عرّف سقراط الحرية بأنها “قدرة الإنسان على فعل الأفضل” ويعني به الخير
كتب : عماد الدين الجبوري
تُعدّ الحرية الإنسانية من أخطر المواضيع التي دارت حولها أفكار ونظريات ومعتقدات دينية وفلسفية وأخلاقية واجتماعية، تتلاءم أو تتنافر مع بعضها البعض بحسب ما تشكله من خطورة في قضايا الحرية نفسها، إذ هناك من يرى أن معصية إبليس اللعين للأمر الإلهي برفض السجود لآدم، تمثل الحرية التي منحها الخالق لمخلوقه، وبموجبها يكون الثواب أو العقاب الأبديين. كما أن حرية الاختيار هي التي دفعت آدم إلى أن يرتكب المعصية ويفعل “الخطيئة الأولى”.
وهناك من ينكر وجود الله الخالق، وينظر إلى الحرية على أنها مكتسب طبيعي لتطور الإنسان مادياً في هذا العالم، وكذلك هناك من يؤمن بالله الخالق، لكن يرى وجود الإنسان، مثل بقية الكائنات، خاضعاً لقوانين الطبيعة والكون.
في أي حال، هل الإنسان كائن حر؟ وهل حريته تتجاوز ذاته بالاختيار أو مجبوراً؟ كيف نفهم حريتنا؟ وأين نتجه بها داخلياً وخارجياً؟ الأسئلة كثيرة والأجوبة متشعبة، وسنعرض رأينا في ختام هذه الدراسة، ونستهل أولاً بقسم من الآراء والأفكار التي تناولت هذه المشكلة الشائكة قديماً وحديثاً.
فلاسفة اليونان
عرَّف سقراط (469-399 ق. م.) الحرية بأنها “قدرة الإنسان على فعل الأفضل”، ويعني به الخير، والخير يعني الأخلاق المرتبطة بالمعرفة، التي هي المدخل الرئيس لفهم كل شيء، فالمعرفة فضيلة أي خير وهو الأفضل. وهكذا نظر سقراط إلى الحرية الإنسانية من منطلق رحب الأفق، فالأخلاق تسمو عالياً عندما يقدّم الإنسان ما هو الأفضل ليكون حراً، وبتلاشي الأخلاق وتنوب منابها الفحشاء وسوء الخلق، فالإنسان يتجه نحو العبودية لا الحرية. كما أن الشر والرذيلة لا يرتكبهما الإنسان مختاراً، بل بسبب الجهل الذي ينفي فعل اختيار الأفضل، وبذلك تنتفي الحرية.
كان سقراط على خلاف حاد مع السفسطائيين الذين يرون فكرة الحرية من منطلق الحس الطبيعي، وليس الفهم العقلي، بينما سقراط يؤكد أن المعرفة العقلية هي شرط الحرية التي هي أساس فعل الخير. ومن هنا، جعل للحرية بُعداً أخلاقياً لم يكن مطروحاً من ذي قبل، واستمر هذا المفهوم في الفكر الفلسفي منذ ذلك الحين إلى الآن. فالإنسان الحر هو العارف بالخير القادر “على فعل الأفضل”. وبحسب رأي سقراط، فإن أقصى ما تهدف إليه الحرية هو ضبط النفس تجاه إغراءات الحياة وتقلبات الواقع، والنظر المتواصل في تقديم الأفضل من أجل تحقيق الخير.
وأظهر سقراط ممارسته لهذه الحرية عندما حاول تلامذته تهريبه من السجن، بعد صدور حكم الإعدام بحقّه لأنه أفسد عقول الشباب، لكنه أبى إلا أن يواجه الموت دفاعاً عن معتقداته العقلية، مخاطباً تلامذته، “كنتم تودّون أن تحملونني أبكي وأنحب، أفعل وأقول كل الأشياء التي أعتبرها لا تستحقني، لكنكم معتادون على سماعها من الآخرين، إلا إنني لم أفكر في ذلك الوقت، أنه يجب عليّ الانحدار إلى الذل لأنني كنت في خطر، ولست نادماً الآن على الطريقة التي دافعت بها عن قضيتي، فأنا أفضّل الموت كنتيجة لهذا الدفاع على أن أعيش كنتيجة النوع الآخر”. (الأيام الأخيرة لسقراط، طبعة إنجليزية).
وعلى نهج سقراط في مفهوم الحرية، جاء أفلاطون (427-347 ق. م.) بالتأكيد أكثر على أن الإنسان الحر هو الذي يفعل الخير، ولا يخضع لأي ضرورة مادية أو معنوية. كما نظر أفلاطون إلى الحرية من منطلق مدني تسوده القوانين والاستقرار، فالدستور كفيل بضمان حريات جميع طبقات المجتمع، إذ “ستشرح القوانين نفسها الواجبات التي ندين بها للأطفال والأقارب والأصدقاء وزملائنا، وكذلك الخدمة التي تتطلبها السماء نحو الأجانب، وسوف تخبرنا بالطريقة التي يجب أن نتصرف بها بصحبة كل من هذه الفئات من الناس، إذا أردنا أن نحيا حياة كاملة ومتنوعة من دون خرق القانون”. (النواميس، طبعة إنجليزية).
وبذلك، قسّم أفلاطون الحرية المدنية إلى ثلاث درجات بحسب طبقات المجتمع، ومنحهم حريات متفاوتة وفق طبيعتهم البشرية: المنتجون (الحرفيون والمزارعون) الذين يمتلكون حرية التملك والاقتصاد فقط، ثم المنفذون (الجنود والمحاربون) الذين يدافعون عن الدولة، ثم الحكام الذين يتمتعون بالحرية السياسية الكاملة. وهذا التقسيم الاجتماعي وسن القوانين، يعني أن أفلاطون يرفض فكرة الحرية المطلقة، كما يرفض المساواة بين الناس أيضاً، فحريتهم ترتبط بما يناسبهم في ظل دستور الدولة الهادف إلى تحقيق العدالة للجميع.
أما عن حرية الشعراء والفنانين في النظام الأفلاطوني، فقد فرض عليهم قيوداً معينة، لأنهم يلفّقون الخرافات، إذ “أخبرنا كلٌ من هسيود وهوميروس وشعراء آخرين أيضاً، الذين جمعوا الخرافات الكاذبة للبشرية وربطوها بها، وما زالوا يروونها”. (جمهورية أفلاطون، طبعة إنجليزية).
وإذ أكد أفلاطون ثنائية الخير والمعرفة التي طرحها سقراط في مفهوم الحرية، فإن أرسطوطاليس (384-322 ق. م.) نقد هذه الثنائية، إذ يمكن أن يفعل الإنسان الشرور والآثام بالرغم من معرفته بالفضيلة. كما أن فعل الخير يتوقف على عوامل أخرى غير العقل والمعرفة، فالإرادة والنفس لهما دورهما في الحرية أيضاً، إذ لكي نصل إلى الحرية لا بد من وجود الاختيار الصائب، الذي يلتقي فيه العقل مع الإرادة في آن، وقد وصف أرسطو هذا الوضع بأنه الفضيلة، التي تُمكّن الإنسان من خلال إرادته أن يفعل الصواب باستخدام الفكر الواعي. أما الأفعال النابعة من الجهل، فهي الانحدار والسقوط في العبودية المضادة للحرية.
الإنسان الحر، وفق المفهوم الأرسطي، هو القادر على اختيار فعل إرادي من دون تأثير خارجي، بل من خلال معرفة عقلية واضحة به. وكذلك يرى أن الحرية لها شكلان هما: حرية الأفراد، باختيار نمط حياتهم وطريقة معيشتهم كما يريدون من غير تدخّل من الدولة في شؤونهم. وحرية المواطنين بالمشاركة في مناصب الدولة العامة، والضلوع في مهمات القوانين والدستور بالحوار والتشاور، إذ “تنتمي الدولة إلى ترتيب ‘الخليط’ بالطريقة ذاتها التي تنتمي إليها كل الأشياء الأخرى، التي تتكوّن من ‘الكل’ الواحد، ولكن ‘الكل’ يتكوّن ليس بأقل من عدد من الأجزاء المختلفة. في هذه الحالة، من الواضح أنه يجب علينا التحقيق في طبيعة المواطن قبل الاستفسار عن طبيعة الدولة. [أي الكل يتكون من كل جزء]”. (سياسة أرسطو، طبعة إنجليزية).
وإذا نقد أرسطو ثنائية سقراط التي أيّدها أفلاطون، إلا أنه اتفق معه في مبدأ الحرية المدنية، وكذلك في تقسيمه لطبقات المجتمع، فالحرية لا يمكن تحقيقها إلا في المجتمع المنظم الخاضع للقوانين والدستور. لكن أرسطو أهمل النظر في مجالات الحرية بين المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات. ومع ذلك، فإن المفهوم الذي حدده أرسطو لفكرة الحرية، بأنه عملية الاختيار القائم على العقل والإرادة معاً، وهذا المفهوم لم يتجاوزه أي فكر فلسفي عبر التاريخ سواء في الغرب أو في الشرق.
نقلا عن أندبندنت عربية