كتب : صالح البيضاني
بات من المؤكد أن المجتمع الدولي، وفي مقدمته الولايات المتحدة، عازم على ممارسة نوع متصاعد من الضغوط لدفع الحوثيين للقبول بخطة وقف إطلاق النار في اليمن التي أعدها المبعوث الأممي مارتن غريفيث، وقبلت بها الحكومة اليمنية والتحالف العربي، لكن إلى أي مدى يمكن أن تفلح الضغوط الدولية في إجبار الحوثي على القبول بنهج السلام والتخلي عن مشروعه الأيديولوجي الذي لا يؤمن بمبدأ الخيارات السياسية؟
والحقيقة أن الإجابة على مثل هذا التساؤل لا تحتاج إلى المزيد من البحث في خلفيات الجماعة وتاريخها الطويل في التعامل مع الاتفاقيات والحوارات السياسية، فقد سارع قادة حوثيون بارزون بالفعل للرد على الحزمة الثانية من العقوبات الأميركية، بالتأكيد على أن لا شيء يمكن أن يعترض طريق الحوثيين لإكمال سيطرتهم على كافة جغرافيا اليمن انطلاقا من مفاهيم ورؤى دينية لا سياسية، وهو الأمر الذي يقدم تفسيرا واضحا لسبب رفض جماعة الحوثي لوقف هجماتها على مأرب ضمن أي اتفاق لوقف إطلاق النار، والإصرار على فصل مسار التفاوض مع التحالف العربي، الذي تقوده السعودية، عن مسار التفاوض الداخلي الذي يبدو أن الحوثي يعتزم ربطه بإكمال مشروعه على الأرض وفرض سياسة أمر واقع، لإجبار اليمنيين على القبول بواقع دون المشاركة في صنعه.
ويبرز النظام الإيراني في تحديه للمجتمع الدولي ومقاومة كل أشكال الضغوط الاقتصادية والسياسية التي يتعرض لها كأنموذج مثالي محتمل لسلوك الحوثيين القادم، حيث قابلوا المطالب الدولية بوقف هجومهم على مأرب بإرسال المزيد من الصواريخ الباليستية وقتل العشرات من المدنيين في المدينة المكتظة بالنازحين، كما ردّوا على البيانات الدولية التي تطالبهم بالتوقف عن استهداف الأراضي السعودية بتصعيد هجماتهم باستخدام الطائرات المسيّرة المفخخة، أما الجهود الدولية والأممية والوساطات، التي كان آخرها وساطة مسقط لإقناع الحوثيين بالقبول بالخطة الأممية لوقف إطلاق النار، فلا يبدو أنها وجدت آذانا صاغية لدى قادة الجماعة الذين تسرب إليهم الشعور بالنصر وهو ما ظهر جليّا من خلال تصريحات القوة والتحدي التي يطلقونها عادة في مثل هذه الأوقات.
كما فشلت وستفشل كل رهانات المجتمع الدولي في دفع الحوثيين لحلبة السلام عن طريق ممارسة ضغوط كلاسيكية على جماعة مسلحة تقوم على أفكار بدائية
ويبادل الحوثيون سريعا بين خطابي النصر والمظلومية في حالة تناقض تبدو كامتداد ثقافي تاريخي، حيث يتمنطقون بخطاب القوة عند شعورهم بتحقيق انتصار من أي نوع على خصومهم، في حين يبرزون خطابا مغايرا قائما على فكرة المظلومية والتعرض للاضطهاد والإقصاء عندما يكونون في أشد لحظاتهم وهنا وضعفا، وهي الصورة التي تكرّرت منذ العام 2004 وحتى اليوم على شكل مؤشر قياسي يصعد حينا ويهبط أحيانا أخرى.
وتكمن المشكلة الأساسية في تعامل المجتمع الدولي والأممي مع الملف اليمني في الجهل بطبيعة الصراع وخلفياته الثقافية والفكرية، وهو ما انعكس على طريقة تعاطي العالم أو الدول الفاعلة فيه مع هذا الملف. ويبدو ذلك بيّنا بدرجة رئيسية في تعامل واشنطن مع “الحوثيين”، حين دشّنت الإدارة الأميركية الجديدة عملها الدبلوماسي من خلال رفع الجماعة الحوثية من قائمة المنظمات الإرهابية، انطلاقا من رؤية روّج لها الحوثيون أنفسهم بأنهم يعانون من حالة عزلة ونبذ إقليمي ودولي قلّص من خياراتهم وأجبرهم على مواصلة مشوار عنفهم العسكري. لكن النتيجة كانت صادمة لواشنطن كما يبدو، حيث أدركت مؤخرا أنها وضعت المزيد من الحطب على نار العنف الحوثي المتقدة وأنها لم تشجع الجماعة على الالتحاق بالسلام بقدر تحفيزها على إكمال مسيرة الحرب مدفوعة بشعور زائف بالانتصار على العالم، سوقته لأتباعها.
وفي المرحلة التالية وفي محاولة لعكس نتائج القرار الأميركي، فرضت واشنطن حزمة من العقوبات المالية على قادة عسكريين حوثيين لم يغادر أي منهم اليمن يوما للخارج ولم يزر بنكا ولم يمتلك حسابا مصرفيا يوما ما، ولا تهمه سمعته السياسية عندما توصمه دولة بالإرهاب، وهو الذي ينادي خمس مرات في اليوم على الأقل بعد كل صلاة بموتها عبر شعار الحوثيين الشهير.
كما فشلت، وستفشل باعتقادي، كل رهانات المجتمع الدولي في دفع الحوثيين لحلبة السلام عن طريق ممارسة ضغوط كلاسيكية على جماعة مسلحة تقوم على أفكار بدائية كالتفوق العرقي والتمكين الإلهي، مع الإشارة إلى أن الضغوط التي مارسها ويمارسها المجتمع الدولي اليوم على الحوثيين لوقف هجماتهم على مأرب لا تقل عن الضغوط التي مورست على “الشرعية” في 2018 لوقف استكمال تحرير مدينة الحديدة، غير أن ثمة فارقا جوهريا هو أن الحكومة اليمنية استجابت لهذه الضغوط، بينما يستمر الحوثي في تجاهلها والرد عليها بالمزيد من التصعيد.
وفي ظل تعقيدات متشابكة تتعلق بالذهنية الحوثية، واعتبار أن ما يخوضونه من حرب ذات طابع مقدس لا تقبل التراجع خطوة إلى الوراء، تتبدّد كل مساعي العالم بوقف الحرب في اليمن، كما فشلت كل الرهانات سابقا على قتل وحش الإرهاب أو حتى ترويضه، وهي سمة من سمات الجماعات العقائدية التي تجيد اللعب بمصطلحات النصر والهزيمة والحوار، فتجعل هزيمتها نصرا ونصرها تمكينا وقبولها بالحوار مجرد “خدعة”.
نقلا” عن العرب اللندنية