د. محمد علي السقاف
فضحت الأزمة الأوكرانية ازدواجية المعايير والقيم التي تستخدمها الدول العظمى في سياساتها الخارجية، خصوصاً من قبل الدول الغربية حول أهمية التزام الدول قواعد القانون الدولي ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ودفاعها في علاقاتها الخارجية عن أهمية تبني الدول النظام الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان كمعايير لعلاقات متميزة مع الدول. ولكن تلك المبادئ والقيم في واقع الأمر تجعل تلك الدول تتغاضى عنها حين تتطلب مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية، وتذهب الأمور إلى أبعد من ذلك في حرية التعبير والنقاشات التي تدار عبر الفضائيات الغربية ووسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بشكل غير مسبوق في العلاقات بين الدول منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وقد أوضحنا في مقالنا الأخير حول الأبعاد القانونية للأزمة الأوكرانية الروسية كيف تطورت الأمور في الصراع الغربي الروسي إلى الحد الذي وصل إليه بالمطالبة إلى إبعاد روسيا الاتحادية من عضويتها الدائمة في مجلس الأمن الدولي حتى لا تتمكن من استخدام حق النقض (الفيتو) للحيلولة من إدانتها من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا.
الازدواجية في المعايير والقيم ليست في الواقع حكراً على الدول الغربية، وروسيا بدورها تشاركها في اتباع النهج ذاته في علاقاتها الدولية مع الأطراف الأخرى، وقاسمهما المشترك هنا يقوم على أساس امتلاكهما القوة التي توظف في خدمة أهدافها والدفاع عن مصالحها، ويعني ذلك أن الاحتكام إلى قواعد القانون الدولي تلجأ إليه الدول العظمى حين يناسبها ذلك، ولا تقوم بلجوئها إلى القانون الدولي وفق مفاهيمه، وإنما وفق تفسيراتها الخاصة للقانون الدولي، وهي في الغالب ما تكون تفسيرات بعيدة عن مفاهيم ومعاني ومقاصد القانون الدولي. وكأنهم بذلك يوجهون رسائل سلبية إلى الدول خارج مجموعة الدول العظمى التي لا تمتلك القوة المساندة لطموحاتها من أن القانون الدولي وضع لها، وهي التي عليها التزام قواعده.
ورسالة سلبية أيضاً موجهة للأمم المتحدة نفسها التي كما هو معروف لا تمتلك القوة والقوات التي تمكنها في النزاعات الدولية العمل، وفق ميثاقها، في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين إذا لم تمكنها الدول العظمى من تحقيق ذلك.
الأزمة الأوكرانية – الروسية ليست وليدة الساعة، وردود الفعل الغربية عليها ليست مفاجئة بشكل كلي، وإن أخذت هذه المرة أبعاداً غير مسبوقة في بعض جوانبها.
في الكلمة المطولة قبل أسابيع قدم الرئيس بوتين قراءته للتاريخ ما قبل الثورة البلشفية وما بعدها؛ كيف كانت أوكرانيا مع عدد من الجمهوريات الأخرى تشكل جزءاً من الإمبراطورية السوفياتية. ولم يتوان الرئيس الروسي في كلمته حول أوكرانيا من انتقاد بعض القيادات التاريخية السوفياتية من لينين وستالين وكيف أنهما قاما بضم بعض المقاطعات الروسية إلى أوكرانيا، والتي تشكل بسببها الآن أحد عناصر الأزمة.
وفي قراءته الخاصة بتفسير تاريخ بداية تفكك الاتحاد السوفياتي، أعاد بوتين التذكير بالوعود الغربية التي قطعها الغرب للاتحاد السوفياتي بأن الحلف الأطلسي (الناتو) لن يتوسع شرقاً بعد انتهاء الحرب الباردة، فتوسع في عام 1999، ثم في 2004 بضم عدد من دول أوروبا الشرقية إلى عضويته. وأعلنت قمة حلف الناتو في بوخارست في 2 – 4 أبريل (نيسان) 2008 عن إمكان بحث طلب انضمام أوكرانيا وجورجيا إلى الحلف في ديسمبر (كانون الأول) 2008. والجدير بالذكر في هذا الصدد أن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش دعم بقوة انضمام أوكرانيا وجورجيا لعضوية خطة عمل الناتو، بينما عارضت ذلك المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا.
وقد كان الرأي البريطاني أنه رغم وجود دعم كامل لكل من أوكرانيا وجورجيا، فإن مسألة موعد انضمامهما يجب أن تظل في الميزان، وكان للمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، ورئيس فرنسا حينذاك نيكولا ساركوزي الرأي نفسه.
وعلى أثر ذلك جاء رد فعل روسيا سريعاً فقامت الحرب بينها وبين جورجيا في عام 2008. واعترفت روسيا بإعلان من جانب واحد لاستقلال كل من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية التابعتين في الأصل لأراضي جورجيا، في حين، وهنا ازدواجية الموقف، رفضت الاعتراف في نفس عام 2008 بإعلان استقلال كوسوفو، واعتبرت ما حدث انفصالاً واقتطاع جزء من وحدة أراضي الدولة الصربية، بينما اعترفت بكوسوفو 50 دولة أغلبها من الدول الغربية.
وبلغ عدد الدول الآن المعترفة بها، أكثر من 100 دولة، وبرغم ذلك لم تتمكن من الانضمام إلى عضوية الأمم المتحدة، نظراً لأن بلغراد ترفض الاعتراف بها، مدعومة بذلك من حلفائها روسيا والصين العضوين الدائمين في مجلس الأمن.
في مارس (آذار) عام 2014 قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم التي تشكل سكانها من أصل روسي، ودعمت القوات الشعبية فيها بعدما أعلن المجلس الأعلى لشبه جزيرة القرم استقلالها في 17 مارس 2014، وانضمت إلى السيادة الروسية بعد استفتاء شعبي واسع لمصلحة الانضمام.
وقامت الولايات المتحدة بطلب عقد مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار يقضي بعدم شرعية الاستفتاء المشار إليه سابقاً، ولكن أحبطت روسيا الطلب الأميركي بتفعيلها حق النقض، ما دفع الولايات المتحدة إلى رفع القضية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أصدرت قراراً يدين ما قامت به روسيا، لمخالفته بنود المادة الثانية من الميثاق التي تقضي الفقرة الرابعة منه بأن «يمتنع الأعضاء في علاقتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة، أو على وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة.
وصوّت لصالح القرار 100 دولة، ورفض 11 دولة وامتناع 58 دولة. والمثير في هذا الأمر تكرار الشيء نفسه في فبراير (شباط) الماضي هذا العام، حينما اعترفت روسيا باستقلال الانفصاليين في شرق أوكرانيا في دونيتسك ولوغانسك عن أوكرانيا الذي اعتبره أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة بأنه يمثل انتهاكاً لسيادة كييف. وتم عرض الموضوع في مجلس الأمن الدولي، والغرب يعلم تماماً أن أي إدانة لمشروع القرار ستعترض عليه روسيا باستخدام الفيتو، وبرر سبب ذلك، حسب وجهة نظر الولايات المتحدة، إظهار إدانة واسعة للقرار من قبل أعضاء مجلس الأمن، وبالطبع لم يمر القرار وقامت الولايات المتحدة بعرضه أمام الجمعية العامة.
ومصدر الإثارة التي أشرنا إليها باختلاف حجم وأعداد الدول التي صوتت لصالح القرار، مقارنة بتصويت عام 2014، حيث صوت لصالح القرار 141 دولة من أصل 193 دولة ورفض 5 دول، وامتناع 35 دولة عن التصويت.
عند غزو الولايات المتحدة لأفغانستان أقر مجلس الأمن ما قامت به على أساس أنه دفاع عن النفس، وفق نص ميثاق الأمم المتحدة، وذلك كرد فعل على أحداث سبتمبر (أيلول) عام 2001، بينما غزو العراق واحتلاله حدث من دون أي مسوّغ قانوني، بحجة امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل.
ولأن الولايات المتحدة تعلم بذلك، لهذا لم تعمل مثل عملت في الحالة الأفغانية التي لجأت فيها إلى مجلس الأمن الدولي.
ولأنها حرب وعدوان صارخ، امتنع وأدان عدد من حلفاء أميركا مثل فرنسا وألمانيا المشاركة معها في غزو العراق واحتلاله.
وأسهم عدد من الدول الغربية في دفاعها عن مصالحها الجيوسياسية والنفطية، إلى انتهاك سيادة عدد من الدول العربية، خلافاً لميثاق الأمم المتحدة في كل من ليبيا وسوريا والتي بررت روسيا تدخلها في سوريا أن وجودها تم بموجب طلب من الحكومة السورية، بعكس تدخل الولايات المتحدة ووجودها فيها.
في الخلاصة بالعودة إلى الأزمة الأوكرانية الروسية يبدو أن التدخل العسكري الروسي فيها أعطى ثماره الأولى من ناحية استبعاد قمة الاتحاد الأوروبي التي انعقدت في فرساي في فرنسا إمكان قبول عضوية أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي بشكل استثنائي وسريع.
وإضافة إلى هذا هناك تصريحات رئيس أوكرانيا التي أشار فيها إلى أنه لم يعد معنياً بانضمام بلاده إلى حلف الناتو، ما يثير التساؤل حول استخدام القوة أم التفاوض السلمي، وأيهما الحل الأمثل في العلاقات بين الدول؟
نقلاً عن الشرق الاوسط