علي الصراف
صراخ أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية في مؤتمر ميونخ للأمن بشأن المخاطر التي تهدد النظام العالمي لا يغني عن واقع أن المطالب الروسية تعني أن هذا النظام سوف يتفكك في نهاية المطاف، لأنه قائم على أسس لم تعد الولايات المتحدة قادرة على حمايتها، كما لم تعد الدول الأوروبية قادرة على تحمّلها.
فون دير لاين قالت “إن روسيا شرعت في تقويض الهيكل الأمني الأوروبي وهي تقوم بمحاولة صارخة لإعادة كتابة قواعد النظام العالمي”.
وهذا صحيح إلى حد بعيد. ولكن السؤال الذي يأتي من بعده هو: مَنْ الذي يمكنه أن يوقف هذه المحاولة؟ وكيف؟
الوحيد الذي يجرؤ على التصدي للمحاولة الروسية، هو مَنْ يمتلك الجرأة على خوض الحرب ضدها، ليس بالمزيد من العقوبات، وإنما بتصادم الأسلحة.
فتش في كل مكان في أوروبا ولن تجد واحدا.
روسيا إنما تطرح مطالب، بعضها معلن، هي مما نقرأ عنه كل يوم بشأن توسع الأطلسي. وبعضها يحولُ حياءُ القوة العظمى عن طرحه في العلن. وهو التخلي عن العقوبات، ونبذ سياسات العداء والشيطنة ضدها.
روسيا التي حاولت أن تنخرط في النظام العالمي ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لم تجده منصفا لها، بسبب تلك السياسات. هذا أولا. ثم إنها لم تعد مجرد قوة عظمى منهارة، هذا ثانيا. كما أنها ليست وحيدة في ميزان العلاقات الدولية، لا اقتصاديا ولا استراتيجيا.
الصين على الطرف الآخر للأزمة، تعرف تماما أنها هي الهدف من محاولات إضعاف روسيا والتضييق عليها من جانب الولايات المتحدة والحلف الأطلسي الذي يعمل كذراع عسكرية للهيمنة الاقتصادية الأميركية.
التضييق على روسيا، هو بالأحرى تمرين اقتصادي للتضييق على الصين.
قواعد النظام الدولي القائمة على الابتزاز والعقوبات وهيمنة قوة دولية فقدت الجرأة على خوض الحرب، صار يجب بالفعل أن تُعاد كتابتها
يستطيع المسؤولون الغربيون أن يوجهوا المزيد من التهديدات بفرض عقوبات “تجعل روسيا دولة منبوذة”، ولكن هذا الكلام الفارغ لا يقف خلفه مَنْ هو مستعد لا للدفاع عن أوكرانيا، ولا لتحمل التكلفة الاقتصادية المرتدة على أوروبا.
أحد أكبر التهديدات هو إخراج روسيا من نظام “سويفت” للتبادل المصرفي. ولكن سرعان ما اتضح أن عملا كهذا سوف يؤدي إلى انهيار النظام المصرفي العالمي نفسه.
أما وقف استيراد الغاز الروسي، فعدا عن أنه مجرد حلم ليلة صيف، حيال العديد من العوامل، فإن بدائله تحتاج إلى العديد من السنوات، لتكون بدائل حقيقية.
أحد أبرز تلك العوامل هو ارتفاع أسعار النفط والغاز في السوق العالمي، ممّا يمكن أن يؤدي إلى صدمة اقتصادية لن يسهل على الدول الغربية تحمّلها، عقب عامين من أزمة كورونا. فالغاز الروسي بالنسبة إلى أوروبا هو أرخص سلع الطاقة. العامل الآخر هو أن العودة إلى وسائل الطاقة التقليدية مثل الفحم سوف تعني انهيارا تاما للالتزامات المتعلقة بحماية المناخ، مما يمكن أن يفجر احتجاجات داخلية. أما العامل الثالث فهو أن الولايات المتحدة إذا كان بوسعها أن ترسل جنودا لتعزيز دفاعات حلفائها، فإنها لن تعوّضهم عن الخسائر الاقتصادية. كما أنها ستكون أقل المتضررين بالنظر إلى أنها تمتلك احتياطات ضخمة.
كل العقوبات الأخرى، ذات الطابع الجزئي، لن تترك أثرا فعليا على سياسات الكرملين. ولقد تمّت تجربتها وفشلت.
روسيا التي طُردت من مجموعة الدول الصناعية الثماني عقب استعادتها لشبه جزيرة القرم في العام 2014، وتعرضت إلى سلسلة عقوبات متواصلة، نجحت في التغلب عليها، وبقي اقتصادها ينتعش حتى بات يتوفر لها فائض معقول من الاحتياطي النقدي والذهب.
المواجهة الرئيسية في أوروبا ستظل قائمة. والضغط على أوكرانيا سوف يستمر، ليس لتنفيذ اتفاق مينسك حول حقوق الجمهوريتين دونيتسك ولوغانسك في إقليم دونباس، فحسب، وليس للتخلي عن عضوية الأطلسي فحسب، ولكن للتخلي عن الانخراط في سياسات الاستعداء والكراهية الغربية ضد روسيا أيضا. والأطلسي هو الذي يتعيّن أن يتراجع أمام “المحاولة الروسية الصارخة لإعادة كتابة قواعد النظام الدولي”، بأن ينسحب إلى مواقعه في العام 1997 وإلا فإنه يجب أن يكون مستعدا لخوض الحرب.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما وزير خارجيته سيرغي لافروف، ألمحا غير مرة، بأن تمدد الأطلسي وصل إلى حبل الرقبة. حتى تساءلا “إذا وصلت تجهيزات الأطلسي إلى حدودنا وبات بوسعه ضرب موسكو، فإلى أين يجب أن نذهب؟”.
صحيح أن واشنطن ظلت تبيع العنتريات الدفاعية على حلفائها، إلا أن هؤلاء الحلفاء أنفسهم يعرفون سلفا أن قارتهم لم تعد قادرة على خوض الحروب
حسناء الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك كشفت أنها غبية أيضا، عندما قالت “إن روسيا تقدم للغرب مطالب الحرب الباردة”. الحقيقة هي أن روسيا تريد العودة إلى واقع ما بعد الحرب الباردة، أي إلى واقع السنوات بين سقوط الاتحاد السوفياتي والعام 1997 عندما بدأ الأطلسي يتمدد في أوروبا الشرقية، ويفرض توازنات استراتيجية جديدة على الأرض.
هذا التمدد هو الذي يعود بالأمور إلى سنوات الحرب الباردة!
سياسات التصعيد والتهديد التي مارستها الولايات المتحدة، تدفع حلفاءها الآن إلى الحافة، من دون أن تكون مستعدة لخوض الحرب، ومن دون أن يكونوا هم أنفسهم مستعدين لخوضها.
المنطق كان يستوجب الليونة وتفهم المخاوف الروسية، وليس رفع عقيرة التهديد بالمزيد من العقوبات.
هذا التهديد دفع موسكو إلى المزيد من التمسك بمطالبها، لتقول للولايات المتحدة ولحلفائها الأوروبيين وللأطلسي: مَنْ يجرؤ فليتقدم.
الولايات المتحدة التي تهرب من منطقة الشرق الأوسط حيال “الجرذ الإيراني” تحاشيا لخوض حرب، لن تملك الجرأة على مواجهة “الدب الروسي”.
الرئيس بوتين، يستطيع أن يرى، على الأقل، كيف فرضت إيران شروطها على الولايات المتحدة في مباحثات العودة إلى الاتفاق النووي في فيينا، وكيف ظلت تعامل وفدها باحتقار، برفض التفاوض المباشر معه، حتى هذه الساعة. وكيف أنها تخلت عن حلفائها في الشرق الأوسط واحدا بعد الآخر، لكي لا تجد نفسها في مواجهة مع إيران أو جرذانها.
صحيح أن واشنطن ظلت تبيع العنتريات الدفاعية على حلفائها، إلا أن هؤلاء الحلفاء أنفسهم يعرفون سلفا أن قارتهم لم تعد قادرة على خوض الحروب، حتى ولو رغبت بها. هذا الأمر لم يعد ممكنا لا اقتصاديا، ولا اجتماعيا ولا ثقافيا، حتى ولو توفّرت له القدرات العسكرية.
ولقد بدد الرئيس بوتين، سلفا، خيارات خوض الحرب من دون أسلحة نووية. وهو أمرٌ عادةً ما يُطرح لتخطيط قواعد الاشتباك. قال بوضوح صادم إن أسلحة بلاده النووية هي بديله الوحيد في مواجهة ميزان القوة العسكري الذي يميل لصالح الأطلسي. حتى أنه صار يقبل أن تتعرض بلاده إلى ضربات نووية، قائلا، بنزعة دينية جديدة عليه “سنكون شهداء وسنذهب إلى الجنة”.
بقي أن يقبل الطرف الآخر، من برلين إلى واشنطن، بالذهاب إلى الجنة!
قواعد النظام الدولي القائمة على الابتزاز والعقوبات وهيمنة قوة دولية فقدت الجرأة على خوض الحرب، صار يجب بالفعل أن تُعاد كتابتها.
نقلاً عن العرب اللندنية