كتب : إبراهيم الجبين
ترددت خلال الأيام القليلة الماضية صيغ كثيرة لوصف ما يجري في مدينة الحسكة مركز محافظة الجزيرة السورية والتي تشهد صدامات عنيفة بين قوات قسد التي يهيمن عليها حزب العمال الكردستاني التركي، وسجناء قيل إنهم إرهابيون دواعش، على أن أبلغ تلك التعبيرات كان اشتقاق “بعث داعش” للإشارة إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الذي كان قد بدأ يعتقد أنه صفحة طويت، إنما يعاد إلى الحياة اليوم بقدرة قادر، لا من تلقاء ذاته.
الدور الوظيفي الذي دعمته الولايات المتحدة وحلفاؤها للفرع السوري لحزب العمال الكردستاني الذي رفع صورة عبدالله أوجلان في كل شبر من المناطق التي سيطر عليها، تركّز في القضاء على داعش وفلوله أينما وجدت. وهي مهمة اعتقد الجميع أنها نفّذت على “طاقين”؛ المرة الأولى في الحرب على داعش الحقيقية، والمرة الثانية في اتهام كل من تمرّد على ما صارت تُعرف بقوات سوريا الديمقراطية بالانتماء إلى داعش، ودعشنة العرب السنة الذين يشكلون غالبية سكانية تتجاوز 90 في المئة مقابل 10 في المئة فقط تشمل الآشوريين والسريان والشيشان والأرمن والتركمان والأكراد في المحافظات الثلاث الرقة ودير الزور والحسكة.
فماذا حدث ليستيقظ التنظيم الإرهابي الدموي من تابوته المُحكم؟ وتحت أعين الحرّاس على الأرض وطيران الولايات المتحدة من السماء؟
اللعبة كلها تبدو غير محترفة، تنقصها الأدوات المقنعة التي سمحت أساسا لبضعة متطرفين دمويين باحتلال قواعد عسكرية كبرى غرب العراق، ثم بالسيطرة على العاصمة الثانية في ذلك البلد؛ الموصل، قبل التوسع وكسر الحدود السورية – العراقية وإقامة محافظات في مساحات هائلة من سوريا. ثم بعد ذلك ترك دولة ذات عملة ووزراء و”خليفة” تنمو وتخلق خطابها الإعلامي والأيديولوجي حتى لم يعد ينقصها سوى الاعتراف الرسمي من دول الجوار وبعض دول العالم، وبعض من هذا حدث تحت الطاولات.
بدلا من الاستسلام لرواية عودة داعش من عالم الموتى، الأجدر التفكير في المستفيدين من تلك العودة، ولماذا الآن؟ وما الذي سيترتب عليه قلب الطاولة
تلت تلك المرحلة مرحلة تحشيد غير مسبوق، تأسس على إثره في العراق حشد شعبي طائفي يقابله في سوريا حشد قومي عنصري كردي، وكان ضحايا هذين الحشدين من الأبرياء والمدنيين والحواضر العربية السنية أكثر بكثير من قتلى داعش وخسائره. وكان الهدف الإجهاز على العرب السنة في البلدين حتى آخر حجر في آخر قرية يمكن تجريفها ونقلها بالكامل مع نسائها وأطفالها إلى معسكرات اعتقال بتهمة أن بعض سكان القرية كانوا من الدواعش.
جرى ذلك بغطاء من التنظير المدفوع مسبقا، اتهم عرب العراق وسوريا بتهمة لم يسمع عنها التاريخ الحديث منذ انهيار الرايخ الثالث في ألمانيا وزوال الأفكار النازية التي تقسّم البشر حسب جيناتهم، فنظّر بعض من استحضرتهم “قسد” لزيارة المناطق التي تحتلها متهمين المجتمع العربي هناك بأنه يعاني مما سموه “النطفة البعثية الداعشية”. ذلك التعبير الذي وصم عرب غرب العراق وشرق سوريا بالقابلية لاعتناق أفكار البعث وداعش والذي نشرته صحيفة “الحياة” السعودية في مواد عديدة كتبها الباحث اللبناني حازم الأمين دون وجل.
تزامن ذلك مع مسح إيراني للطبقات الشعبية الأكثر فقرا وتطبيق برامج التشييع الإجباري وإقامة الحسينيات في قرى صغيرة لم يكد يحفظ أحدٌ من سكان بعضها أكثر من سورة الفاتحة في الماضي، بسبب التجهيل المبرمج والطويل الذي طبقه عليها النظام السوري بحقبتيه، عهد الأب وعهد الابن.
وكلما كان داعش يمعن في دمويته، كان الخطاب العنصري والطائفي يتعالى أكثر، والتركيب الدولي لجيش من أكثر من سبعين دولة يتعاظم. إلى أن تم إعلان القضاء على داعش وقتل زعيمه البغدادي لاحقا، وإقامة الاحتفالات بالانتصار على أنقاض الموصل والرقة ودير الزور.
ومن يرصد الأخبار القادمة من تلك المناطق خلال الشهور الماضية، سيلاحظ خطا بيانيا متناميا يؤشر إلى عمليات تشنها ما سمّيت بـ”خلايا داعش” في البادية، أولى تلك العمليات كان قد قيل إنها نفّذت ضد عناصر الجيش السوري، بين قتل مباشر أو اختطاف.
ماذا حدث ليستيقظ التنظيم الإرهابي الدموي من تابوته المُحكم؟ وتحت أعين الحرّاس على الأرض وطيران الولايات المتحدة من السماء؟
وبمثل ما فوجئ رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي بتحرّك داعش قبل أعوام، فوجئ الأكراد في قسد بتمرّد سجن الصناعة، الذي يضم حسبما أعلنت قسد أكثر من خمسة آلاف معتقل تقول قسد إنهم دواعش. ويضم كما تقول قسد عناصر وقادة، معظمهم من جنسيات عربية وأجنبية، كانت اعتقلتهم خلال الأعوام الماضية.
هذا السجن جزء من منظومة سجون تديرها قسد في المنطقة، مثل سجن “كامب البلغار” في الشدادي، وسجن “الشدادية”، وسجن “ديريك” في بلدة المالكية، وسجن “نافكر”، وسجن “رميلان” في القامشلي، وسجن “الكسرة” في ريف دير الزور، وسجن “الرقة المركزي” في محافظة الرقة، تلك السجون تضم نحو 12 ألف رجل وطفل يشتبه في انتمائهم لتنظيم الدولة الإسلامية، وقرابة 4 آلاف أجنبي من 50 دولة. هذا عدا عن مخيم الهول الرهيب الذي أصبح مسرحا لعمليات بيع وشراء معلنة ومكتومة للمعتقلين تقايضهم قسد بمبالغ مالية مع ذويهم وأعيان وشيوخ القبائل التي ينتمون إليها.
وبدلا من الاستسلام لرواية عودة داعش من عالم الموتى، الأجدر التفكير في المستفيدين من تلك العودة، ولماذا الآن؟ وما الذي سيترتب عليه قلب الطاولة على ديمقراطية كانت قسد تؤسسها بالسجون ومقايضة معتقلي تلك الدول الـ50 مع حكوماتهم، إضافة إلى الصفقات المعقودة بينها وبين نظام الأسد من جهة، وجبل قنديل والإيرانيين من جهة ثانية، وكل ذلك برعاية ودعم أميركي خارج حتى على قوانين ووزارات خارجية ودفاع وخزانة الولايات المتحدة ذاتها التي تصنف حزب العمال الكردستاني تنظيما إرهابيا، ولكن تحت معادلة ضرب الإرهاب بالإرهاب، كان كل شيء مباحا.
قبل أسابيع فقط بث المكتب الإعلامي في قسد اعترافات لمعتقل قيل إنه قيادي في داعش، كشف فيها أن عناصر التنظيم يستعدون لاقتحام سجن الصناعة في الحسكة، وسط جدل كبير يدور في واشنطن حول جدوى بقاء القوات الأميركية في سوريا، وحالة ذعر كردي من انسحاب الجيش الأميركي من سوريا، ما يترك قوات قسد لقمة سائغة بين يدي الأتراك من جهة، والنظام السوري من جهة أخرى، حيث يرفض الأسد أي تفاهم مع الأكراد يتيح لهم الاحتفاظ بكيان عسكري كردي داخل الجيش السوري.
يضاف إلى ذلك ما سوف يترتب على البرهنة على فشل قسد في السيطرة على الأوضاع في المحافظات السورية الثلاث، وفشلها في تأسيس علاقات مدنية مع بقية المكونات فيها، لاسيما الغالبية العربية من السكان، وفشلها في إدارة ملف داعش وإغلاقه تماما، كل ذلك سيكون له استثماره في الأيام القادمة، وبداية ذلك هو سحق كل حالة مدنية ممكنة في المنطقة وإلحاق الحسكة بشقيقاتها من المدن المدمّرة، تدمير بدأه الطيران الأميركي قبل خمسة أيام بدك جامعة المدينة وكلية الاقتصاد ومدرجات الهندسة المدنية ومعهد المراقبين الفنيين فيها وتسويتها بالأرض في طريق الحرب على داعش، ما أدى إلى نزوح أكثر من 3500 أسرة تركت منازلها هربا من كثافة النيران التي تصبها قوات قسد وقوات داعش التي باتت تملك بين ليلة وضحاها ترسانة تستحق مواجهتها كل تلك القوة النارية من الأرض والسماء.
نقلاً عن العرب اللندنية