طارق الشامي صحافي متخصص في الشؤون الأميركية والعربية
مع استمرار دق طبول الحرب وإصدار واشنطن قرارات بسحب عائلات الدبلوماسيين الأميركيين من كييف وإرسال 8500 جندي إلى دول شرق أوروبا، لوحت إدارة الرئيس جو بايدن، باستخدام سلاح عقابي خطير، لكنه منفرد، ضد روسيا إذا غزت أوكرانيا، فلماذا تراجعت الصيغة الجماعية بين الحلفاء الغربيين لمعاقبة روسيا اقتصادياً؟ وما صفة هذا السلاح المنفرد ومدى تأثيره المتوقع لردع الرئيس بوتين عن غزو أوكرانيا؟
كيفية معاقبة روسيا
على الرغم من مناقشة الرئيس الأميركي، جو بايدن، وعدد من القادة الأوروبيين خلال قمتهم الأخيرة عبر الفيديو، استعداداتهم لفرض عواقب وتكاليف اقتصادية باهظة على روسيا إذا غزت أوكرانيا، فإن ذلك لم يغير كثيراً من اعتراف بايدن نفسه بشكل علني، بأن التحالف عبر الأطلسي ليس موحداً بشأن كيفية معاقبة روسيا حال غزوها أوكرانيا.
بل إن استضافة باريس محادثات مع برلين وكييف وموسكو، الأربعاء، يعكس إلى أي مدى ترغب فرنسا في أن تكون الدبلوماسية الأوروبية أكثر استقلالية عن واشنطن، وهو ما يخالف رغبة دول البلطيق وعدد من دول الناتو في شرق أوروبا التي تضغط من أجل مشاركة ودعم أميركي أكبر بدعوى أن العلم الأميركي هو الوحيد القادر على ردع روسيا.
لكن، في خلفية التباين الدبلوماسي تظهر بوضوح الأسباب الاقتصادية التي تجعل الأوروبيين مترددين ومتخوفين من عواقب فرض عقوبات اقتصادية ومالية ساحقة على روسيا، فهم يشعرون بالقلق من العقوبات الأميركية، لأن لديهم علاقات تجارية بخاصة مع روسيا، فالاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري لروسيا، كما تشكل البضائع الروسية ثلث واردات فنلندا وليتوانيا وإستونيا، لكن في المقابل تحتل روسيا المرتبة 26 بين أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة.
ولهذا، فإن العقوبات الاقتصادية القوية ضد روسيا سيكون لها تأثير سلبي كبير على الاقتصاد الأوروبي، بسبب ترابط الاقتصادات الأوروبية مع روسيا، بخاصة ألمانيا التي تعد الحلقة الأضعف، بسبب خط أنابيب “نورد ستريم 2” للغاز الطبيعي الذي يستورده الاتحاد الأوروبي من روسيا، وسيضاعف ما تحصل عليه ألمانيا من الغاز، وهو الأمر الذي جعل كلام المسؤولين الألمان في السر مع نظرائهم الأميركيين مختلفاً عنه في العلن.
ولهذا، لم يعد أمام الأميركيين إلا التلويح بأسلحتهم الاقتصادية المنفردة التي لا تعتمد بأي حال على المواقف الأوروبية المرتبكة والمترددة، وعلى رأس هذه الأسلحة ما يسمى قاعدة المنتج الأجنبي المباشر.
سلاح اقتصادي فعال
استخدمت الولايات المتحدة هذا السلاح بفاعلية كبيرة من قبل ضد شركة “هواوي” الصينية، ما أدى إلى انهيار مذهل في مبيعاتها بلغ 30 في المئة، وتنبع جاذبية هذا السلاح العقابي من حقيقة أن أي شيء إلكتروني تقريباً يتضمن أشباه الموصلات، وهي المكونات الصغيرة التي تعتمد عليها جميع التقنيات الحديثة، من الهواتف الذكية إلى الطائرات وأجهزة الكمبيوتر، ولا يكاد يوجد شبه موصل على هذا الكوكب لم يتم صنعه بأدوات أميركية أو مصمم ببرامج أميركية، ومن ثم تعتقد إدارة بايدن أنه يمكنها إجبار الشركات في الدول الأخرى على التوقف عن تصدير هذه الأنواع من البضائع إلى روسيا.
وبحسب صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، من المحتمل أن تتجه إدارة بايدن إلى استخدام ضوابط جديدة على الصادرات لإلحاق الضرر بالصناعات الروسية الاستراتيجية ؛ من الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية إلى الفضاء الجوي المدني، في حال قامت موسكو بغزو أوكرانيا، وقد تقرر إدارة بايدن توسيع العقوبات على نطاق أوسع بطريقة قد تحرم المواطنين الروس من بعض الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية (التابلت) وأجهزة ألعاب الفيديو.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين في إدارة بايدن قولهم إنهم يعملون مع الحلفاء الأوروبيين والآسيويين، لصياغة تهدف إلى وقف تدفق المكونات الحاسمة إلى الصناعات التي يعتمد عليها ويطمح في تطويرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مثل الطيران المدني والنقل البحري والتكنولوجيا المتقدمة.
رياح معاكسة
غير أن الجهود المبذولة لاستخدام ضوابط التصدير قد تثير رياحاً قوية معاكسة من أصحاب المصالح التجارية الأميركية والأوروبية التي تخشى أن يؤدي استخدام ضوابط التصدير إلى انتقام روسي في مجالات أخرى، حيث يمكن أن تدفع هذه الإجراءات الأميركية الشركات الأجنبية إلى السعي لتصميم نفس هذه التكنولوجيا، لكن من إنتاجها، لأن توسيع عمل هذه القاعدة من مجرد شركة واحدة فقط، مثل “هواوي” إلى بلد بأكمله أو قطاعات كاملة من دولة كبرى هو أمر غير مسبوق.
ومع ذلك، لا يبدو إيجاد البدائل أمراً يسيراً في الوقت الراهن، إذ يشير محللون إلى أن روسيا معرضة للخطر، لأنها لا تنتج السلع الاستهلاكية الإلكترونية، كما لا تصنع الرقائق بكميات كبيرة، بخاصة أشباه الموصلات الأكثر تطوراً اللازمة لأجهزة الكمبيوتر المتقدمة، وهي صناعات تهيمن عليها، إضافة إلى الولايات المتحدة، كل من تايوان، وكوريا الجنوبية، وأوروبا، واليابان.
ولهذا، فإن قطع واردات الرقائق عن روسيا سيضر دائماً بطموحات التكنولوجيا الفائقة للقيادة الروسية، سواء في الذكاء الاصطناعي أو أجهزة الكمبيوتر الكمومية التي تقوم بعمليات حسابية أكثر تعقيداً، وتعتمد على الذرات والتركيبات الجزئية متناهية الدقة. كما أن تأثير قيود التصدير سيتصاعد بمرور الوقت مع تراكم الضغوط على الشركات الأجنبية التي ستوقف مبيعاتها لروسيا، ما يلحق الضرر بالإنتاج الصناعي الروسي، وسترفع أسعار البضائع الإلكترونية الاستهلاكية في روسيا.
استهداف السلاح الروسي
ولأنه لا مصلحة للولايات المتحدة في مساعدة القدرة التكنولوجية والصناعية لروسيا، طالما أن بوتين يستخدمها للتنمر على الجيران، فقد يكون الاستخدام المستهدف لقاعدة المنتج الأجنبي المباشر بمثابة ضربة مطلوبة ضد الجيش الروسي، الذي يعتمد على نوع من الرقائق يسمى (إلبروس) جرى تصميمه في روسيا، لكن تصنيعه يتم في تايوان داخل مصنع رقائق إلكترونية يسمى (تي أس أم سي)، وفقاً لـ”كوستاس تيغكوس”، خبير الإلكترونيات في مجموعة غينيس البريطانية المتخصصة في المعلومات الدفاعية والاستخباراتية.
وإذا منعت الولايات المتحدة شركة (تي أس أم سي) من توريد الرقائق إلى روسيا، مثلما منعت هذه الشركة بنجاح عملاق التكنولوجيا الصيني (هواوي) من الحصول على الرقائق الإلكترونية، فسيكون لذلك تأثير مدمر على الصناعات العسكرية الروسية على حد قول الخبراء، بخاصة أن شركة “تي أس أم سي” التايوانية قالت، في بيان، إنها تمتثل لجميع القوانين واللوائح المعمول بها، ولديها نظام صارم لمراقبة الصادرات، ولضمان اتباع قيود الرقابة على الصادرات، وهو ما يعني أنها ستنصاع للعقوبات الأميركية في هذا الشأن.
ويتوقع خبراء الصناعة أيضاً أن تمتثل الشركات الغربية متعددة الجنسيات لضوابط التصدير الأميركية، ذلك أن جميع صانعي الرقائق في الولايات المتحدة يحرصون على تضمين بنود في عقودهم مع الشركات الأجنبية، تتطلب منهم الالتزام بقواعد التصدير الأميركية، وهم يعلمون أن لدى الولايات المتحدة عصا غليظة لإجبار عملائها على الامتثال، إذ يمكنها أن تضع أي شركات تخالف القانون على قائمة كيانات وزارة التجارة، وهي قائمة سوداء تجعل الشركات الأميركية تمتنع عن بيع تقنيتها الحديثة لهؤلاء العملاء من الشركات الأجنبية.
تأثير أقل
غير أن مسؤولي الحكومة الروسية قللوا من أهمية التأثير المحتمل، إذا شرعت الولايات المتحدة في تنفيذ ما تخطط له من قيود التصدير، إذ قالت مجموعة صناعة الدفاع والتكنولوجيا الروسية المملوكة للدولة (روستيك)، في بيان، إنه بينما تستخدم بعض المكونات الأجنبية في المنتجات المدنية، فإن روسيا بدأت في صنع عديد من المكونات بمفردها، وأن موسكو نجحت في ذلك من قبل، وستدبر أمورها مرة أخرى بسرعة، وإن لم يكن على الفور.
وعلاوة على ذلك، فإن الصين يمكن أن توفر صمام أمان يسمح لروسيا بتلافي الآثار الأكثر ضرراً لعقوبات التصدير الأميركية، على اعتبار أن 70 في المئة من واردات روسيا من أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية جاءت من الصين، حسب البيانات الصادرة من معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، كما أن ثلاثاً من أفضل خمس علامات تجارية للهواتف الذكية في روسيا هي علامات تجارية صينية، وفقاً لمؤسسة المعلومات الدولية، وهي شركة متخصصة في أبحاث السوق.
هل تفعلها الصين؟
وما قد يساعد الشركات الصينية على القيام بدور بديل في هذه الأزمة، هو أن بكين لن تنظر بارتياح إلى امتداد نفوذ الولايات المتحدة خارج الحدود الإقليمية، فالصين تعارض دائماً العقوبات أحادية الجانب لأي دولة، وما يسمى الولاية القضائية الطويلة المدى على دول أخرى على أساس القانون المحلي.
وفي حين يشير بعض الخبراء، ومنهم سايمون بيكر، المحلل في شركة “آي دي سي”، إلى أنه يمكن للمصنعين الصينيين اختيار الاستمرار في بيع منتجاتهم إلى روسيا، حتى لو استخدموا مكونات تكنولوجية أميركية في منتجاتهم، استناداً إلى صعوبة مراقبة مبيعات الهواتف الذكية الصينية في روسيا.
إلا أن آخرين يرون أن هناك وسائل لضبط عدم الامتثال للقواعد الأميركية، فوزارة التجارة في واشنطن تحصل على تقارير ونصائح من الشركات حول المنافسين المخالفين لقواعدها، كما يفحص محققو الوزارة بيانات الشحن، فضلاً عن ميزة أخرى مهمة، وهي تمتعهم بمعلومات استخباراتية من وكالات أميركية أخرى.
وإذا انتهى الأمر بالشركات الصينية إلى تزويد روسيا بما ينتهك القواعد الأميركية، فإن ذلك سيضع واشنطن أمام معضلة دبلوماسية كبيرة، إذ سيتعين عليها معاقبة هذه الشركات، حتى لو كانت تصنع سلعاً عادية، وليست عسكرية، وهو ما سيضر بهذه الشركات، وقد تلحق بشركة “هواوي” التي طبقت عليها إدارة ترمب قاعدة المنتجات الأجنبية المباشرة في أغسطس (آب) 2020، وتراجعت مبيعات هواتفها الذكية إلى المركز العاشر عالمياً بعد أن قادت العالم في المبيعات في وقت سابق من عام 2020، بحسب مركز البيانات الدولي.
المصدر : أندبندنت