يستمر عدد كبير من الشركات التي استفادت من الاستعمار والعبودية منذ مئات السنين بالازدهار اليوم، لكن نشاطاتها تهدد أرواح الناس في الكرة الأرضية
ديفيد وايت
وسّعت احتجاجات حركة “حياة السود مهمة” التي وقعت خلال فصل الصيف منظورنا التاريخي بطرق متعددة. وربما يكون أقلّها بروزاً الطريقة التي سحبت فيها تلك الاحتجاجات أسماء بعض المؤسسات الاستعمارية الربحية البريطانية من تحت الحجارة والقواعد الحجرية التي انتصبت فوقها تماثيل شخصيات من نوع إدوارد كولستون وسيسيل رودس، إذ بدأ الموضوع الذي نادراً ما ذُكر في دوائر النقاش العلني عن ماضينا الاستعماري حتى يونيو (حزيران) الماضي، أي الدور الخلافي لشركة “جنوب أفريقيا البريطانية” التي امتلكها رودس، والشركة “الأفريقية الملكية” المملوكة من كولستون، اللتين أرستا دعائم تجارة الرقيق البريطانية، يُطرح في صفحات “دايلي مايل”، من بين أماكن أخرى. وتنضم هاتان العلامتان التجاريتان إلى شركة “الهند الشرقية” المعروفة كي تصبح تلك الشركات جزءًا من فولكلور بريطانيا الاستعماري (فكروا في سلسلة أفلام “قراصنة الكاريبي” Pirates of the Caribbean ومسلسل “تابو” Taboo على شبكة “بي بي سي”). وقد يكون تمثال كولستون هوى، لكن نموذج الشركة التي درّت عليه ثروته، ما زال مستمراً بقوة. والمشكلة أن سطوته تقتلنا.
يشكّل النموذج الاستعماري للشركة “المساهمة” هو النموذج الأولي الذي بُنيت عليه مؤسسات العصر الحالي. واليوم، يهدد ذلك النموذج الأولي ذاته قدرتنا على الحفاظ على استمرارية البيئة والحياة على ذلك الكوكب. إن معظم السلع الرئيسة في العالم ملك للشركات التي تسيطر عليها، إذ تنتج الشركات كل المواد البلاستيكية تقريباً التي تخنق محيطاتنا. وتسيطر الشركات على معظم العمليات الصناعية التي تتسبب في تلوّث الجو. (وينطبق وصف مماثل على) غذائنا ووسائل تنقّلنا وطاقتنا. فبحسب التقديرات، منذ 1965، أنتجت 20 شركة حوالى 35 في المئة من إجمالي انبعاثات الوقود الأحفوري. ومنذ عام 1988، أنتجت 100 شركة 71 في المئة من إجمالي انبعاثات الوقود الأحفوري. إذا لم نغيّر الأمور جذرياً، سوف يستمر الشخص المعنوي الذي يحمل اسم شركة، ذلك الاختراع الاصطناعي الذي نما من تجارة الرقيق، إلى الأبد فيما يفنى كل شيء حولنا.
وبالفعل، يزدهر عدد كبير من الشركات التي استفادت من الاستعمار والعبودية في الأيام الأولى من أيامنا تلك، إذ تملك كل المصارف الكبرى في المملكة المتحدة صلة مباشرة بتجارة الرقيق. لدى كل من بنوك “باركليز” و”لويدز و”اسكتلندا الملكي” و”بنك إنجلترا”، شركات إتجار بالرقيق في شجرة عائلتها. وتكشف قاعدة البيانات الموسّعة الموجودة في “كلية لندن الجامعية” حول تجار الرقيق، عن أسماء الأشخاص (المشاركين في تلك التجارة) والشركات التي نهضوا بتجارتهم عبرها. وانتقلت أرباح تجارة الرقيق عبر الهياكل المؤسساتية.
حازت الشركات الربحية بالنسبة إلى المشروع الاستعماري البريطاني أهمية أكبر بكثير مما يُعترف به عادة. واستحوذت تلك الشركات على مختلف أقطاب الإمبراطورية البريطانية. وجاءت في مقدمتها شركة “التجار المغامرين في الأراضي الجديدة” التي تأسست وحصلت على التفويض القانوني عام 1553 من أجل شقّ طريق جديد لمزاولة التجارة مع الصين وإندونيسيا. وفي 1660، مُنحت شركة “الهند الشرقية” كذلك على تفويضها في ممارسة الحق الحصري بمزاولة التجارة وإقامة محطات تجارية في شبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا، وأدّت دوراً أساسياً في تأسيس أنواع التجارة والإدارة وعمليات السمسرة لمصلحة السلطة التي شكّلت دعائم الإمبراطورية البريطانية. وكذلك تأسست شركات استعمارية أخرى كشركتي “لندن” و”بلايموث”، بهدف فتح طرق تجارية احتكارية إلى الأميركتين. وعملت شركة فرجينيا على تأسيس ولاية فرجينيا في1607، فيما تولّت شركة “خليج ماساتشوستس” تأسيس ولاية ماساتشوستس في 1628. ومُنحت تلك الشركات تفويضاً ملكياً أعطاها الحق في نقل المستعمرين ومعداتهم إلى المستعمرات، وأُذن لها بحمل السلاح.
وغالباً ما تورطت الشركة الأفريقية الملكية السيئة الذكر التابعة لكولستون، في نزاعات مسلحة، فيما أمّنت محطات تجارية على الساحل الغربي لأفريقيا. ومع حلول ثمانينيات القرن السابع عشر، كانت الشركة تتاجر بخمسة آلاف شخص تبيعهم عبيداً كل عام. وتاجرت الشركة بربع مليون عبد تقريباً قبل أن تُحلّ، ونقلت إلى الأميركتين عدداً من الأفارقة الذين استعبدتهم أكثر مما فعلته أي مؤسسة أخرى.
لا شك في أن دور الشركات الربحية في تجارة الرقيق يستحق أكثر من ذكر هامشي في التاريخ. فمن غير المرجح فعلياً أن يكون المشروع الاستعماري استطاع النمو بذلك الشكل العنيف والمكثف لولا وجود الشركات الاستعمارية. وعلى غرار الحال مع تجارة الرقيق، شكّل الاستيلاء المتواصل على الأراضي الجديدة وتأمين طرق التجارة، مجالاً تنافسياً تطلّب حشد الموارد المالية على المستوى الوطني، إذ تتيح الشركات للمستثمرين تجميع مواردهم، ما يقصّر المدة المطلوبة لتطوير أو استخراج الموارد، ويمكّنها أيضاً من تحديد مواقع الإنتاج ضمن مسافات أبعد. إنها طبيعة رأس المال المنظم التي أعطاها كارل ماركس تعريفه الشهير بـ”القضاء على المسافة عبر الوقت” ويشير إليها علماء الجغرافيا اليوم على أنها “ضغط الزمان والمكان”.
وتتمثّل الفكرة الأساسية (رأس المال المنظم) في أنه يمكن التغلب على القيود الجغرافية ومسافات السفر تدريجياً مع جمع وتركيز رأس المال. ويشكّل تركيز رأس المال العنصر الذي يكثف ويسرّع عملية البحث عن التطورات التكنولوجية. وعلى امتداد المشروع الاستعماري، برهنت الشركات عن قدرتها اللافتة في تذليل العقبات اللوجستية والجغرافية الهائلة التي وقفت في طريقها، إذ لجأت القوى الأوروبية العظمى كافة إلى الشركات المساهمة في سعيها للتنافس على الثروات الاستعمارية. كانت شركة “الهند الغربية” الفرنسية لاعباً أساسياً في تجارة الرقيق، فيما تنافست شركة “الهند الشرقية” الهولندية مع محاولات بريطانيا الاستعمارية في الاستيلاء على الأراضي. وتبدّى النموذج الأساسي ذاته لتلك الشركات في كل الدول الأوروبية، بمعنى أنه عن طريق منح الإذن بالاحتكار وتقييد احتمال تكبّد المستثمرين للخسائر، وفّرت الشركات حوافز كبيرة للطبقة الصناعية الناشئة كي تحوّل ثرواتها الخاصة نحو خدمة السعي المحموم لحيازة القوة الاستعمارية. بالتالي، أعطت الشركات المساهمة للدول المستعمرة القدرة على تسخير الثروات الخاصة بهدف تسريع الاستعمار وتوسيع نطاقه. فسخّرت قوة رأس المال الخاص من أجل تخطي العقبات الجغرافية التي وقفت في طريقها.
وتزامناً مع زيادة الشركات المساهمة قدرة الدول في القضاء على المكان والزمان، ضاعفت تلك الشركات كذلك قدرتها في القضاء على الطبيعة. وتوازياً مع استثمار رأس المال في التجارة، اتجهت موارد الشركات نحو تأسيس المزارع وقطع الغابات والتنقيب عن الذهب ومعادن أخرى في المناجم، والصيد والزراعة على نطاق صناعي، وحديثاً استخراج النفط. واليوم، يحفّز القضاء على المكان عبر الوقت من خلال استثمارات الشركات في كل تلك القطاعات الصناعية تغيّر المناخ. وبسبب طبيعة اقتصادنا الحالي العابر للحدود، يتركّز أكثر من 75 في المئة من البصمة المائية للمملكة المتحدة في الخارج، فيما تنفث المملكة المتحدة زهاء 40 في المئة من انبعاثات غازات الدفيئة خارج حدودها أيضاً.
في سياق متصل، يخلق الاقتصاد العالمي اليوم فرصاً مذهلة للربح. في قطاع صيد الأسماك، تُرسل شحنات سمك القد والجمبري التي يلتقطها صيادو الأسماك الاسكتلنديون إلى الصين بغية تعليبها من أجل استغلال اليد العاملة الأرخص هناك، قبل أن يُعاد شحنها كي تُباع في المتاجر البريطانية. اقترح عالم البيئة البحرية هنريك أوستربلوم طريقة للتفكير في دور الشركات العابرة للقوميات، تساعدنا على فهم ذلك الجنون. ففي دراسة البيئة، يمكن تصنيف بعض الأجناس “أساسية” لأنها “تملك أثراً عميقاً وغير متكافئ في المجتمعات والنظم البيئية”، لأنها “تحدد هيكلية ووظائف” تلك النظم البيئية على نحو غير متوقع. وفي قطاع صيد الأسماك، تتضمن الأجناس الأساسية أسماك “بلوق” في ألاسكا التي تهيمن على سوق الأسماك البيضاء، وأسماك “سكيب جاك” (التونة الوثابة) والتونة الصفراء الزعانف التي تهيمن على سوق التونة، وسمك الأنشوفة من بيرو التي تهيمن على سوق الأسماك الصغيرة المستخدمة في إنتاج دقيق السمك وزيت السمك. ويرى أوستربلوم إنه يمكن قول الأمر ذاته عن عدد صغير نسبياً من “الشركات الأساسية” التي تهيمن على أسواق تلك الأسماك، ذلك أنها تعيد كذلك هيكلة بيئة منتجاتها في شكل أساسي.
في كندا وأوروبا، كل المشكلات البيئية التي تتسبب بها مزارع السلمون موثقة جيداً، وليس أقلها القضاء على السلمون البرّي تقريباً عن طريق استخدام المواد الكيماوية والأمراض في أماكن تربية الأسماك. ويتحمّل قطاع الجمبري المسؤولية حاليًا عن تدمير 40 في المئة من غابات المانغروف في العالم. وفي أماكن كثيرة، أصبح صيد سمك التونة غير مستدام. وتولّدت كل تلك المشكلات من التغيير الذي حدث في كل واحد من تلك القطاعات بسبب نموذج الشركة المساهمة الذي يتيح طرح استثمارات رأس المال بسرعة على مستوى من شأنه إحداث ثورة في تلك القطاعات. وفي كل واحد من تلك القطاعات، تقرّر مجموعة قليلة من الشركات الهيكلية والوظيفة معاً.
لا يعني ذلك أن تلك الآليات (في التغيير) لم تكن لتبصر النور من دون تلك الشركات الأساسية. في المقابل، لا شك كذلك في أنها سرّعت الآليات بشكل هائل، وأوصلتها إلى نقطة اللاعودة في بعض الحالات. تشمل الشركة المساهمة نوعاً من القضاء الفاعل على الطبيعة، في سياق سعيها إلى ضغط المكان والزمان.
في 1721، أسّس المخترع الإنجليزي جيمس باكل شركة مساهمة بهدف جذب استثمارات إلى نوع جديد من الأسلحة استخدم التكنولوجيا الأولى في الرشاشات. وصُمم ذلك السلاح كي يمكّن مستخدمه من إطلاق نوعين من الرصاصات في نوعين مختلفين من الحروب. فخُصصت الرصاصات المستديرة كي تُطلق على المسيحيين الأوروبيين، فيما خُصصت الرصاصات المربّعة لإطلاقها على الأتراك المسلمين. وصُممت الرصاصات المربّعة بطريقة تجعلها تُحدث إصابات أكبر. ونُقشت على فوهة البندقية عبارة “حينما تحمون الملك جورج وبلدكم وقوانينكم، تحمون أنفسكم والقضية البروتستانتية”. وكان (رشاش باكل) السلاح المثالي لدولة استعمارية عنصرية.
وفي النهاية، رفضت الحكومة البريطانية الوليدة استخدام اختراع باكل عسكرياً، ليس لأنها لم تتحمس لقدرته على تعزيز التنميط العنصري، بل ببساطة لأن آلية عمله لم تكن ناجحة كلياً. وبسبب غياب أي احتمال لإبرام عقد يسمح بصناعة ذلك السلاح، انهارت الشركة، إذ أنفقت كل أموالها في تطوير سلاح باكل. وشكّل ذلك حدثاً عادياً في عصر الخطط والمشاريع الفاشلة. وبحسب المعلومات التي وثّقها أوليفر بورلو، شهدت تسعينيات القرن السابع عشر تداول أسهم أكثر من 150 شركة إنجليزية في مقاهي لندن المحيطة بـ”زقاق التداول”. ومثّل عدد منها مشاريع استعمارية، فيما تأسس عدد كبير من بينها كشركة “البحر الجنوبي” السيئة السمعة للاستفادة المباشرة من تجارة الرقيق.
واستطراداً، تسلّط قضية “سلاح باكل” الضوء على الهدف من نموذج الشركة المساهمة. خلال عملية شراء أسهم في شركة مساهمة، يجري تأسيس علاقة اجتماعية مهمة. ربما يكون لدى المستثمرين سبب أخلاقي أو مبدئي يدفعهم إلى الاستثمار. ربما اعتقد المستثمرون في “سلاح باكل” أن قتل المسلمين بطريقة مؤلمة أكثر يتماشى مع معتقداتهم الدينية. وربما اعتقدوا أن ذلك أمر مقزز، وفي تلك الحالة، لا شك في أن ذلك الاعتقاد شكّل عائقاً منعهم من استثمار أموالهم.
واستداراكاً، ليس بالضرورة (أن تكون الأمور بالطريقة الآنفة الذكر)، إذ تتجسّد الحقيقة القاسية عن نموذج الاستثمار في الشركات المساهمة، في أن حملة الأسهم غير مضطرين إلى التفكير في تبعات استثماراتهم، إذا لم يرغبوا بذلك. وحتى لو أرادوا التفكير فيها، لا يمكنهم التدخل وإبداء رأيهم فعلياً في طريقة تسيير أعمال الشركة اليومية. ولن يملكوا حق تقرير عدد الأشخاص المستعبدين ولا رواتب موظفيهم ولا المبلغ الذي تتقاضاه الشركة من عملائها، إذ يضع المستثمرون ثرواتهم الخاصة لأنهم يتوقعون الحصول على أرباح قيّمة. وليسوا مضطرين، في إطار تلك العملية، أن يتدخلوا في طريقة إنفاق أموالهم. يمكنهم، باعتبارهم حملة أسهم، حضور اجتماع عام سنوي للتصويت على المواضيع الاستراتيجية، وأحياناً على عضوية مجلس الإدارة. وربما يضغطون باتجاه سحب الاستثمار من بعض النشاطات غير الأخلاقية والحصول على تقارير أفضل عن سير العمل. وفي المقابل، إنهم ليسوا مضطرين إلى التدخل إطلاقاً في شؤون المؤسسة إذا لم يريدوا ذلك، ولا ما تفعله أو أين تفعله. وليسوا مرغمين كذلك على التفكير في أنهم منتجو أسلحة عنصرية أو تجار رقيق أو مستفيدون من النفط أو مسؤولون عن القضاء على السلمون البري. وما عليهم سوى التفكير بأنهم مستثمرون. وفي ذلك السياق، يمكنهم أن يظلوا مجهولي الهوية وغائبين وصامتين وغير مسؤولين إجمالاً عن أعمال شركتهم المساهمة.
واستطراداً، فحينما تؤسس الشركة المساهمة باعتبارها كياناً فردياً منفصلاً، تخلق تلك العملية درجة من الانفصال والتباعد بين المستثمرين وأي ضرر اجتماعي ربما تتسبب به تلك الشركة. وينطبق الأمر ذاته على المدراء التنفيذيين. وبتلك الطريقة، تسمح الشركات المساهمة بإعادة تشكيل العلاقات بين البشر الحقيقيين من جهة، والمصادر التي يجنون من خلالها دخلهم من جهة ثانية، على أنها علاقات مع “الشركة المساهمة”. وتلك هي المفارقة العجيبة التي تضفيها الشركات المساهمة على طريقة تنظيمنا لأكثر الأمور أساسية. وحينما ترتكب أي شركة مساهمة عملاً مضرّاً على الصعيد الاجتماعي، تقع المسؤولية على عاتق الشركة التي تُحاسب عليها، وليس على عاتق الشخصيات النافذة التي تقف وراء تلك الشركة المساهمة.
ولذلك السبب بالتحديد، يتكلم المحامون عن “شخص الشركة” (أي كيانها المعنوي الاعتباري). وفي أوائل الحقبة الاستعمارية، تحوّل الوضع القانوني للشركات بسرعة إلى وضع يشبه البشر الحقيقيين. وبهدف استيفاء الأغراض القانونية، تكون الشركة المساهمة هي الشخصية القانونية التي تبرم العقود وتوظّف الأشخاص، وتتخذ القرارات وتصدر التوقعات المستقبلية بشأن قيمتها وما إلى ذلك. وكل ما تفعله الشركة المساهمة تقريباً، يحدث باسمها. في 1678، أرسى محامي التاج الاسكتلندي جورج ماكينزي “الدموي” مبدأ تحميل شخصية الشركة القانونية ذنب الجريمة، وكتب “حتى الجرائم التي يرتكبها الأفراد عادة كالقتل والقمع وما إلى ذلك، يمكن اتهام الشركة المساهمة فيها أحياناً بصورة قانونية”.
أصبح شخص الشركة غير الحيّ وكيلاً عن الأشخاص الحقيقيين الذين يقفون وراءه. ويملك الأمر فوائد كثيرة حينما تتهم الشركة المساهمة بارتكاب جرائم وجنح. وبحسب الباحثة القانونية في جامعة سيتي غريجي بارز، إن وجود الشركة المساهمة كشخص منفصل أتاح لكبار المسؤولين التنفيذيين أن يقولوا “لست أنا من ارتكب ذلك الفعل، بل الشركة المساهمة”.
بالتالي، أصبحت كلمات ماكنزي “الدموي” أشبه بالنبوءة. حينما يتعلق الأمر بالجرائم والجنح التي ترتكبها الشركات المساهمة، في حال مثول أي أحد أمام المحكمة، سيكون شخص الشركة المساهمة بدل أي شخص قانوني. حين صدرت مخالفة بقيمة قياسية بلغت 20.8 مليار دولار بعد كارثة “ديب ووتر هورايزون” Deepwater Horizon 2010، سدّدت شركة “بريتيش بتروليوم” ذلك المبلغ. وفي أعقاب “فضيحة الديزل”، أُصدرت الغرامة بحقّ “فولكسفاغن”. ويتحمل شخص الشركة المساهمة المسؤولية والعقاب بعد كل جريمة بيئية تقريباً، مهما بلغ حجمها. وغالباً ما تنجو الشركات المساهمة وتستمر وترتكب جريمة أخرى. ففي الحالتين السابقتين، احتاجت الشركتان وقتاً قصيراً نسبياً لتعويض خساراتهما. وبالفعل، لو أودع السجن الرئيس التنفيذي السابق في “فولكسفاغن” مارتن ونتركورن وأربعة من زملائه ممن يخضعون للمحاكمة حالياً، فسيكون ذلك لأسباب تتعلق بالاحتيال وليس لارتكابهم جرائم بيئية. في عالم الشركات الحالي، من المستحيل تقريباً أن يُعاقب أي شخص حقيقي على الجرائم البيئية الكبيرة.
وحتى في حال الحكم عليه، يمتلك شخص الشركة المساهمة عدداً من منافذ الهروب المخططة بعناية. غالباً ما تحرص الشركات المساهمة العاملة في مناطق حساسة بيئياً، على أن تملكها سلسلة من الهيكليات المؤسسية المعقدة التي تسمح بتصفيتها بطريقة استراتيجية، إذا لزم الأمر. وفي غالب الأحيان، يُمنح شخص الشركة المساهمة امتيازات استثنائية لا يتمتع بها أبداً الأشخاص الحقيقيون. وفي قضية “بريتيش بتروليوم”، استُعيد مبلغ هائل هو 10 مليارات دولار، أي حوالى النصف، من مخالفة “ديب ووتر هورايزون” بسبب التخفيضات الضريبية.
في كتاب “الرأسمالية السامة” Toxic Capitalism الذي يمثّل شهادة كلاسيكية عن قطاع الكيماويات، كتب عالما الاجتماع فرانك بيرس وستيف تومبر أنه علينا ألا ننظر إلى الشركات المساهمة كمجموعة مواطنين أخلاقيين أو بالعكس مجردين من الأخلاق، إذ يُتوقع من الشركات أن تجري حسابات من دون أي تحيّز أو تمييز أخلاقي
ما يعني أنها لا أخلاقية.
ليست تلك الملاحظة قليلة الأهمية. ذلك أن كل العمليات الصناعية التي تهدد بالقضاء على الأجناس تكون ممولة ومصنعة وموزعة بإدارة شخص الشركة اللاأخلاقي. ولا تنحصر تلك المسألة في قطاع الوقود الأحفوري بل تشمل كل العمليات الصناعية التي تؤثر في النظام البيئي في كوكب الأرض كإنتاج المواد الكيماوية الثابتة والبلاستيك والنقل والصناعات العسكرية والإنتاج الغذائي والأخشاب والتعدين. وتخضع تلك القطاعات الصناعية كافة، منذ الجزء الثاني من القرن العشرين، لاحتكار حفنة من الشركات. وبعبارات أخرى، إن الصناعات التي تسيطر فعلياً على مستقبل النظم البيئية تخضع لسيطرة عدد متضائل من الشركات المتمرسة الفائقة القوة.
جاءت أولى علامات الإنذار التي استرعت انتباه العالم في موضوع تغيّر المناخ، حينما بدأ العلماء يدركون تأثيرات مركبات الـ”كلوروفلوروكربون”، تلك المواد الكيماوية المستخدمة في عدد من المنتجات، من بينها الرذاذات الجوية والثلاجات والمكيّفات ومواد التغليف ومنتجات الأثاث كالـ”ستايروفوم”. في 1974، أظهرت دراستان علميتان مهمتان أن تراكم الـ”كلوروفلوروكربون” هو المسؤول عن استنفاد طبقة الأوزون الضرورية من أجل امتصاص أشعة الشمس فوق البنفسجية وتبريد الأرض. وتوصّلت الدراسات بالفعل إلى أنه لا يمكن ملافاة تلك الآثار في الغالب.
من غير المحتمل أن تكون الشركات الكيماوية التي صنّعت الـ”كلوروفلوروكربون” علمت، أو أنه كان بإمكانها أن تعلم، بالآثار الدائمة لمنتجاتها قبل عام 1974. في 1980، حينما أصبح من الواضح أن احتمال فرض حظر دولي بات وشيكاً، سحبت شركة “دوبون” لتصنيع المواد الكيماوية كل تمويل للأبحاث الرامية إلى إيجاد بديل آمن له. ولم تكرّر الشركة التزامها إيجاد بديل من جديد، إلا بعد اكتشاف علماء بريطانيين ثقباً كبيراً في طبقة الأوزون فوق القارة القطبية الجنوبية في 1986، وتوجّب على الشركة أن تدعم الإيقاف التدريجي لاستخدام الـ”كلوروفلوروكربون” مع حلول 2000. نتذكر اسم العالم البريطاني الذي كان أول من كشف المشكلة. اسمه جيمس لوفلوك. لكننا لن نعرف أبداً أسماء المدراء التنفيذيين الذين أخّروا تطوير البدائل، وضغطوا باتجاه منع فرض حظر دولي.
ويكشف التلاعب بعلم استنفاد طبقة الأوزون نمطاً من النكران والتغطية المتعمدة التي تستعملها الشركات المساهمة. وتكررت تلك القصة في حالات كل المواد الكيماوية الخطيرة الثابتة التي تدمّر النظم البيئية على الكوكب، إذ تعرّضت المعرفة التي من شأنها حمايتنا من تلك المواد السامة، للتشويه والتسخيف والطمس المتعمد. ودُفنت أجساد لا تُعدّ ولا تُحصى مع تلك المعرفة. وفي الغالب، أن التاريخ سيذكر أسماء العلماء الذين حاولوا تحذيرنا وليس المدراء التنفيذيين الذين استخدموا قناع الشركات بغية الاستمرار في قتلنا.
نعلم الآن أن المدراء التنفيذيين في شركة “إكسون” حصلوا على أدلة من علماء الشركة أنفسهم في 1977 قدّرت أن “مضاعفة تركيز ثاني أكسيد الكربون في الجو سيزيد متوسط درجة الحرارة العالمية بدرجتين إلى ثلاث درجات مئوية”. ثم بدأوا بتنفيذ برنامج أبحاث مكثف درس عيّنات انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ووضعوا نمذجة مناخية دقيقة جداً. وفي 1981، توصّل برنامج الأبحاث إلى خلاصة مفادها بأنه “يبدو أن برنامج الأبحاث والتطوير الموسع لا يقدّم منافع إضافية”، وبعدها جرى التخلي عنه بصمت. ابتداء من مطلع تسعينيات القرن الماضي وبعده، غيّرت شركة “إكسون” ومؤسسات عائلة “كوش” استراتيجيتها في مجال التمويل، إذ بدأت بتمويل المجموعات التي هاجمت علوم تغيّر المناخ وكل سياسات بنّاءة تفضي إلى حلول. وزرعت تلك الأبحاث بذور ما يكفي من الشكوك والاستقطاب حول علوم تغيّر المناخ، ما ضمن لها التقليل من أهمية أي اعتراف سياسي بمشكلة تغيّر المناخ.
وفي سياق متصل، حين وُضع اتفاق باريس قيد التحضير، قُدّر أنه كي يحقق أهدافه، سوف تخسر شركات النفط العملاقة أكثر من 30 في المئة من احتياطات النفط المعروفة و50 في المئة من احتياطات الغاز المعروفة. وكذلك ستُضطر شركات النفط إلى التخلي عن نشاطات التنقيب والحفر كافة في القطب الشمالي. وفي المقابل، أقدمت تلك الشركات على خطوة متوقعة منها. ففي الوقت الذي قدّمت دعماً جماعياً للاتفاق، عملت أيضاً على مضاعفة جهودها في تنفيذ استراتيجية تضعف وتشوّه أهداف الاتفاق.
وفي الواقع، بلغ أصحاب الرقيق في القرنين الثامن والتاسع عشر المرحلة ذاتها في تاريخهم. وحين بدا واضحاً أن دعاة إلغاء الرقّ في البرلمان البريطاني على وشك الفوز، بدأ أصحاب المزارع وتجار جزر الهند الغربية بالضغط لترويج “خطط التحسين” الخاصة بهم، التي ستبطئ العملية وتسمح لهم بالاحتفاظ بأرباحهم. وفقاً للمؤرخة أنجلينا أوزبورن، اعتمدت رابطة تجار الرقيق التي حملت اسم “لجنة جزر الهند الغربية” وامتلكت نفوذاً كبيراً، لغة منافسيها التقدميين “في محاولة لتصوير نفسها على أنها متعاطفة مع محنة العمال المستعبدين”. حقّاً، إن التاريخ يعيد نفسه.
في المقابل، إن المخاطر أكبر من أن نضع مهمة حماية الكوكب بين أيدي المستثمرين ومدراء الشركات المساهمة. ولكن بطرق عدة، ليس موضوع من يمكننا الوثوق به ومن لا يمكننا ذلك النقطة الرئيسة فعلاً، إذ شكّلت الشركة المساهمة دائماً منذ بدايتها تاريخياً، سبيلاً لضمان مضاعفة الأرباح بسرعة وبلا حدود، من دون اكتراث بالتكاليف البشرية والبيئية.
كذلك تمثّل الشركات المساهمة الربحية الرابط العضوي بين العبودية والإبادة البيئية، إذ قضت المحرقة الأفريقية على ملايين البشر، وغيّرت التوازن البيئي الذي مكّن الشعوب الأفريقية من العيش بطريقة مستدامة طيلة آلاف من السنين. لن ينجو جنسنا إذا استمرّينا في السماح للنموذج التنظيمي الأساسي ذاته الذي وضع مخطط تجارة الرقيق، بأن يحتل دوراً رئيساً في اقتصادنا ومجتمعنا. ولذلك لا يبدو غريباً جداً أن نقترح التفكير في قتل الشركة المساهمة قبل أن تقتلنا.
——————————————————–
ما الذي علِمَهُ المدراء التنفيذيون في الشركات المساهمة؟
اكتشف العلماء في عشرينيات القرن المنصرم الآثار المميتة التي تترتب على إضافة مكونات الرصاص إلى البنزين. وعلى الرغم من تلك المعرفة، حرص ثلاثي الشركات الكبرى، “جنرال موتورز” و”دوبون” (التي اشتُهرت لاحقاً بسبب الـ”كلوروفلوروكربون”) و”ستاندرد أويل” في نيو جيرسي (التي تسمّى اليوم “إيكسون موبيل”)، على أن تستخلص الأبحاث كافة أن إضافة الرصاص غير مضرّة. ثم سوّقت وروجت بقوة لمصلحة إضافة مركّب “رابع إثيل الرصاص” إلى أن حُظّر في تسعينيات القرن العشرين.
إن مركّب ” بسفينول أ” (اختصاراً بي بي إيه BPA) مادة بلاستيكية عُرف عنها منذ ثلاثينيات القرن الماضي أنها تحاكي هرمون الـ”إستروجين” (هرمون الأنوثة) وتؤدي إلى أضرار هرمونية لدى البشر. وباستمرار، سعى “مجلس الكيمياء الأميركي” إلى التشكيك في الدراسات العلمية. ونتيجة لذلك، استمر إنتاج الـ”بي بي إيه” في النمو، بل ما زال يُستخدم
على نطاق واسع في تغليف الأطعمة والمشروبات.
اعتُبرت شركة “مونسانتو” Monsanto المصنّع الرئيس لمادة “ثنائي الفينيل المتعدد الكلور” (بي سي بي PCB) الكيماوية المستخدمة في تبريد وتزييت الأجهزة الكهربائية، حين تلقّت الشركة أدلّة دامغة على آثاره الصحية في 1969. وأظهرت الأبحاث أن تلك المواد الكيماوية تتسبب في السرطان ومجموعة واسعة من الآثار الصحية الخطيرة، وتقتل الطيور وأنواعاً أخرى من المخلوقات. وجاء ردّ “مونسانتو” على ذلك بأن طلبت وضع عدد من الأوراق البحثية تستند إلى نتائج مزوّرة ومشوّهة. ونجحت تلك الدراسات في تأخير حظر “بي سي بي” عقداً من الزمن.
في 1973، أشارت مذكرة داخلية لشركة “إيثيل” إلى نتائج مخبرية تؤكد الأثر المسرطن الذي يتأتى من التعرّض لمركّب الـ”كلوريد فينيل”، المادة الكيماوية المستخدمة في إنتاج مركّب معقد التركيب اسمه “الكلوريد المتعدد الفينيل” (بي في سي PVC). ومع ذلك، استمرت الشركات الأميركية حتى فترة متقدمة من تسعينيات القرن العشرين بالتآمر والتلاعب في نتائج الدراسات العلمية التي تتناول إنتاج “بي في سي” من أجل تفادي تحمّل مسؤولية تعرّض موظفيها لتلك المواد، فرفضت تحذير المجتمعات المحلية من أن تسرّب مادة كلوريد الفينيل الكيماوية ربما يكون مميتاً.
تشير التقديرات إلى تعرّض ثلاثة ملايين شخص للتسمم و300 ألف شخص للوفاة سنوياً بسبب مركبات الفوسفات العضوي. ومع ذلك، ضاعف القطاع جهوده في ظل إدارة ترمب من أجل منع سنّ تشريعات جديدة تحدّ من استخدام مركبات الفوسفات العضوي، عبر الحث على استخدام البيانات بطريقة انتقائية في المراجعات الحكومية. وبشكل أساسي، موّلت “داو أغرو ساينسز” Dow AgroSciences الشركة المصنعة الرئيسة لتلك المركبات، جهوداً ضخمة من أجل الضغط كي تمنع المراجعات الحكومية بشأن تلك الدلائل. وما زالت مبيعات كبار المصنعين ومنهم “دوبون” DuPont و”سينجنتا” Syngenta و”باير كروب ساينس إيه جاي” Bayer CropScience AG، و”بي آي إس إف أس إي” BASF SE و”كيمينوفا آي إس” Cheminova AS و”يارا إنترناشونال” Yara International وبالطبع، “داو أغرو ساينسز”.
كشفت دعوى قضائية رفعتها أخيراً 11 ألف ضحية لمبيد الأعشاب “راوند آب” Round Up الذي صنّعته “مونسانتو”، أن الشركة أنفقت عشرات ملايين الدولارات على حملات دعائية مضللة ودراسات علمية مكتوبة تحت أسماء مستعارة وتقارير إخبارية مدسوسة. كذلك بيّنت الوثائق التي أُبرزت خلال المحاكمة أن “الوكالة الأميركية لحماية البيئة” وجدت في ثمانينيات القرن العشرين أن الفئران التي أُعطيت جرعات من مركب كيماوي تنتجه تلك الشركة ويحتوي مزيجاً من الفوسفات والغلوكوز، تُصاب بنوع نادر من سرطان الكلي. وبعد ضغط هائل من “مونسانتو”، تجاهلت الوكالة أبحاثها الخاصة، وأعلنت للرأي العام أن ذلك المركّب المحتوي على فوسفات وغلوكوز، لا يشكّل مخاطر سرطانية.
ديفيد وايت، مؤلف الكتاب المرتقب “المجزرة البيئية، اقتلوا الشركة المساهمة قبل أن تقتلنا” (مانشتسر يونيفيرسيتي برس).
© The Independent