الحياة وفق نيتشه في نزاع وصراع متواصل والبقاء فيها للأصلح دائما
كتب : عماد الدين الجبوري
عرضنا في الحلقة السابعة فلسفة الأخلاق عند كانت، إذ ترتكز على الواجب، والواجب يقوم على احترام القانون أصلاً، وأنه صادر من الإرادة الخيرة، وبذلك يعد الواجب ضرورة عملية قابلة للتطبيق على جميع الكائنات العاقلة، ما يجعل الأخلاق قانوناً يمكن تطبيقه على جميع الإرادات البشرية أيضاً.
نيتشه (1844-1900)
رفض فرديريك نيتشه الأخلاق السائدة في عصره، لأنها ضعيفة واهنة، والضعف هو النقيصة والشر، في حين أن القوة هي الفضيلة السامية والخير. فالحياة في نزاع وصراع متواصل والبقاء فيها للأصلح دائماً، وأن الخير وحده بمقدوره أن يحيا ويظفر، بينما الشر يخور ويسقط. وفي فصل “نقد الأخلاق” استهل نيتشه بهذا النص: أنه “محاولة للتفكير في الأخلاق من دون الوقوع تحت تأثير تعويذتها، وعدم الثقة في إغراء إيماءاتها ونظراتها الجميلة. كلمة يمكننا أن نبجلها، وتناسب دافعنا للعبادة التي تثبت نفسها باستمرار من خلال تقديم الإرشاد في الخاص والعام، هذه هي وجهة النظر المسيحية التي كبرناها جميعاً”. (إرادة القوة. طبعة إنجليزية).
إن نيتشه وهو يأخذ مفهوم الإرادة من شوبنهاور، ومبدأ النشوء والتطور من دارون، ليصل بنقده الأخلاقي العملي إلى نتيجة يهدم فيها مبادئ الأخلاق النظرية التي ترتكز عليها المسيحية. على سبيل المثال، لننظر إلى بسمارك الذي عرف حقائق الحياة، إذ استطاع بالقوة أن يوحد الدويلات الصغيرة في ألمانيا، ليجعلها إمبراطورية جبارة، ويفرض قيادته على النمسا، وأخضع فرنسا، واقتلع من أوروبا الأوهام الفاسدة والديمقراطية البالية، هذه هي الأخلاق الجديدة، أخلاق القوة التي انبرى نيتشه في حمل رايتها والدفاع عنها.
ولذلك يرى نيتشه، أن “هناك نقصاً في المعرفة والوعي بالثورات التي حدثت بالفعل في الأحكام الأخلاقية، وكيف تمت إعادة تسمية ‘الشر’ بشكل أساسي عدة مرات ‘بالخير’. أشرت إلى إحدى عمليات النزوح هذه بمصطلح ‘أخلاق العادات’. حتى الضمير قد غير مجاله، كان هناك ألم في ضمير القطيع”. (المصدر السابق).
فالأخلاق كعمل من أعمال اللاأخلاق، أن تكتسب القيم الأخلاقية السيادة، وبذلك تساعدها كثيراً من خلال التأثيرات غير الأخلاقية، وهذه من تناقضات الأخلاق نفسها دائماً. والمطلوب هنا، أن نستخدم الصدق والشك والحكم الصحيح، خصوصاً تجاه لا أخلاقية الإيمان بالأخلاق. وكذلك يجب أن تقاس جميع الظواهر الإحيائية وتحكم عليها بالقيم الأخلاقية.
بمعنى ثان، يجب أن نبني الأخلاق على أساس علم الأحياء، فنحكم على الأشياء بقيمتها للحياة، وأن المقياس الحقيقي الذي نعلم به الفرد أو المجتمع أو الجنس هو النشاط والمقدرة والقوة، وهذه تكون قائمة على الحالة الجسدية، إضافة إلى منع عوامل الفساد والانحلال في أخلاق القوة.
أما عن محاولة تعريف الحياة بواسطة الأخلاق، فيجب عدم الشعور بالأخلاق على أنها نقيض، وبالنسبة إلى تعارض الحياة والأخلاق، فإن الأخلاق محكومة ومدانة من وجهة نظر الحياة، لأنها قد أضرت بالحياة.
ويوضح نيتشه، أنه “يجب عدم الخلط بين نوعين من الأخلاق: الأخلاق التي تدافع بها الغريزة الصحية عن نفسها ضد الانحطاط الأولي، وأخلاقيات أخرى يحدد بها هذا الانحطاط ذاته وتبرره وتقوده نحو الأسفل. الأولى، عادة ما تكون رواقية وقاسية ومستبدة (كان المذهب الرواقي نفسه يرى التشدد في حد ذاته بمثابة أخلاق حدوة المكابح). الثانية، حماسية وعاطفية ومليئة بالأسرار، لديها المرأة و’المشاعر الجميلة’، (كانت هكذا أخلاق المسيحية البدائية)”. (المصدر السابق).
ومن أخلاق القوة تبرز أخلاق البطولة كنتيجة حتمية في الفكر النيتشوي، لا سيما أن السلوك الإنساني فيه أخلاق السادة وأخلاق العامة. الأولى، كانت سائدة قديماً، بخاصة بين الرومان، فالفضيلة عندهم هي الرجولة والشجاعة والإقدام والجرأة. أما الثانية، فجاءت من الشرق، لا سيما من اليهود جراء خضوعهم السياسي، الذي يولد الضعة والإيثار بطلب المعونة من الآخرين، ولذلك طغت على أوروبا أخلاق قطعان السوقة، فانهارت بسببها القوة والبسالة وحب المخاطر، وحل محلها حب الأمن والسلام، واستبدل المكر بالقوة، والانتقام الخفي بالانتقام العلني، والرأفة بالعنف، والتقليد بالابتكار وصوت الضمير بكبرياء الشرف، وهكذا.
وبلغ التقييم الأخلاقي في الطبقات الذليلة ذروته بتعاليم المسيح، إذ جعل الناس سواسية في الحقوق، فتفرعت من مذهبه الديمقراطية والاشتراكية، وأصبح التقدم الإنساني يقترن بعبارات المساواة وما يتعلق في معناها، والحياة التي تعتمد على مثل هذه الأفكار ستنزلق إلى الهاوية. وأن آخر مراحل هذا التدهور هو تمجيد الرحمة والتضحية بالنفس والشعور بالعطف على المجرمين. فالرحمة ليست أكثر من الشلل الذي نفقد فيه بعضاً من قوتنا الشعورية التي نستهلكها في مخلوقات لا يرجى منها إصلاح.
إن الأخلاق هي قبل كل شيء إرادة للقوة، حتى الحب ما هو إلا رغبة في الامتلاك، فالغزل نوع من المقاتلة، والزواج ضرب من السيادة، فالبعض يعتقد أنه ينشد الخير لإنسان آخر، وكثيراً ما يكون هذا الخير معارضاً لخيرهم، بيد أنهم لم يفعلوا هذا إلا ليملكوا هذا الإنسان الآخر. وكذلك حب الحقيقة عبارة عن رغبة في امتلاكها ليس أكثر، إذ قد يتوق الباحث أن يكون أول كاشف لها، لينعم بها وهي عذراء.
وتجاه إرادة القوة تجد أن العقل والأخلاق عاجزان، بل وخاضعان لها، فهذه النظم الفلسفية كلها لا تدل على الحقيقة المنشودة، ولكنها تصوير لرغباتنا فحسب. وهذه الرغبات بمثابة النبضات إلى إرادة القوة، فهي التي تحدد أفكارنا، وإن التفكير الشعوري هو أضعف التفكير. وقد بالغ الإنسان كثيراً في تقدير إدراكه العقلي، بينما الإدراك عملية ثانوية سطحية ليس إلا.
إن أخلاق أوروبا صارت قائمة على أساس منفعة السوقة، وأصبح الخير ألا تفعل شيئاً فوق قدرة الناس، وقد هبط الأقوياء إلى مستوى الضعفاء، وإذا انتقلت عدوى الفضائل الصالحة عند السوقة إلى الرجال الأقوياء، فستحولهم إلى طينة السفلة وسيؤدي إلى التدهور والسقوط. ولذلك، قبل فعل أي شيء علينا الالتزام بمبادئ الأخلاق، ونبقي على اختلاف الطبقات في المجتمع، وأن نعلم أنه ما ينافي الأخلاق أن نقول، إن ما يصلح وما يحق لفرد يصلح ويحق لفرد آخر. فاختلاف المراتب يتطلب اختلافاً في الصفات، وأن الفضائل الشريرة التي يتصف بها الأقوياء ضرورية للمجتمع، مثل فضائل الخيرات التي يتصف بها الضعفاء على حد سواء.
إن الشر والحسد والكراهية شروط لا بد منها في مسير التنازع والاختيار والبقاء، ولهذا يجب أن نحيي الخير بجانب من الشر، مثلما نصلح العادة بشيء من التجربة والتجديد، إذ يستحيل على الإنسانية أن تتقدم من دون أن تحطم ما اعتادت عليه، وتهدم النظام الثابت، فإن لم يكن الشر خيراً لاختفى من الوجود. ولا يفوت على نيتشه مسألة الإفراط والتفريط، إذ يحذر من الإسراف في الخير، ولا بد للإنسان أن يتقدم في خيره وفي شره سواء بسواء.
ومن أجل أن ننشئ الإنسان السامي “سوبرمان” الذي يكون أسمى من الخير والشر، فيجب أن نأخذ بأسباب البسالة من دون الخير، لأن الخير هو كل ما يزيد الشعور بالقوة هو إرادة القوة، هو القوة نفسها. أما الشر فهو كل ما ينشأ من الضعف، هو الضعف، في حين يتميز الإنسان السامي أو الأعلى بحبه للمغامرة والمخاطرة بشرط أن يكون لهما هدف، لا سيما أنه ترك السعادة لعامة الناس. إذ إن “الشر ضروري وأفضل إلى الإنسان السامي. وربما كان من الصالح لواعظ هؤلاء الناس الصغار أن يتحملوا خطيئة الإنسان”. (هكذا تكلم زرادشت. طبعة إنجليزية). فما يتمتع به الإنسان السامي من مقومات العقل والكبرياء والنشاط، فإنها ذات انسجام واتساق فيما بينها، وتكون العواطف قوة دافعة لها، ويوحدها الهدف الجليل الذي يصوغ شتى الرغبات في شخصيته القوية المتزنة.
إن من علامات الإنسان السامي أن يتخذ لنفسه غرضاً يسمو به فوق الناس، ويسلك في سبيل تحقيقه ما يشاء من الوسائل، فإذا أردت أن تكون رجلاً سامياً، فعليك أن تسمو عالياً في تنظيم نفسك، وأن تشدد الحساب على نفسك، كما يجب على الناس الذين يحبون الحياة والتقدم، أن يلتفوا حول هذا الرجل، لأنه فيه ضالتهم المنشودة. وفي حالة العجز عن تنشئة الرجل السامي، فعلينا أن نمهد له الطريق، ويجب أن نتعاون جميعاً في وجوده وبغض النظر عن الاختلاف في الموطن والزمن.
معنى هذا، أن المسلك نحو الرجل السامي يجب أن يكون من خلال الطبقة الحاكمة (الأرستقراطية) وليس عبر حكم الشعب (الديمقراطية)، بل على الديمقراطية أن تنمحي قبل أن يتأخر الزمن فتفلت الفرصة السانحة، وأول خطوة في تحقيق ذلك هي تحطيم المسيحية في صدور الرجال المتفوقين، إذ كان انتصار المسيح بدء الديمقراطية، ولا يتجذر الإنجيل في الطبقات السفلى إلا في عصر ينحط فيه الحكام عن الحكم الصحيح. ولا سبيل لأوروبا إلا بالنقيض، كما حدث بغزو السادة التيوتون، فرسان الحروب، فأحيوا فيها الرجولة والفضائل القديمة، وغرسوا جذور الطبقات الأرستقراطية الحديثة، ولم يكونوا مشحونين بالأخلاق بل كانوا أحراراً من كل القيود الاجتماعية.
هكذا هي الأخلاق عند نيتشه، تدور حول القوة وحدها، وهي فوقية الوجود الاجتماعي التي تخص علية القوم المتميزين، ويستخدمها الضعفاء كسلاح ضد الأقوياء. فلا عجب أن تأثر به أودلف هتلر (1889-1945) بدرجة شديدة، وصار عراباً عند النازيين. ومع ذلك، يُعد نيتشه أحد أركان البناء الفكري عند الغرب في القرن الـ20.
نقلا عن أندبندنت عربية