أسهم سبينوزا بشكل فعال في النهضة الأوروبية وساعد في تأسيس العلمانية الغربية
عماد الدين الجبوري
سردنا في الحلقة السابقة فلسفة الأخلاق عند ابن سينا، وعلى الرغم من تأثره بأفكار الفارابي وأرسطو، لكنه تميز عنهما بنظرته العلمية، فالسعادة الإنسانية لا يمكن أن تكتمل من دون الجزء العلمي من النفس تجاه البدن المضاد لها، وتكميل قوتها العملية بالفضائل. وكذلك في تقسيمه إلى أنواع اللذات: عقلية وحسية وسامية وخسيسة.
باروخ سبينوزا (1632-1677)
في كتابه “علم الأخلاق”، الذي يعد أحد المؤلفات المهمة في توعية العقل الأوروبي من عصور الظلام، يتناول سبينوزا جميع الموضوعات الماورائية والمعرفية والطبيعية والكونية من منطلق أخلاقي فحسب. فوفق اعتقاده، فإن التأمل والتفكير وكل ما يمكن أن يضعه العقل البشري من أفكار ونظريات وتصورات، هدفه ينحصر في توجيه الإنسان نحو حياة سامية تبرز فيها السعادة وأهمية العقل. فالعقل أساس المعرفة وليس الحس، وأن المعرفة الإنسانية ترتبط بالأخلاق والسعادة والفضيلة.
وعلى الرغم من أن سبينوزا أنفق 15 سنة من حياته في تأليف “علم الأخلاق”، لكنه نشر بعد وفاته خوفاً من التصادم مع السلطة الدينية، خصوصاً أنه تعرض لمحاولة اغتيال، على أي حال، يتمركز كتابه في ثلاثة محاور رئيسة، “الله، والإنسان، والأخلاق”. ويرى سبينوزا أن الإنسان بصفة عامة يسعى إلى تحقيق الثروة والشهرة والمتعة، معتقداً أن هذه الأشياء هي التي ستجلب له السعادة. ولكن السعي في طلبها أو حتى الحصول عليها لا يوصله إلى تلك السعادة التي يبتغيها. لذلك، فإن تلك الأشياء ليست هي الهدف الحقيقي للإنسان الفاضل الذي يسمو نحو السعادة، لأن الثروة والشهرة والمتعة في النهاية مجرد وسائل وليست أهدافاً في ذاتها. وبما أن هذه الوسائل لن تؤدي بنا إلى السعادة الحقيقية أو الفضيلة الحقة، إذاً يتوجب علينا أن نتخلى عن استخدامها ونبحث عن وسائل أخرى.
إن السعادة والفضيلة والحياة الكريمة أهداف تتطلب وسائل خاصة من أجل تحقيقها، ولا يوجد وسائل متفقة مع تلك الأهداف غير العقل. إذ ليس بمقدور الإنسان أن يستخدم وسائل مختلفة في طبيعتها عن الأهداف، فالسعي نحو الثروة والشهرة واللذة مختلف في طبيعته عن السعي نحو السعادة، والفضيلة، والحياة الكريمة. وعليه، يجب أن تكون الوسيلة من طبيعة الهدف، وليس هناك من وسيلة توصل الإنسان إلى هذه الأهداف سوى العقل المستنير والتفكير القويم. فالعقل لا يطلب أمراً مناقضاً للطبيعة، وإنما يدعو الإنسان إلى أن يحب نفسه وأن يبحث عما ينفعه ويفيده حقاً، وأن يرغب في كل ما يقوده إلى كمال أعظم. وبما أن الفضيلة هي التي تمثل السلوك وفقاً لقوانين طبيعتنا الخاصة، وليس بمقدور الإنسان أن يحافظ على كيانه إلا وفقاً لقوانين طبيعته الشخصية، إذاً يترتب على ذلك ما يلي:
أولاً: أن مبدأ الفضيلة هو السعي نفسه الذي يبذله الإنسان من أجل حفظ كيانه الشخصي، وأن السعادة تتمثل في قدرته على حفظ كيانه.
ثانياً: أن رغبتنا في الفضيلة يجب أن تكون من أجل الفضيلة نفسها، فلا يوجد أفضل منها نفعاً.
ثالثاً: المنتحرون هم الذين عجزوا وقهرتهم العلل الخارجية المناقضة لطبيعتهم، إذ يتعذر علينا ألا نحتاج إلى الأشياء الخارجية لكي تساعدنا على حفظ كياننا، وأن نقطع الصلة بها تماماً.
وبحسب رأي سبينوزا، فإن “عجز القوة البشرية في الاعتدال والتحقق” هو العبودية، كما أن “الإنسان الخاضع لانفعالاته ليس له سلطة على نفسه، بل في يد القدر لدرجة أنه غالباً ما يكون مقيداً، على الرغم من أنه قد يرى ما هو أفضل له، من أن يتبع ما هو أسوأ”. (علم الأخلاق. طبعة إنجليزية)
وتعد الرغبة ماهية الإنسان من حيث تصورها، مدفوعة بموجب انفعال من انفعالاتها الذاتية لتحقيق فعل شيء ما. فالرغبة هي الشهوة الواعية بذاتها، وأنها مدفوعة للقيام بالأشياء الصالحة لحفظها. إذ إن سبينوزا لا يفصل بين شهوة الإنسان ورغبته، سواء كان الإنسان يعي شهوته أم لا، لأنها تبقى هي هي، وتضم جميع مساعي الطبيعة البشرية التي نطلق عليها لفظ الشهوة والإرادة والرغبة والاندفاع… إلخ. والطبيعة البشرية جزء من الطبيعة ذاتها، فالقوة التي تسمح للأشياء الجزئية، ومنها الإنسان، بالمحافظة على كيانها إنما هي قوة الله بالذات، أي قوة الطبيعة، ليس بوصفها لا متناهية بل من كون يمكن تفسيرها بالماهية الإنسانية الفعلية. ومن هنا، فإن قوة الإنسان التي يمكن تفسيرها بماهيته الفعلية، هي جزء من قوة الله أو الطبيعة اللانهائية، لأنها جزء من ماهيته ليس إلا.
وعن “معرفة الخير أو الشر فهي ليست سوى عاطفة اللذة أو الألم بقدر ما ندركه”. (المصدر السابق). فنحن نسمي خيراً أو شراً ما يكون نافعاً لحفظ وجودنا أو ضاراً به، أي ما يزيد أو ينقص ويساعد أو يعيق قدراتنا على الفعل. فالسعادة أو الحزن يكون عندما ندرك أن شيئاً ما يحدث فينا، فنسميه حسناً أو قبيحاً، وهكذا هي معرفة الخير والشر، إذ ليست أكثر من أن تكون غير فكرة السعادة أو الحزن ذاته. بيد أن هذه الفكرة متحدة بالانفعال على غرار اتحاد النفس بالجسم، فهي لا تتميز عن الانفعالات العامة ذاتها في الواقع، عن فكرة انفعال الأجسام إلا بحسب تصورنا لها، لذلك لا تعدو معرفة الخير والشر غير أن تكون الانفعال ذاته، من حيث وعينا به لا أكثر.
ولكن لا يمكن لنا معرفة الخير والشر الصحيحة إلا من جهة عدها انفعالاً فحسب. إذ إن الانفعال فكرة نثبت بها الذهن قوة تكون أعظم أو أصغر من قوى جسمها، فهو لا يحتوي على أي شيء إيجابي يمكن أن يزول بحضور الحق، وبذلك فإن المعرفة الصحيحة للخير والشر لا يمكنها أن تكبح أي انفعال، لأنها صحيحة. ولكن بمقدورها كونها انفعالاً وفي صورة ما إذا كانت أقوى من الانفعال موضوع الكبح، أن تكبح هذا الأخير بهذه الصورة فقط. فالرغبة التي تتولد من المعرفة الصحيحة للخير والشر يمكن أن تخمدها رغبات أخرى كثيرة متولدة من الانفعالات التي تقهرنا. إذ تنشأ بالضرورة من هذه المعرفة رغبة ما تكون أشد بقدر ما يكون الانفعال الذي تتولد منه أشد، سواء في الأشياء الحاضرة أو في المستقبل.
ويرى سبينوزا أنه “لا يمكن لأي شخص أن يرغب في السعادة وفي حسن السلوك أو العيش الرغيد، وفي الوقت نفسه لا يرغب في أن يكون ويتصرف ويعيش، أي أن يكون موجوداً بالفعل” (المصدر السابق). فالرغبة بالعيش السعيد أو السلوكية الحسنة وغيرها، إنما هي ماهية الإنسان نفسه، إنها الجهد. كما لا يمكن تصور أي فضيلة سابقة على هذا الجهد، وإذا تصورنا إمكانية ذلك، لكان تصور ماهية الشيء سابقاً على الشيء ذاته، وهذا محال. ولذلك، فإن الجهد أو السعي إلى حفظ الكيان هو المصدر الأول والوحيد للفضيلة، إذ لا يمكن تصور أي مبدأ آخر سابق عليه، كما لا يمكن من دونه تصور أي فضيلة.
وعن الإفراط والتفريط، ينص سبينوزا على أنه “قد يوجد في الحب والرغبة إفراط”. إذ إن الحب متعة مصحوبة بفكرة سبب خارجي، لذلك فإن الدغدغة التي تكتسبها فكرة السبب الخارجي هي الحب. وعليه، قد يوجد في الحب إفراط، كما أن الرغبة تكون أعظم بقدر ما يكون الانفعال الذي تتولد منه أعظم. وكما يمكن لانفعال ما أن يتفوق على أفعال الإنسان الأخرى، فكذلك يمكن للرغبة المتولدة من هذا الانفعال أن تتفوق على الرغبات
الأخرى، كما يمكنها أيضاً، أن تقع في الإفراط نفسه الذي يحصل للدغدغة. وعلى هذا النمط، يجري الأمر بالنسبة إلى الطموح والاحتقار والبخل والحسد والشجاعة والغضب… إلخ.
هذه مجمل تصورات سبينوزا في الأخلاق، وفق رؤية عقلية خالصة وخالية من تأثير اللاهوت الكنسي والفكر المدرسي، فأسهم بشكل فعال في النهضة الأوروبية عموماً، وساعد في تأسيس العلمانية الغربية خصوصاً. صحيح أن ثمرة هذه الأخلاق السبينوزية تبقى ضمن نطاق الحياة الطبيعية، لأنه يؤمن بالجوهر الواحد للوجود، وهذا هو مذهب وحدة الوجود، إذ له ما له وعليه ما عليه.
نقلا” عن أندبندنت عربية