محمد علي محسن
حزمت أمتعتي ورحلت عن المدينة ، بفؤاد مفطور وصدر مكسور ، في الحجرة ٦٥ من القطار المتجه إلى مدينة كييف ، قضيت ساعات الرحلة .
جلست قرب النافذة أتطلع في الغابات الكثيفة التي تشطرها سكة الحديد إلى شطرين ، محمد قرر البقاء في أوديسا في آخر لحظة ، لذا بقيت وحدي في الغرفة ، يشاطرني الملل والسأم من فرط الوقت الطويل ، سرير ومقطورة حديد كئيبة ، لا يطاق هسيسها الصافر ، صلصلتها أو فرقعة موصلاتها وأصواتها الصاعدة من أسفلها .
ليوم وليلة وأنا بين أربعة جدر ، سئمت الوحدة والفراغ ، حتى القراءة التي هي زادي ومؤنسي في السفر صارت لا تطاق نتيجة للصلصلة والفرققعة الناخرة للأذنين .
كل المسافرون إما يغطون في الكرى أو يلهون ويمرحون ويتجاذبون الكلام في غرفهم ، إلَّا أنا ما بين المقصورة الضيقة والسرير ذهابًا وإيابًا . ضقت ذرعًا من الصمت في اليوم الأول ، فرحت أفتش في سلسلة المقطورات علني أجد ما يؤنسني أو يخرس أصوات معدتي .
مرت ساعات الرحلة ثقيلة ، ومن شدة رتابتها كأنَّها سنوات في زنزانة انفرادية ، لا وسط رياض وغابات مكسوة بأشجار السرو والبلوط والكستناء والصنوبر والزان والزيزفون والبتولا والحور الرومي والأعشاب والخضرة .
توقفت أخيرًا حركة القطار ، فبعد مسير قطع خلالها ٧٥٠ كم تقريبا ، ها هو القطار العتيق يلفظ ما في جوفه في المحطة ، الوقت كان مبكرًا ، بدأ وجه المدينة غاطًا في سبات غسق الفجر المنسلة خيوطه البيضاء في الأفق ، مبددة وحشة العتمة الملتحفة المكان ، قرقعات أحذية النسوة تخترق سكينة ورتابة اللحظة ، قرقعة طالما اوقضت فيَّ الشعور لمصافحة مصدر انبعاثها رغم أنفي .
الحافلة الواقفة في فناء المحطة قابلتنا بوجه عبوس وفاتر ، فندق ” مير ” الرابض بشموخه في صدر ربوة كأنّه يزفر كآبة ظلمة آخر الليل في وجوهنا نحن الوافدون إليه ، فحتى موظفة الاستقبال ،أيضًا ، استقبلتنا بوجه واجم ، وبزفرات تماثل أنفاس شجر المدينة .
لم أحتمل كآبة الدقائق فكسرت حالة الصمت المخيمة في صالة الإنتظار :
أهكذا يا كييف ، يا ست الحُسن والجمال تستقبلين محبًا متيمًا فيك ؟! لست الأمير ” خان باي ” العتل الزنيم الطامع بضمك غصبًا لمملكته كي تنفثين بوجهي زفير أساك وحزنك !! فأنا مثل الأمير شغوف بسحرك ودلالك ولا أشبهه في عشقي وغزوتي !.
في الصباح نهضت على قرعات باب الغرفة ، فمن علو المكان المطل على أكثر من وجه بانورامي لكييف ، كانت استفاقتي التي أيقظت معها كل حواسي .
من نافذة الحجرة قدر لي لمح وجه المدينة البديع لأول مرة ، وجه من وجوه متعددة ، فكييف لها أكثر من وجه ، وأكثر من ملمح وصورة .
ما رأيته حين الوصول ليس إلَّا الوجه المعتم لمرآة ساطعة الضوء في أكثر من وجه .
بعد أن أنصدع عمود الصباح وأشرقت الشمس على المدينة من وراء خدرها بدت كييف بأوجه متعددة لا تجمعها عدسة واحدة أو عين ، فكييف في تلالها والتواءاتها ومنحدراتها وهضابها تشبه تضاريسها الحالمة تعز ، الفارق أن الأخيرة بسيطة ويمكن جمعها في مشهد من جبل صبر الشاهق ، بينما كييف لا تجتمع في مشهد واحد سوى من الفضاء .
فمساحتها المتمددة على طول ضفتي نهر ” الدنيبر ” ولأكثر من خمسين كيلو متر من الشمال إلى الجنوب ، ناهيك عن كونها واقعة فوق سلسلة من التلال المنحدرة والمرتفعة تدريجيًا فوق مستوى النهر ؛ جعلت من الاستحالة جمع هذه المدينة الغارقة بالخضرة والحدائق والرياض والهضاب والكاتدرائيات والقباب الذهبية في مشهد واحد من الأرض .
كييف بحق مخلوقة من الأساطير واليقين ، فعوض عن الأسطورة القائلة بتأسيسها قبل عشرين ألف سنة ، وتحديدًا في العصر الحجري على يدي الأربعة الأشقاء ” كيي وشتشيك وخوريف و شقيقهم ليبيد ” الذين كانوا يبحرون في النهر وعند رؤيتهم للتلال قرروا النزول من اليخت ، ومن ثم الإستيطان في المكان الذي أجمع الأشقاء على تسميته باسم الشقيق الأكبر ” كيي ” ؛ فأن المدينة في الواقع من أجمل مدن أوروبا على الإطلاق ، إذ جمعت ما بين جمال الطبيعة الأوربية وعراقة الماضي وحداثة العصر .
هي إذن مدينة كل العصور والأديان والأجناس والخرافة والواقع ، فلم تخط المرشدة السياحية حينما استعارت وصفًا أطلقه أحد اساطنة السياحة في أوروبا على كييف والذي قال : رأيت حدائقًا وخضرة في المدن ، لكنني لم أجد مدينة في حديقة سوى كييف ).
في فصل الصيف تكون المدينة بين عالمين من الوجود والخلود ، فالأثنان توأمان في بقعة واحدة وزمن واحد .
كاتدرائيات بقبابها المطلية بماء الذهب ، جدران يكسوها الكلس الأزرق والأخضر والأبيض ، كنيسة القديسة ” صوفيا ” واحدة من كاتدرائيات الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية بلا أجراس ، بلا عُبَّاد يؤمونها .
كنيسة العذراء لا أدري أين موضعها بين هذه الكنائس ؟ . لا أدري لماذا شعرت بالرهبة والروحانية وأنا أتأمل في الكاتدرائيات المسيحية القديمة المشكلة لروح المدينة ؟! .
فبعد نحو ألف عام على اعتناق الأمير ” فلاديمير” المسيحية وكييف تعد مركز العالم المسيحي الأرثوذكسي في أوروبا ، فمنذ وجود كييف قبل ١٥٠٠عامًا وهي قبلة المسيحية إلى أن قامت ثورة أكتوبر البلشفية ١٩١٧م لا أحد اليوم سيحدثك عن كاتدرائية القديسة ” صوفيا ” أو ” أندرييفساكيا ” أو المسيح المخلص أو عن الكنيسة الأولى في منطقة بتشيرسكا المزينة بموزاييك ورسومات .
تلال وخضرة وشجر بلوط يمتد عمرها لألف عام ، قصور أبهة ومآثر سطرها أهل المدينة في مقاومة الغزاة الطامعين .
تمثال البطريرك الذي يمثل متحفًا للحرب العالمية الثانية واحد منها ويشبه تمثال الحرية الشهير في نيويورك .
غنج ودلال وشيء من البؤس والعيلة الممزوجين بالأنفة والكبرياء ، حتى نهر الدنيبر ثالث اطول أنهر أوروبا ٢٢٨٦كم منها ١٢٠٥كم في أوكرانيا ، كأنه مثلي في هدوءه واغترابه .
فهذا المجرى النابع من هضبة ” فالداي ” في روسيا يجري ماؤه في روسيا وبيلوروسيا قبل أن يصل بلاد السُكر ” أوكرانيا ” وفق تعبير قدماء أوروبا .
يروي كييف التي يشقها إلى ضفتين شرقية وغربية ، مضيفًا لها سحرًا وجمالًا يخيل للمرء أنه في الفردوس .
عشقته من أول نظرة ، رغم مسحة الوجم البادية على وجهه ، لا أدري ما سر هذا الولع به ؟ هل لأنه يشبهني في بؤسي واغترابي ؟ أم أن كلانا عابر سبيل وسنمضي سوية إلى هناك حيث مثواه جنوبًا في تخوم البحر الأسود شرق مدينتي الجميلة ” أوديسا ” ؟! .
كل ما يمتع العين من روضات وجنان الطبيعة تجود به كييف بجزل لا نظير له ، لكنني تعوزني أنثى تؤنس وحدتي وتبهجني في المدينة الملأى بالغانيات . آه لو إن راعية الضان ” أشجان ” بجواري هنا في جنة الدنيا ، تمنيت لو أن معلمتي ” أنوشكا ” ستنبع من ماء النهر الهادئ نحلة كعروسة البحر ، فكل الأساطير في مدينة الأساطير ممكنة .
من رواية ” الشرق أشجان ” الحلقة ١
* احداث القصة قبل إنفصال أوكرانيا عن روسيا ١٩٩١م .