب ليس معنيا بها لأنها ببساطة جاءت في سياق معالجة قضية أخرى هي الانقلاب على الشرعية وطرد الرئيس الشرعي بعد حصاره وحكومته عن طريق الاختطاف والإكراه.
أما المبادرة الخليجية، وبعضهم يضيفون إليها مخرجات “الحوار الوطني”، فحتى المتغنييين بهما يعلمون أنهم يكذبون على أنفسهم وعلى بسطاء الشعب في الشمال، عندما يفعلون ذلك، فالمبادرة الخليجية انتهى عمرها في 2013م وعمليا لم يعد منها ما ينبغي تطبيقه، فالرئيس هادي قد قضى فترته الانتقالية وأجبره الانقلابيون على النزوح، وصاحب الحصانة هو عند أرحم الراحمين، والبرلمان قد غدا برلمانين، وبقية البنود لم تعد لها أية قيمة فأين الفزاعة التي يرفعها إخواننا في وجه الجنوب عند الحديث عن هذه المبادرة.
أما مخرجات “الحوار الوطني” فكل متابع للشأن اليمني يعلم أنها قد كانت الصاعق الذي فجر حرب الانقلاب على الشرعية في صنعاء وما تلاها من تداعيات ما تزال تتناسل حتى هذه اللحظة، وما إكثار الحديث عن هذه المخرجات إلا من باب التغني بحسنات الميت الذي شبع موتاً ولم يعد هناك من ينعيه أو يحزن عليه.
وباختصار إن التلويح بتلك القرارات والمبادرات وكل المرجعيات في وجه شعب يطالب بحقه في استعادة دولته التي دمرتها حربان عدوانيتان من قبل طرف يفترض أنه شقيق، هذا التلويح لا معنى له ولا قيمة لأن المرجعيات التي يتحدثون عنها جاءت لمعالجة أزمة أخرى لا صلة لها بالقضية الجتوبية ولا بمطالب الشعب الجنوبي.
4. ونأتي للأغنية المفضلة لدى إخواننا من المثقفين الشماليين المتشبثين بنتائج 1994م وهي عقد المقارنة المحببة لديهم بين قضية الجنوب وقضايا كردستان وأرض الصومال وكاتالونيا وإقليم كيبيك بكندا، ويستعذب هؤلاء التحدث عن فشل الاستفتاء في كردستان وعدم الاعتراف بجمهورية أرض الصومال وما إلى ذلك، في عملية تحايلية مكشوفة وخرقاء، الغرض منها تكريس الاستنتاج الذي وضعوه قبل بدء البحث في المعطيات كما قلنا، إذ يقول صاحب المقال ” و ما جمهورية ارض الصومال و انفصالها عن الصومال عنا ببعيد. أكثر من عشرين سنة لم يعترف بها احد و كردستان”.
الحقيقة إن هناك مشكلة لدى هؤلاء الإخوة ومؤيديهم، تكمن في أنهم يقومون بإسقاط تمنياتهم بالبحث عن قرائن تناسب هذه التمنيات، فهم إذ يبتهجون بالحديث عن أرض الصومال وكردستان وكاتالونيا والكيبك، لا يشيرون إلى تجربة فك الارتباط بين جمهوريتي تشيكيا وسلوفاكيا وقيام دولتين جارتين وصديقتين على أنقاض جمهورية تشيكوسلوفاكيا، ولا إلى تجربة جنوب السودان على ما فيها من تعقيدات أو تجربة تيمور الشرقية وانفصالها عن إندونيسيا، ناهيك عن تفكيك الاتحاد السوفييتي إلى خمس عشرة دولة، أو تفكيك الاتحاد اليوغوسلافي إلى أكثر من 7 دول، لأن ذلك سيؤدي إلى استنتاجات مزعجة للهدف الذي رسموه مسبقا، ولهؤلا نقول لهم إن لكل بلد خصوصياتها ولكل قضية تعقيداتها وفواعلها، كما لكل نزاع أسبابه وعوامله، لكن علينا أن نذكرهم وباختصار شديد أنه لا جنوب السودان، ولا كردستان العراق ولا الكيبيك ولا كاتلونيا ولا أرض الصومال ولا تيمور الشرقية كانت ذات يوم دولةً مستقلةً كاملة السيادة على أرضها، ودخلت في وحدة طوعية ما دولة شقيقة ثم جرى الغدر بها وغزوها وتحويل الوحدة الطوعية إلى احتلال كما جرى مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية من قبل شقيقتها الشمالية، وإذا كان هذا القول لا يعجب البعض فتلك مشكلته وحده ومن حقه أن يتمسك بالحماقات الجوفاء أو يتحرر منها إن هو أراد العودة إلى جادة الصواب
وللحديث بقية