كريتر نت – عربي بوست
وصول رئيس وزراء تايلاند إلى السعودية أعاد للواجهة قضية سرقة المجوهرات التي أفسدت علاقات البلدين قبل أكثر من 30 عاماً، فما قصة حرب “الألماسة الزرقاء”؟
استقبلت السعودية الثلاثاء، 25 يناير/كانون الثاني، رئيس وزراء تايلاند برايوت تشان أوتشا، في أول زيارة رسمية لمسؤول تايلاندي رفيع المستوى إلى السعودية منذ نحو 30 عاماً.
وجاءت زيارة أوتشا، الذي يشغل أيضاً منصب وزير الدفاع التايلاندي، تلبيةً لدعوة الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، وتستمر الزيارة يومين، ومن شأنها تطبيع العلاقات الثنائية بين المملكتين بعد توقفها منذ الثمانينات، فضلاً عن بحث سبل تعزيزها في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والنفطية والتجارية والعمالية، بحسب وكالة الأناضول.
قصة السرقة الكبرى من بدايتها
قصة تدهور العلاقات بين السعودية وتايلاند بدأت في صيف عام 1989، وبطلها الأول كيرانغكراي تيتشامونغ، بستاني تايلاندي يعمل في قصر الأمير فيصل بن فهد بن عبد العزيز آل سعود.
العامل التايلاندي قرر سرقة جزء من مجوهرات كثيرة شاهدها في قصر الأمير، لتبدأ سلسلة من الأحداث الدامية والدرامية عنوانها “حرب الألماسة الزرقاء”، وتكلفتها الباهظة بلغت 18 قتيلاً وخسائر بلغت المليارات.
وأصبحت القصة مادة للأساطير، فهي عملية سرقة جنونية حتى بالنسبة للأفلام السينمائية، ووضعت معياراً جديداً لمخطَّطات “الثراء السريع”.
كان كيرانغكراي تيتشامونغ يملك سبيل الوصول إلى المجوهرات، والثقة الكافية بالنفس، واستراتيجية خروج.
بالتأكيد لن يتأثر الأمير فيصل بن فهد بفقدان القليل منها، و”القليل” هنا يعني جواهر، بينها واحدة فقط تقدَّر قيمتها بنحو 20 مليون دولار، كان كيرانغكراي يضع عينه عليها، حسب تقرير لموقع The Daily Beast الأمريكي.
واستطاع البستاني التسلل إلى غرف النوم عند غياب أصحابها، ليسرق المجوهرات على دفعات كبيرة، ووصل مجموع ما سرقه إلى 90 كيلوغراماً من القلادات والخواتم والأساور المصنوعة من الأحجار الكريمة والذهب، وساعات مرصعة بالياقوت والألماس، حسب شبكة BBC.
ونجح كيرانغكراي في البداية، مع أن خطته اشتملت على فراره إلى وطنه الأم، فهو لم يتوقَّع أن يتلافى جميع الشبهات، لكن فور عودته إلى تايلاند تدهورت الأمور تدهوراً كبيراً وعلى نحو سريع.
واستمرَّت توابع القضية لما يزيد على ثلاثة عقود من الزمان، ففي أعقاب السرقة ازدادت قائمة شخصياتها لتضمَّ مسؤولين تايلانديين سيِّئي السلوك، ومحقِّقين سعوديين قتلى، وشرخاً دبلوماسياً عميقاً بين الدولتين.
وفي نهاية المطاف، لم يواجه أيٌّ من المشتركين في القضية تقريباً أية عواقب، وما زالت كميةٌ كبيرةٌ مما سُرِق مفقودةً، بما فيها ألماسة زرقاء بوزن 50 قيراطاً يُقال إنها أكبر من “ألماسة الأمل” الشهيرة.
ورصد موقع The Daily Beast تفاصيل ليلة السرقة، بحسب ما قاله اللص نفسه، إذ بدأ البستاني ذات ليلة، وتحت ستار الظلام، تطبيق خطته.
تسلَّق السور الخارجي للقصر، وتسلَّل إلى الداخل عبر إحدى نوافذ الطابق الثاني، وأخذ 90 كيلوغراماً من المجوهرات من خزينة العائلة.
ومع أنه لم يُفصَح عن التفاصيل الدقيقة للسرقة، فتزعم بعض الروايات أنه انسلَّ هارباً بما سرقه عن طريق تخزينها في كيس مكنسة كهربائية وجرِّها إلى الخارج. (لم يكن أحد ليشكَّ فيه لو رآه، ففي بعض الأحيان كان كيرانغكراي يؤدي دور عامل القصر).
ماذا بعد أن نجح العامل في تنفيذ السرقة؟
استولى اللص التايلاندي على غنيمةٍ لم تكن تشمل فقط الألماسة الزرقاء الشهيرة، وإنما أيضاً قلادةً من الياقوت الأزرق بقيمة مليونَي دولار، وقلادةً نادرةً من الألماس الأخضر، وعدَّة ساعات ذهبية،
ووفقاً لصحيفة The Washington Post، “ياقوتات بحجم بيض الدجاج”.
وبغض النظر عن طريقة تهريبه لغنيمته خارج القصر، فلم يضيِّع كيرانغكراي أي وقت في الابتعاد بها عن مسرح الجريمة، إذ شحنها إلى تايلاند من خلال شركة DHL، وتبعها إلى هناك بُعَيد ذلك بقليل.
وسرعان ما اكتُشِفت السرقة، ولما حدث هذا كان من الواضح هوية المسؤول عنها. وتواصل السعوديون مع المسؤولين في تايلاند، الذين ألقوا بدورهم القبض على كيرانغكراي.
لكن المجوهرات لم تعد بحوزته، فبعد الوصول إلى وطنه باع كيرانغكراي غنيمته -بأقل بكثير من قيمتها الحقيقية- إلى صائغ يُدعى سانثي سيثاناكان.
وأسرع بالإفصاح عن اسم تاجره في مقابل تخفيف الحكم عليه.
هنا يجب أن تنتهي القصة في أنجح تحقيقات السرقة، إذ يُلقى القبض على مرتكبي الجريمة، وتُستَرجع السلع المسروقة، وتعود الحياة إلى مجراها.
لكن هذه هي قضية الألماسة الزرقاء، حيث لا يتبع أي شيء الوصفة المعهودة.
استعاد المسؤولون التايلانديون كنز السعوديي المفقود وأعادوه إلى مالكه الشرعي.
لكن الأمير اكتشف أن 20% فقط من المجوهرات التي أعيدت إليه حقيقية، أما الباقي فمزيفة.
واتُّهم مسؤول تايلاندي بارز باختلاس بعض المجوهرات، وتم استردادها منه وأعيدت للأمير عام 1991، إلا أن الكمية كانت صغيرة، ولم تكن الألماسة الزرقاء من بين المجوهرات المستردة.
أثناء اكتشاف السعوديين أن مجوهراتهم الثمينة كانت في الحقيقة قطعاً زائفةً عديمة القيمة، بدأت زوجات بعض كبار المسؤولين التايلانديين يظهرن في الحفلات في أنحاء البلاد وهن يرتدين ما يُزعَم أنها إكسسوارات جديدة بدت شبيهةً على نحو مريب بالمجوهرات المعروفة سابقاً بكونها مجوهرات الأمير فيصل.
تحرك سعودي لاسترداد الكنز المفقود
كانت إهانةً سافرةً ما كان السعوديون ليتجاهلوها. فقرروا إرسال مجموعة من المبعوثين إلى تايلاند لمحاولة التوصُّل إلى حقيقة الأمور.
وفي الأول من فبراير/شباط 1990، قُتِل 3 من الدبلوماسيين السعوديين الوافدين حديثاً إلى بانكوك في ظروف غامضة.
وفي وقتٍ لاحق من ذلك الشهر، اختفى المندوب الرابع -وهو رجل أعمال سعودي- ويُفتَرض أنه لقي المصير نفسه.
وكمعظم مفاجآت قضية الماسة الزرقاء، لم تُكشف الحقيقة وراء هذه الاغتيالات قط.
يقول السعوديون إن أفراد الشرطة التايلانديين المتورطين في عملية السرقة المستمرة هم المسؤولون عن جرائم القتل ؛ وليس من الواضح إن كان هذا صحيحاً، إذ اقترحت برقية أمريكية سرية أُرسلت عام 2010 أن حزب الله ربما هم من ارتكبوا هذه الجرائم، لكن ليس معنى هذا أن السلطات التايلاندية بريئة.
ومع استمرار إزالة آثار الفضيحة، ومع تهديد سُمعة عديد من كبار المسؤولين التايلانديين وحريتهم، واصلوا التستُّر على أية أخطاء اقترفوها. وفي عام 1994، اختُطِف تاجر المجوهرات سانثي لثلاثة أيام، وقد كان شاهداً أساسياً في القضية نظراً لقدرته على تحديد أسماء المشترين. وفي العام نفسه، عُثِر على جثَّتَي زوجته وابنه في سيارة.
في حوار مع The New York Times عام 1994، صرح محمد سعيد خوجة، أحد كبار الدبلوماسيين السعوديين في تايلاند، قائلاً: “الشرطة هنا أكبر من الحكومة نفسها. أنا مسلم، وما زلت هنا لشعوري بأنني أصارع الشياطين”.
ومع تواصل أحداث القصة العارمة، تدهورت العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين. وفقد العمال التايلانديون في السعودية تصريحات عملهم ورُحِّلوا إلى بلادهم. وقلَّلت المملكة السعودية تعاملاتها الدبلوماسية مع تايلاند. وحتى عام 2010، ظَل آلاف المسلمين التايلانديين مُهمَلين بانتظار الحصول على تأشيرات سفر لأجل الذهاب إلى مكة لتأدية فروض الحج. وبدا أن السعوديين كانوا يمارسون الضغط بالتأشيرات مبرِّرين ذلك بـ “أسباب فنية”.
اللص أصبح راهبا والماسة الزرقاء لا تزال مفقودة
لو كان هذا أحد أفلام السرقة، لتحقَّقت العدالة في هذه النقطة، ولقُدِّمت الحلول، ولعُثِر على ماسة زرقاء نادرة بوزن 50 قيراطاً، ولعادت الأمور إلى نصابها. لكن عمليات السرقة في عالم الواقع أكثر تعقيداً.
في النهاية وُجِّهت تهمٌ لخمسة شرطيين، ولكن ما أثار غضب السعوديين أن رُفِضت الدعوى ضدهم عام 2015 بموجب عدم وجود أدلة كافية.
وكان الفريق تشالو غيرتد قد أدين باستلام الأحجار الكريمة المسروقة وتقاسمها مع كبار الضباط المتورطين، بعد أن أعاد للأمير فقط 20% من المجوهرات الحقيقية، أما الباقي فكانت مزيفة، كما تمت إدانته بإصدار أمر قتل زوجة تاجر المجوهرات وابنه بعد أن عجز التاجر عن تأمين مبلغ الفدية. وحكم عليه بالإعدام، ثم خُفِّض إلى السجن 50 عاماً، إلا أنه تم الإفراج عنه لاحقاً في عام 2006.
وما زالت الماسة الزرقاء مفقودةً، بينما بيعت أخواتها بملايين الدولارات في المزادات. (في 2016، أصدرت CNN تقريراً عن وجود “هوسٍ” ما بماسةٍ زرقاء في عالم المزادات. وفي نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، بيعت نسخة منها بوزن 12.03 قيراط باسم “القمر الأزرق” مقابل 48.4 مليون دولار).
وربما الطرف الوحيد في القصة الذي وجد السلام هو الرجل الذي بدأها كلها. فقد كشفت مجلة Foreign Policy الأمريكية عام 2016 أن كريانغكراي قد قرَّر الترهبن. وكان الحكم الذي تلقاه نظير جريمته خفيفاً إلى حد ما؛ إذ قضى البستاني السابق 3 سنوات من فترة سجنه. لكن لا يعني هذا أنه لم يتعرض لأنواع أخرى من العقاب أيضاً، كما هي عادة القصص الخرافية عن الألماس المسروق ولَعناته.
وقال كريانغكراي في حديث مع Foreign Policy: “أنا واثق أن جميع مصائبي هي نتيجة لعنة من الماسة السعودية التي سرقتها، لذا قررت الترهبن لبقية حاتي من أجل التكفير عن أخطائي”.
وكما ذكر المقال، فهو ربما لم يطهِّر روحه من هذه القضية بالكامل. فبعد أن صار راهباً بوذياً، أُعطي كريانغكراي اسماً جديداً. وهو يُعرف الآن بـ “صاحب المعرفة عن الألماس”.