كتب : محمد علي محسن
من سوء حظ الفقيد الراحل اللواء علي قاسم طالب ، أنه كان محافظًا في المكان والزمن الخاطئين .
سبعة أعوام غلاظ شداد ، وهي أكبر مدة مقارنة بنظرائه ، لكنها الأسوأ على الاطلاق ، فأول شيء وقف في وجهه هو إنتخابه ومن سلطة محلية غالبية أعضائها من أحزاب المشترك وليس من المؤتمر الحاكم والمهيمن على معظم محافظات اليمن ، وفق انتخابات سبتمبر ٢٠٠٦م .
المسألة الأخرى إنه ومنذ وصوله منتصف العام ٢٠٠٨م والرجل في مواجهة إثبات وجوده كمحافظ وفي بيئة معارضة وبقسوة ، ولولا حنكته لما بقي في كرسيه بضعة أسابيع ، ومع ذلك قدر باستمالة أغلبية المعارضة وبشكل مثير للدهشة والإعجاب .
ما لا يعلمه الكثير هو أن الإدارة المدنية غير العسكرية ، فشتَّان بين أن تكون قائدًا ويخضع مرؤوسيك لك بحكم تراتبية النظام الصارم ، وبين أن تكون مسؤولًا مدنيًا ولمحافظة كل ما فيها يغلي وينفجر في وجهك ويتوجب عليك أن تكون مرنًا وصبورًا وممسكًا العصا من وسطها وليس من طرفها .
ما لم يكن في حسبان المحافظ هو أن انتخابات الرئاسة والمحليات سبتمبر ٢٠٠٦م ومن ثم إنطلاقة ما سمي وقتها بالحراك الجنوبي نهاية مارس ٢٠٠٧م كان أن أفرزت واقعًا جديدًا ، من جهة زيادة رقعة الإحتجاج ، وكذا سقف المطالب والحريات .
لهذا وجد ذاته منشغلًا بتهدئة او مطفئًا الحرائق المستعرة هنا أو هناك ، والمؤسف أن أغلب جهده أهدر في مواجهة من يفترض أنهم رفاق وأبناء يشاطرونه اهتمامه بالتنمية والخدمات الأساسية ..
قلت ذلك ومرارًا : لا استطيع مضاهاته بأسلافه ، كما ولا استطيع الحكم عليه بالإخفاق ، فالفقيد دُفع به إلى وظيفة لا يحسده عليها عدوه ، حاول جاهدًا أن يرضي الجميع ، فلأنه أفلح تنمويًا بسبب تعنت ورفض الساخطين الذين حالوا دون تنفيذ مشروعات حيوية كالماء والصرف والطرق ، أو أنه نجح أمنيًا فرضي عنه نظام صالح .
نعم كان قائدًا عسكريًا مميزًا ، وأثبت أنه كذلك حين رمى به صالح إلى مسقط رأسه ” الضالع ” ولمهمة إدارية مدنية . كان مرنًا وحذرًا أكثر من اللازم ، فلم يرد استخدام القوة خشية من تبعاتها وفي وقت يحتم عليه استخدامها .
كان حذرًا وصبورًا ولحد أنه ضحى بذاته ومنصبه ، فلم تكن تستهويه لغة العنف ، ربما تجربته العسكرية المديدة جعلته يتعاطى مع المشكلات بحكمة وعقلانية ، رافضًا القتل والسطوة والجبروت ، وأن حدثت فإنها تجاوزًا لمشيئته ، وقد أعرب عن ذلك صراحة وفي مواضع عدة .
لقد كانت الضالع مساحة ساخنة ولا ينفع لها وليًا أو نبيًا ، فجُل ما فيها يستلزمه اشياء تفوق قدرات وامكانيات المحافظ ، وأقصد هنا صانع القرار الذي غفل أو أهمل حقيقة أن الحرب لا تصنع استقرارًا سياسيًا ، وإنما توجد ندوبًا وشروخًا عميقة في نسيج المجتمع .
قد يتساءل أحدكم : الفقيد صالح الجُنيد عُيِّن في ظرفية أسوأ بكثير ، إذ كانت الحالة وصلت للمواجهات العسكرية ، ومع ذلك أوجد استقرارًا وتحققت تنمية غير معهودة في تاريخ الضالع .
وسؤال مثل هذا قد يبدو صحيحًا ، لكننا وإذا ما نظرنا للتاريخين فلن نعثر على مقاربة منصفة ، فعلى الأقل في عهد الجُنيد كانت هناك ثمة دولة قوية ومتماسكة ، كما والرئيس الأسبق صالح كان في أوج نفوذه وقوته ، بينما في زمن طالب كل شيء بدأ يتهاوى ويسقط رويدًا رويدًا .
حين علمت أنه في صنعاء أسوة بالكثير ممن جلبهم نظام صالح إلى السبعين هاتفته من البيت وبحضور ندمائي في المقيل ، قلت له : أخي المحافظ أخشى أن تكون مُعبِّر بعد سيل ، فطلب أن أعيد ثانية ما قلته ، فأعدت عليه ، وهنا أطلق ضحكة مدوية ، طبعا عرف مغزى القول الشهير عندنا في الضالع ، إذ لا فائدة ترجى من إرهاق نفسك في إصلاح مجرى السيل بعد سقوط الغيث وزوال الوقت .
حاول أن يفعل شيئًا لأبناء محافظته ، لكن تلك المحاولات ذهبت سدى بسبب الظروف الأمنية والسياسية التي كانت سائدة وحالت دون استفادة المحافظة من وجوده .
أوفد المركز الوزير الألمعي الراحل عبد القادر هلال ،وزير الإدارة المحلية ، في مهمة تهدئة للحالة التي هي في الأساس سياسية ونتاج لمقدمات وإرهاصات بلا حصر ، ولقد نجح نسبيًا في الممكن مثل إعادة عشرات القادة العسكريين والمدنيين المسرحيين قسرًا ، وعمل مصفوفة بكامل إحتياج السكان .
لكن الغليان كان أوسع وأشمل ، إذ تبددت تلك المبادرة وانتهت في أضابير المركز ، كما وزادت الحالة حرجًا وسوءًا حين زادت رقعة الإحتجاجات الشعبية وبدأت نذرها تقترب من الحاكم ودائرته في صنعاء العاصمة .
ما أكتبه الآن ليس تبريرًا ، بقدر ما هو واقع يستحيل تجاوزه ، فالمحافظ تسلَّم السلطة وفي ظرفية حرجة يستعصى فيها إحراز النجاح بسبب الأوضاع الأمنية والإقتصادية المتأزمة .
اختمرت في ذهنه فكرة مغايرة لم تكن بحسبانه أو تقديرات أحد أخر ، وهي أن يكرس جُلّ وقته وجهده لمهمة تجنيب المحافظة الصدام العنيف ، نجح في احايين وأخفق في غيرها ، وهكذا ظل حاله وإلى أن انتقلت تلك الانتفاضة الشعبية من الضالع وجوارها إلى العاصمة وسواها .
كان من النوع الذي يستوعب ويدرك ، ولديه نوايا حسنة ، صبور ووثوق وأخلاقه عالية ، فلم أسمع منه بذيئًا أو إساءة جارحة لكرامة أحد ، على العكس من ذلك فحتى في أوقات إنزعاجه أو إنفعاله من مسؤول أو فعل رأيته حصيفًا ومهذبًا ودون تشهير أو إساءة .
كنت اعاتبه بكونه لم يتستخدم تلك القوة العسكرية والأمنية المسلطة على التظاهرات السلمية ، بحيث يتم توجيهها ناحية من يقطع الطريق ويخرب الكهرباء ويمنع التنمية ، فإجده ضاحكًا وقائلا : وانا مثلك اريدها ، ولكن حين تخرج الدبابة من المعسكر وتطلق أول قذيفة فلا أحد يسمعنا ، الكل أصنج يا محمد “.
كان أبًا ورفيقًا وقائدًا ومحافظًا من نوعية فريدة ، ويقينًا أن الظروف كانت أكبر منه وسيأتي اليوم الذي سينصفه وسيروي للإجيال القادمة معاناته مع أهله ورفاقه الذين خذلوه وفي أشد الأوقات حاجة لهم .
الله يرحمك أيها الإنسان الحكيم ، ويتغمدك الله برحمته وغفرانه ، ويسكنه الفردوس الأعلى ، ويلهم ابنائك وأقاربك وأصدقائك الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون ..