محمد علي محسن
إقليم شبه جزيرة ” القرم ” ظل طوال قرون زمنية وطنًا للتتار المسلمين الذين لم يكونوا جزءًا من امبراطورية روسيا القيصرية قبل إخضاع الإقليم لروسيا عام 1783م ومن ثم تم تهجيرهم قسرًا خلال الحقبة السوفيتية ، وأسوأها في عهد ” جوزيف ستالين ” .
والقِرم يعني ” القلعة ” في لغة التتار ، ويقع في جنوب أوكرانيا، يحده من الجنوب والغرب البحر الأسود ، ومن الشرق بحر آزوف، وكان اسمه فيما مضى “آق مسجد” أي “المسجد الأبيض”، قبل أن يستولي عليها الروس خلال العهد السوفيتي .
مساحة شبة جزيرة القرم 150، 26 كيلو مترا، أما المنطقة التي كانت تخضع لنفوذها فتبلغ أضعاف هذه المساحة، وينتشر فيها التتار، ثم انتشر فيها القوازق إلى تخوم أوكرانيا، ثم تقلصت مع الزمن، إذ انحصرت في شبه الجزيرة .
مطلع التسعينات أصدر الرئيس ميخائيل غورباتشوف مرسوما أعاد الإعتبار فيه لقومية التتار ، وحين عادوا إلى القرم وجدوا مساكنهم ومزارعهم وإرثهم قد استولي عليه الروس الذين تم توطينهم خلال العقود التالية لعملية التهجير .
بعد إعلان أوكرانيا استقلالها رسميًّا عن الاتحاد السوفييتي في ديسمبر من عام 1991م، وافقت السلطات الأوكرانية إعطاء شبه جزيرة القرم حكمًا ذاتيًّا ضمن أوكرانيا ، في يونيو 1992م.
كما وعَقَد تتار القرم أول مؤتمر لهم في مدينة ” سيمفروبل ” عاصمة الإقليم في يونيو من العام نفسه، وأسسوا المجلس الأعلى للتتار القرم كممثل للشعب التتاري المسلم .
وكان لوصول المعارضة الأوكرانية إلى السلطة أثر ما سمي وقتها بالثورة البرتقالية ؛ أن أقرت الحكومة بحق التتار بإقليم القرم ، علاوة لتبنى البرلمان الأوكراني الجديد الذي جاء بعد الإطاحة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، قرارا يعتبر تتار القرم هم السكان الأصليين لشبه جزيرة القرم، على أن تعمل أوكرانيا بموجبه على تحريرهم وتنميتهم في المجالات العرقية والثقافية واللغوية بوصفهم مواطنين أوكرانيين.
وبرز دور تتار القرم في الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها أوكرانيا ضد يانوكوفيتش، إذ كانوا يرفضون تقارب البلاد مع روسيا ويطالبون بتوقيع اتفاقيات شراكة واسعة مع الاتحاد الأوروبي .
طوال خمسة قرون على الأقل والقرم وطنًا قوميًا للتتار المسلمين الذين يعيشون الآن في مواطن الشتات والقليل منهم فقط عاد ، علما أن أوكرانيا يوجد بها أكثر من ثلاثة مليون نسمة .
وصل الإسلام إلى القرم عن طريق التتار ، وذلك في عهد القبيلة الذهبية ، التي يعود نسب أفرادها إلى ” جوجي ” الإبن الأكبر ل ” جنكيز خان ” ، ولما مات جوجي قبل أبيه أقتطع جنكيز خان لولده ” باتو ” بلاد روسيا ، وخوارزم ، والوقوقاز ، وبلغاريا، وأُطلق عليهم القبيلة الذهبية أو مغول الشمال .
وهي أول قبائل المغول في اعتناق الإسلام، ويعتبر ‘ بركة خان ” أول من أسلم من أمراء المغول، وذلك عام 650هـ وهو عائد من قرة قورم عاصمة دولة المغول الكبرى .
وكان بركة خان بايع الخليفة العباسي المستعصم بالله في بغداد وأتم بناء مدينة سراي (مدينة سراتوف في روسيا الآن)، عاصمة مغول الشمال وبنى بها المساجد وجعلها أكبر مدن العالم في ذلك الوقت.
كانت دولة المغول المسلمة في بلاد القرم وما جاورها على علاقة طيبة مع دولة المماليك في مصر والشام، وكانا يقفان معا في مواجهة هجمات البيزنطيين.
بلغت أوج قوتها وازدهارها لفترة 120عاما ، ونتيجة للصراع على الحكم بين أبناء الأسرة ، أدى إلى زيادة رقعة الفقر وسطوة الظلم وضعف الدولة .
هذه الحالة نتج عنها تمزق كيان الدولة التتارية ، إذ استقل الحاج شركس في ” استراخان ” ، واستقل ” ماماي ” ببلاد القرم، وزاد الضعف باجتياح تيمور لنك لمدينة سراي في مطلع القرن التاسع الهجري .
ونتيجة لهذه الوضعية تفتت الدولة الواحدة إلى خمس دول، هي: القرم، أستراخان، خوارزم، قازان، سيبريا الغربية ، وفي المحصلة تسببت هذه الحالة بتفتت عضد التتار ، ما أوعز لخصومهم ضربهم وغزوا بلادهم ، وتحديدًا جيرانهم الروس الذين قوت شكوتهم فزادت أطماعهم في السيطرة على مواطن عدة ، بينها وطن التتار .
وهنا يجب القول إن الصراع بين التتار وبين الروس ظل محتدمًا طوال قرون ، وكانت أمارة موسكو تدفع الجزية للحكام التتار ، ويكفي الإشارة إلى أن الحاكم التتاري ” توقتاميش “762- 798 هجرية قدر له كسر هجوم روسي ودخل موسكو عام 783هجرية .
هذا الحاكم أختفى فلم يعرف له مكان بعد هزيمته من تيمور لنك عام 788هجرية ، فخلفه الأمير الذي عينه تيمور لنك على سراي ، ومع ذلك ظل الروس في حالة حرب مستمرة مع التتار في القرم وما حولها .
أخذ الصراع بعدًا دينيًا ، إذ اعتبرت موسكو القرم جزءًا من الدولة العثمانية الخصم اللدود ، فلقد كان الحدث الأبرز حينها هو قيام السلطان محمد الفاتح بفتح القسطنطينية عام 857هجرية ، واستبدل اسمها ب ” استنطبول ” أي عاصمة الاسلام ، ما أدى إلى نقل قيادة مذهب الكنيسة الأرثوذكسية المسيحية إلى موسكو .
وبذلك اعتبر الامراء الروس التتار والعثمانيين عدوا واحدا، وقد كان كذلك، إذ عدّ العثمانيون بلاد القرم من أملاك الخلافة الإسلامية.
ظلت القرم بمنأى عن الغزو الروسي في مستهل تلك الحروب ، وذلك لادراكهم أن العثمانيين لن يسمحوا لهم بالسيطرة عليها ، وعوضًا عن ذلك لجأ الروس إلى التوسع شرقًا ، إذ سيطروا على قازان ، مستغلين الخلاف الناشب بين العائلات التتارية ، وكذا انشغال العثمانيين بمعارك أخرى بعيدة عن مواطن التتار .
احتل الروس إمارات قازان 959 هجرية، والباشغرد 959هجرية ، أستارخان 961هـ، سيبريا الغربية 1078هـ ، وهكذا غدت بلاد التتار تحت الاحتلال الروسي باستثناء بلاد القرم ، التي أجلها الروس خوفا من العثمانيين .
ربما جهل الكثير بالصراع العثماني الروسي ، وكيف أن روسيا ظلت في حالة عداء طويلة مع الإمبراطورية العثمانية ، إذ أن الجيش العثماني خاض حروبا شرسة وقدر له إخضاع روسيا لنفوذ دولته .
فخلال الحملة الأولى ، وفي عهد السلطان العثماني سليم الثاني وبقيادة خان قرم (دولت كيراي) في ربيع 978هـ/1571م، بجيش مكون من 120 ألف خيال وأكثرهم من منطقة القرم .
كما جلب معه سرية مدفعية عثمانية، هدفت هذه الحملة من أجل وضع الروس عند حدهم ومنعهم من التوسع على حساب المناطق الإسلامية.
فلم يتمكن الجيش الروسي من الدفاع عن مدينة موسكو، بعد ان خسر ثمانية آلاف جندي، فضلا عن هروب القيصر (إيفان الرابع الرهيب ) تاركا ورائه 30 ألف خيال و6 آلاف مشاة من حملة البنادق، إضافة إلى مقتل أخوي زوجة القيصر الإثنين .
دخل المسلمون الأتراك موسكو في 24 مايو 1571م، رافعين رايات التوحيد والجهاد على أبواب الكرملين، ثم قاموا بإحراق المدينة بعد أن استولوا على خزانة القيصر الهارب، ثم عاد القائد العثماني خان إلى القرم ومعه 150 ألف أسير، وحاملا معه انتصار كبيرا حيت حصل على مباركة السلطان سليم الثاني ولقب “تخت – آلان”، أي “كاسب العرش”.
أما الحملة الثانية فكانت في عام 1572م، حيث سار خان القرم ( دولت كيراي ) بحملة ثانية اجتاز نهر ( اوكا)، ولم يصعد إلى الشمال أكثر من ذلك ، وترتب عن هذه الحملة قيام روسيا بدفع ضريبة سنوية قدرها 60 ألف ليرة ذهبية، وعقدت صلحا مع القرم .
لمّا أصاب الدولة العثمانية الضعف في الجهة الشمالية، وبعد قرن من المواجهات بين الروس والعثمانيين تمكن الروس من غزو شبه جزيرة القرم وضمها إليهم عام 1783م ، بعد أن قتلوا نحو ٣٥٠ ألف من مسلمي القرم .
بعد أن ضعفت الخلافة العثمانية تراوحت السيطرة على الإقليم بين روسيا الشيوعية وألمانيا النازية، فعندما قامت الحرب العالمية الأولى دمر الروس مدينة سيمفروبول، وقضوا على الحكومة التترية، غير أن الألمان تمكنوا من احتلال القرم من الروس، ثم انسحب الألمان بعد مدة.
سيطر الروس الشيوعيون على بلاد القرم بعد الألمان، وعندها أعلن التتار الجهاد والدفاع عن الدين، فلجأ الروس إلى حرب التجويع، فجمعوا الطعام والأقوات من البلاد، ليموت المسلمون جوعا، وكان معدل موت المسلمين 300 إنسانا يوميا، وعندها فضّل المجاهدون لأنفسهم الموت من أن يصيب الناس ما أصابهم من بلاء بسبب اعتصام المجاهدين ومقاومتهم.
في عام 1928م أراد ستالين البلشفي إنشاء كيان يهودي في القرم، فثار عليه التتار المسلمين بقيادة أئمة المساجد والمثقفين فأعدم 3500 منهم، وجميع أعضاء الحكومة المحلية بمن فيهم رئيس الجمهورية ولي إبراهيم .
وقام عام 1929م بنفي أكثر من 40 ألف تتري إلى منطقة سفر دلوفسك في سيبيريا، كما أودت مجاعة أصابت القرم عام 1931م بحوالي 60 ألف شخص.
هبط عدد التتار من تسعة ملايين نسمة تقريبا عام 1883م إلى نحو 850 ألف نسمة عام 1941م وذلك بسبب سياسات التهجير والقتل والطرد التي اتبعتها الحكومات الروسية سواءً على عهود القياصرة أو خلفائهم البلاشفة، وتكفل ستالين بتجنيد حوالي 60 ألف تتري في ذلك العام لمحاربة ألمانيا النازية.
في الحرب العالمية الثانية احتدمت المعركة بين الروس والألمان على أبواب القرم، وظن التتار أن الألمان سيكونون أرحم بهم من الروس، فقرروا الاستسلام لهم انتقاما من الروس .
ولم يدر في خلدهم أن عدوهم ذو ملة واحدة، وأن تعددت الرايات ، فما إن علم الألمان أن المستسلمين من التتار المسلمين حتى نزعوا منهم السلاح وساقوهم حفاة 150 كيلو مترا سيرا على الأقدام ودون طعام، وبدأ المسلمون يموتون جوعا، وبدأ الأحياء يأكلون لحم الأموات، فلما أدرك الألمان ذلك أخرجوهم من السجن وأبادوهم رميا بالرصاص.
وهزمت ألمانيا في الحرب، وعاد السوفيت الشيوعيون إلى القرم، وأتهموا التتار أنهم من أعوان الألمان، فدخلوا العاصمة (باغجه- سراي)، وطمسوا معالم الإسلام فيها، حتى دكوا المساجد الأثرية، مثل: جامع خان، وجامع بازار، وجمعوا المصاحف وأحرقوها في الميادين العامة، فكان مجموع ما هدمه السوفييت 1558 مسجدا في شبه جزيرة القرم، فضلا عن العديد من المعاهد والمدارس،وأقاموا مكانها حانات للخمر وحظائر للماشية وملاهي ليلية .
وفي الخمسينيات قام زعيم الإتحاد السوفيتي ( خروتشوف ) بضم القرم لمسقط رأسه أوكرانيا التي كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي وكانت يومها عملية شكلية إلا أن انهيار الاتحاد السوفييتي وبقائها مع أوكرانيا أجج الصراع حول الجزيرة الاستراتيجية التي بدأ يعود لها أبنائها التتار فباتوا يشكلون حاليا أكثر من 20% من السكان وهم يعارضون الإنضمام لروسيا .
وكانت محاكمة المباني قبل محاكمة السكان، إذ انطلق الجنود الروس الشيوعيون في الشوارع والطرقات يفتحون نيران أسلحتهم دون تمييز، حتى قتل من المسلمين ربع مليون مسلم.
وأرغموا أهلها على الهجرة الإجبارية إلى سيبيريا وآسيا الوسطى، خصوصًا إلى أوزبكستان، وهرب مليون وربع مليون منهم إلى تركيا وأوروبا الغربية، وبعضهم إلى بلغاريا، ورومانيا، ثم تدفقت جماعات المستعمرين من الروس والأوكرانيين فحلت محل السكان الأصليين، ولم يبق من خمسة ملايين مسلم من تتار القرم غير نصف مليون .
تقول الأرقام: إن تتار القرم كانوا يشكلون عام 1770م نسبة 93% من سكان القرم والبقية أرمن ويونان ولم يكن هنالك روس آنذاك، وسرعان ما تراجعت نسبة التتار إلى 25.9% في عام 1921م، فيما الروس والأوكران معًا شكلوا نسبة 51.5%، والبقية يهود وألمان، ومع حلول عام 1959م لم يُسجَّل أي وجود للمسلمين التتار في القرم أبدًا، في حين أصبحت نسبة الروس الذين يسكنون القرم 71%، والأوكران 22%، والبقية من اليهود وقوميات أخرى.
لكن الأمر بدأ بالتغير عندما سُمِحَ لهم بالعودة إلى أراضيهم تدريجيًّا، ثم تعقدت الأمور مرة أخرى، وهم يشكلون 20% فقط من سكان القرم، بينما بقية التتاريين ما يزالون في محاولات مستمرة للعودة من شتى أماكن وجودهم التي أجبروا على العيش فيها، في مناطق مختلفة من روسيا وأوزباكستان وأوكرانيا نفسها وغيرها.
ويعد السكان من ذوي الأصول الروسية الذين تبلغ نسبتهم نحو 58 ٪ هم أكبر عرقية تسكن الإقليم، وهو ما يفسر نتيجة التصويت لصالح الانضمام لروسيا. بينما يمثل السكان من الأوكرانيين في الإقليم نحو 24 ٪ ، وذلك وفقا لآخر إحصاء سكاني أجرته أوكرانيا .
ووفقًا للإحصائيات الأوكرانية لعام 2001م، بلغ عدد سكان القرم 2،033،700 نسمة. وتتكون التركيبة السكانية من عده مجموعات عرقية: روس: 58.32%، أوكرانيون: 24.32%، تتار القرم: 12.1%; بيلاروس: 1.44%، تتار: 0.54%، أرمن: 0.43%، يهود: 0.22%، يونانيون: 0.15% وآخرون .
ويعيش التتار الذين يقدر عددهم حالياً بنحو 7 ملايين نسمة، في روسيا – خاصةً في شبه جزيرة القرم الواقعة الآن تحت سيطرتها -، وأوزبكستان، وأوكرانيا، وكازاخستان، وتركيا، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، وأذربيجان، ورومانيا، وروسيا البيضاء .
يدعو نشطاء تتار القرم إلى الإعتراف بالترحيل الجماعي على أنه إبادة جماعية ، علمًا أن المجلس الأعلى لأوكرانيا يعترف بها كجرائم عرقية .
وتم إدراج مسلمي القرم التتار في قائمة الأمم المتحدة للشعوب، باعتبارهم من الأمم المهددة بالانقراض، نتيجة لما يتعرضون له من ضغوط ثقافية وزواج مختلط وفقدان للقيم والتلاعب بمفاهيم الدين والتقاليد والعرف .
* هذه قصة مأساة تتار القرم ، وأحب الإشارة هنا إلى أن أغلب المعلومات التاريخية حصلت عليها من اصدقائي التتارين الذين تعرفت عليهم من خلال جمعية الرائد الإسلامية في القرم .
فمنذ مدة نيفت عشرة أعوام والجمعية ناشطة وتمدني بالأخبار والتقارير المصورة ، ولا أخفيكم هنا أنني وحين سألتهم إذا ما كانوا يفضلون الروس أو الأوكران ؟ أجاب معظمهم برغبتهم بقاء الإقليم ضمن أوكرانيا ، مؤكدين أن الدولة الأوكرانية منحتهم وضعية إدارية وسياسية افضل بكثير من الكرملين ، خاصة بعد وصول المعارضة الأوكرانية إلى السلطة .