كريتر نت – العربي الجديد
يتبنى جيلٌ يمنيٌ شاب مساراً موسيقياً جديداً للأغنية اليمنية، وسط مشهد، فنّي وحياتي، تسطو عليه التقاليد. وفي محاولة لملاحقة أزمنة ضائعة فوتتها أجيال، يراهن الشباب على التعدد الموسيقي، في غياب مساندة حقيقية، وفي بيئة لا تسمح لكثير من التطور. وبحسب موقفهم، ينبغي أن تكون الموسيقى اليمنية تجسيداً لصهر ثقافات متعددة، إضافة إلى مواكبتها الزمن، أو التعبير عن فئات اجتماعية موجودة، تم تغييبها.
شهدت الأغنية في اليمن محطات تجديد متفاوتة، قادها فنانون من أجيال مختلفة، لكنها توقفت في لحظة كتبت معاناة الموسيقى اليمنية. يحمل هذا الجيل المعاناة بطريقته؛ فمع غياب صناعة الموسيقى، ما زالت تلك التوجهات غير قابلة للانفجار، وبجهود ذاتية يضفي أولئك على الموسيقى ملامح جديدة أكثر انفتاحاً، بينما يمضي الواقع نحو تقوقع أكبر. لكن مصاعب عديدة تقيد المشهد بعدد محدود من الأغاني.
عندما أراد الفنان الشاب أحمد سيف إنتاج أول أعماله في 2009، تطلب منه العمل عاماً وشهرين لتغطية كلفة إنتاجه. وبتحسن بطيء، استمر عدة سنوات، وأصبح بإمكانه إنتاج عملين طوال العام. وها هو يعمل على إصدار ميني ألبوم، يتضمن أربع أغان، سيتيحه على منصات التواصل. على الأقل، حدث تراكم نوعي، واتسعت الخبرة، في وقت لم تزل حدود التطور الكمي تحتجزها الإمكانيات. ورغم وجود عشرات الألحان التي ألفها سيف، إلا أن معظمها لا يرى النور.
الأمر ذاته بالنسبة لإبراهيم فضل؛ الألحان والأفكار كثيرة، إلا أنه، وعلى حد تعبيره، يعيش صراعاً بين الاحتياج المادي والإنتاج الفني. هؤلاء الشبان يعملون في أمور أخرى، مثل الإنتاج لآخرين، أو هندسة الصوت، لتغطية إنتاج أعمالهم من جيوبهم. معادلة تدفعهم إلى الابتعاد عن الموسيقى التي يرغبون في تقديمها بعض الوقت.
يقول فضل أن يكون المرء فناناً في اليمن؛ فتلك لعنة بالنسبة له، ولآخرين لا يمكنهم التعبير عن أنفسهم وأفكارهم في الحب والحياة خارج الموسيقى. بهذا، أصبحت الموسيقى مصدر عيشهم الوحيد، لهم ولعائلاتهم. عدا عن أن ممثلي الأغنية الجديدة يخوضون تجاربهم بشكل غير تقليدي، على خلاف شريحة تعتمد على مداخيلها من الغناء في الأعراس.
يتركهم هذا أمام تحد مستمر، رغم وجود مثبطات أكثر من الحوافز، لكنهم يسعون إلى التجريب المستمر والبحث عن أشكال لحنية قادرة على أن تمس الجمهور. لذلك، يفرضون على أنفسهم شكلاً من التوازن بين ما يحبونه، ومحددات يفرضها جمهور ما زال معظمه متشدّداً في مناهضة التجديد، ويريد أن يكون الغناء اليمني مقيداً بأساليبه القديمة. لكن ظروف الإنتاج المقيدة بإمكانيات محدودة تحد من سرعة تبلور الأفكار. إنهم أيضا جيل السوشيال ميديا، بما تتيحه لهم من إمكانية لبثّ أعمالهم من دون وسائط مقيدة، لكن ما زال جمهور الأغنية الجديدة قليل في اليمن.
لا يقتصر الأمر على توجهات تؤسس لأسلوب بوب يمني. ففنان شاب، مثل محمد النعامي، يقدم أغاني التراث في حفلات الأعراس، لا يخفي شكواه من النظرة الضيقة التي تصاحب المشهد الموسيقي في اليمن؛ إذ يطمح لأن تتسع الأغنية اليمنية وتتقبّل أنماطاً أكثر حداثة، بدلاً من اقتصارها على العود. كما يرغب النعامي بتسجيل أغان خارج اليمن، لتظهر بأسلوب موسيقي أوسع، عبر توظيف الوتريات وآلات أخرى، وبتسجيلات أكثر جودة مما هو متاح في اليمن.
وفي محاولة منه لكسر رتابة العود المُهيمن على الغناء اليمني، سجل أغنية مزج فيها بين الإيقاعين، اليمني والهندي، مستعيناً بغيتارين يحاوران العود. ويؤكد أن جيله يطمح إلى تأكيد بصمته.
ينحاز الفنان الشاب إلى الغناء الشرقي التقليدي، وتحديداً للراحلين صباح فخري ووديع الصافي. بذلك، يمثل شخصية تسعى إلى مجاورة الغناء اليمني بسمات أكثر شرقية. ومن تلك الزاوية، يرى أن جيله محظوظ لتعرفه، بشكل أوسع، على ثقافات موسيقية مختلفة بصورة أكبر من سابقيه. وسواء كان ذلك مرتبطاً بالأداء الصوتي، أو تكنيك العزف على العود، فهم أكثر اتصالاً بمفاهيم جديدة. وفي الجانب الآخر، يؤكد أنهم تُعساء، لافتاً إلى ما يعانونه وتعانيه الموسيقى في اليمن.
ويحجم البعض عن إنتاج عمل من موارده الخاصة، كونها تثقل كاهله. في هذا السياق، يرى الفنان أحمد سيف أن وجود المنتج سيزيل عن كاهلهم عبئاً ثقيلاً، لكن بشرط وجود اتفاقيات تراعي حقوق الفنانين، لافتاً إلى قضية عانى منها الموسيقيون والمغنون مع شركة محلية، فرضت عليهم عقوداً مجحفة من خلال احتكارها بيع حقوقهم في شبكات الاتصالات.
قبل عام، أصدر أحمد سيف أغنية “طربان”، مصورة على طريقة الفيديو كليب، وفيها تظهر مجموعة شباب وشابات في لقطات فردية تتقاسمها الشاشة، وتفرد لهم مساحة من التعبير بحركات احتفالية راقصة. المشاهد التي تتقاسمها غرف متعددة، أو مشاهد خارجية في أماكن متعددة، لم تذهب بعيداً سواء في اللبس أو الحركة. مع هذا، عبر البعض عن امتعاضهم بإساءات لصاحب الأغنية.
اعتمد سيف في لحنه على إيقاع الريجيتون اللاتيني، وهي المرة الأولى التي يتم استخدام هذا الإيقاع في أغنية يمنية. لا يقتصر الأمر على ذلك، إذ كانت أغنية بوب يمنية تتسم بمفردات جديدة، التمبو السريع، والجمل اللحنية المتقدة بالخفة. حاول الفيديو المصور إبرازها كلحظة جذل، راقت لكثيرين في لحظة خراب ناتجة عن حرب تهيمن على البلاد.
غير أنه، مهما حاولت تلك التوجهات من توسيع أفقها والانفتاح على موسيقات العالم، فإنها أولا بحاجة لمساندة جمهور يمني. ولبلوغ ذلك، يؤكد هذا الجيل أن الاستمرار في العمل سيحطم كثيراً من الحواجز.
يشير إبراهيم فضل إلى أنه نتيجة ما يواجهه وفريقه من صعوبات، تشكلت لديهم خبرة، وأصبحوا منتجين موسيقيين. لا يقتصر ذلك على إنتاج أعمالهم الخاصة، بل تأتيهم أعمال ينتجونها من الخليج. هكذا، فتح هذا الواقع مساحة لظهور مجموعة من الموزعين الموسيقيين وفنيين في تقنيات الصوت، كما كان مجالاً لتجريب شعراء غنائيين في مواضيع مختلفة. إنه صوت آخر يتنامى بين أصوات راسخة، لكنه، بحسب أحمد سيف، أفسح المجال لظهور شخصيات موسيقية مختلفة في أوساطهم.
ولعل ما يجعل أعمالهم قليلة من حيث الإنتاج رغبتهم في الاستمرار على مستوى من الجودة اعتادوا عليه، لنقل إنها متصلة بالشكل الموسيقي وتقنيات الصوت. أما الألحان، فهي كثيرة، ولا يساعدهم الواقع على ملاحقة أفكارهم أو ألحانهم لترى النور، بل إنهم يعملون في بيئة ليست جيدة، على حد تعبير أحمد سيف؛ فهناك الكثير من النواقص، مثل صعوبة العثور على عازفين جيدين، خصوصاً خارج آلة العود.
يؤكد سيف أن صناعة أغنية تمر بمراحل عديدة، مثل الخاطرة اللحنية، واختيار الأسلوب الموسيقي المناسب لها. لكنهم يسعون إلى تطوير الأفكار بحسب المتاح لهم. في أغنية “شكيت بكيت”، اعتمد سيف على إيقاع الدسعة الصنعاني، بصوت مبرمج ومختلف، واستخدم الطاسة، أيضاً استخدم أسلوباً شعبياً مصرياً بموسيقى مبرمجة.
توظيف الإيقاع الصنعاني بأسلوب غير تقليدي، أيضاً، حضر في أغنية “حبش حياة”، للفنان إبراهيم فضل. وفي أغنية “باطل”، قبل عام، وظف مدخلاً من الغيتار الكهربائي بأسلوب السموث روك، مصطدماً بدخول التشيلو بطريقة شرقية. وهناك محاولة للتوسع في الأساليب الموسيقية المختلفة، مثل الشرقي والجاز والروك والبوب، والهيب هوب، واللاتين، وبعض الأشكال الكلاسيكية.
وخلافاً للموقف المتشدد إزاء انفتاح الأغنية اليمنية على أساليب موسيقية، لدى هذا الجيل قناعة بإمكانية اتساع الأغنية اليمنية لتستوعب العوالم الموسيقية الأخرى.
يقول فضل إن جيله بحاجة إلى عدم التوجه بدرجة كبيرة نحو التغريب، للحفاظ عن هويته الموسيقية. ويرى أن الجمهور عادل، إذا بذل الفنانون مزيداً من الجهد في صناعة أغنية جديدة، قادرة على الوصول إلى الجمهور.
ومن وجهة نظره، فما يقدمونه بحاجة إلى استيعاب مفردات جديدة، وهو عدم اقتصارها على الاتجاه العاطفي غير الواقعي. أي أن الأغنية العاطفية ينبغي أن تكتسب مفردات يومية مرتبطة بالواقع اليمني وقضاياه الاجتماعية.
ولا توحد مصيرهم بالموسيقى، لما كان لهذا الإرهاص أن يحدث، أيا كانت محدوديته. لكن بيئة العمل تضيق أيضاً نتيجة إجراءات من المتوقع فرضها على الموسيقى. ففي صنعاء الخاضعة لسيطرة الحوثي، تعتزم وزارة الثقافة تحديد إجراءات، أو بحسب تسميتها “ضوابط”، من الممكن أن تقيد الموسيقى من خلال عدم السماح بالغناء في صالات الأعراس في وقت متأخر، وهي محاولة سبق لسلطات الأمن التابعة للحوثي فرضها منذ مدة، جمدتها إلى حين بانتظار الضوابط. وإن كان هذا الجيل يريد وضع بصمته، فكما يقول النعامي، إن ما قدمه الكبار في السابق أصبح راسخاً، وحان دورهم للإدلاء بصوتهم الخاص. لكن سواء كان هذا الصوت أكثر اتصالا بالأساليب التقليدية، أو بما يمكن تسميته تياراً غنائياً جديداً ما زال يتشكل، فإن الموسيقى بصوتها الأقدم مهددة بالقمع.