كتب – أحمد عليبه ..باحث – مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
رتبت المبادرة الخليجية الأولى (أبريل 2011) لعملية انتقال السلطة في اليمن من نظام الرئيس السابق على عبد الله صالح إلى الحكومة الشرعية بقيادة الرئيس عبد ربه منصور هادي والذي جرى انتخابه (فبراير 2012)، وشارك فيها نحو 25 حزباً وشخصية سياسية بالإضافة إلى الرئيس السابق. وإلى جانب عملية نقل السلطة، أفضت المبادرة إلى دستور جديد للبلاد، لكنها لم تؤسس لنظام سياسي جديد، حيث تحولت السلطة الجديدة إلى حكومة إدارة أزمات على إثر تراجع الرئيس السابق عن خطة الانتقال السياسي (نوفمبر 2011) بعد عودته من رجلة علاجية في الولايات المتحدة الأمريكية وتشكيله تحالف مع الحوثيين، لسد الفراغ السياسي على خلفية مغادرة الرئيس المنتخب للبلاد، وتوجهه إلى السعودية. وتدريجياً، أحكمت الحركة الحوثية قبضتها على شمال البلاد وفرضت نفسها كسلطة أمر واقع، كما اغتالت الرئيس صالح في ديسمبر 2017 لتنفرد بتلك السلطة، وتخوض حرباً مفتوحه للسيطرة على باقي المناطق الشمالية في البلاد، لا سيما مأرب التي لم تتمكن من السيطرة عليها بعد أكثر من عام من الحرب.
يكتسب استدعاء هذه الخلفية أهميته في سياق دعوة مجلس التعاون الخليجي، بعد 10 سنوات تقريباً، لوضع مبادرة ثانية ترسم خريطة طريق لإنهاء الحرب والأزمات السياسية في اليمن، تضمنت دعوة كافة الأطراف السياسية اليمنية من دون استثناء بمن فيهم الحركة الحوثية للمشاركة فيها، إلا أن الأخيرة رفضت، وردت على الدعوة بتصعيد عسكري على أهداف حيوية اقتصادية ومدنية في الرياض، كرسالة واضحة بأنها لا تريد الانخراط في تسوية تنهي الحرب وتقود لترتيبات سياسية تؤسس لمرحلة جديدة، وتمسكت بالشروط الاستباقية التي أعلنت عنها رسمياً وتضمنت رفع القيود التي فرضها التحالف عليها كجماعة انقلابية، ونقل المفاوضات من الرياض إلى عاصمة خليجية أخرى. إلا أن مجلس التعاون أكد على إطلاق المبادرة فى موعدها (29 مارس – 7 أبريل 2022)، كما أكد المتحدث العسكري باسم التحالف العميد ركن تركي المالكي على أن التحالف يحتفظ بحق الرد وطالب الحوثيين بعدم تفسير المبادرة بشكل خاطئ، وأن السعودية تعمل من جانبها على إنجاح المبادرة الخليجية التي تسعى المليشيا إلى إفشالها.
وضع سياسي جديد
على هذا النحو، يراهن مجلس التعاون الخليجي على أن المبادرة الجديدة سترتب لوضع سياسي جديد في عملية إصلاح السلطة في اليمن (بمن حضر)، وبالتالي فإن عدم مشاركة الحوثيين لا تعني التراجع عن المبادرة، وهو السياق نفسه الذي اعتمده مجلس التعاون في مبادرته الأولى، فبعد 6 أشهر على إطلاقها اضطر الرئيس صالح إلى التعاطي مع مخرجاتها، في سياق ما شكلته من مرجعية دولية وإقليمية لحل الأزمة آنذاك، بالإضافة إلى حالة الإجماع شبه العام عليها من القوى السياسية المحلية اليمنية. وكما شكلت مخرجاً سياسياً من الأزمة يمكن أن تشكل المبادرة الجديدة مخرجاً من الحرب التي تدخل عامها الثامن، حيث يتعين على القوى اليمنية تحمل مسئوليتها في الأزمة، وبالتبعية مسئوليتها في الحرب الدائرة التي يتصدى لها التحالف بشكل رئيسي.
في هذا الإطار، من المتصور أن هناك حاجة لإصلاح الشرعية بمشاركة أكبر عدد من القوى السياسية المحلية، حيث يرى العديد من المراقبين السياسيين حتى في الداخل اليمني أن هناك قوى بعينها تهيمن على القرار السياسي داخل الشرعية، لاسيما حزب الإصلاح، وبالتالي ستجدد المبادرة عملية مشروعية السلطة بما يسمح لكافة الأطراف بالمشاركة فيها لا مغالبة طرف على حساب باقي الأطراف.
كما أن القوات المسلحة اليمنية بحاجة أيضاً إلى عملية إصلاح هيكلي وإعادة بناء قدراتها لمواجهة المشروع العسكري للمليشيا الحوثية في الداخل، بينما يمكن للتحالف الاكتفاء بالرعاية السياسية لهذا المشروع والانسحاب من طرف واحد من الحرب مع تعزيز دفاعاته العسكرية التي تسمح له بالتصدي للهجمات الحوثية من دون الانخراط في حرب داخل اليمن بشكل مستمر، بالإضافة إلى تعزيز المشاركة الدولية للتصدي لما تشكله من تهديد إقليمي ودولي لا سيما لحركة الملاحة، مع الوضع في الاعتبار، من جانب آخر، أن الجهود الأساسية ستنصب على استيعاب المجلس الانتقالي الجنوبي سياسياً كخطوة أيضاً لمعالجة التعثر الذي يواجهه اتفاق الرياض المبرم بين المجلس والشرعية برعاية سعودية (نوفمبر 2019). فهذا التعثر قد يقود في الأخير إلى انفصال الجنوب على المدى الطويل، بالنظر لما تدفع إليه سياسات الطرفين– الانتقالي والشرعية- في ظل غياب الإرادة السياسية وضعف الثقة بين الجانبين في تنفيذ مخرجات الاتفاق في أكثر من مرحلة.
بشكل تكتيكي، تشجع المبادرة الخليجية الحوثيين على مراجعة موقفهم، كما تشجع السلطة على استيعاب الإخفاق السياسي والعسكري. وعلى التوازي تقوم البعثة الأممية لدى اليمن بجهود لدعم المبادرة، ففي الأسابيع الماضية عقد المبعوث الأممي إلى اليمن هانز جروندبيرج لقاءات موسعة مع القوى السياسية والأحزاب للتهيئة للمبادرة، كما طرح مشروع هدنة خلال شهر رمضان لوقف الحرب ودعم الجهود الإنسانية المتعثرة هى الأخرى بسبب الحرب ونقص التمويل الدولي الذي ضاعفت منه الحرب الروسية في أوكرانيا. فما تم جمعه مؤخراً من مساعدات لم يتجاوز ثلث الاحتياجات المطلوبة، التي تتجاوز 4 مليارات دولار.
ويشكل الدعم الدولي للمبادرة الخليجية بعداً آخر في إنهاء الحرب في اليمن، وربما بمعنى آخر هناك توجه دولي لإنهاء الحروب في الشرق الأوسط بشكل عام، ففي ليبيا تقود الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الدولية والإقليمية المنخرطة في ملف الأزمة الليبية جهوداً مضنية لعدم اندلاع الصراع المسلح مرة أخرى. كذلك هناك محاولات دولية أيضاً لإغلاق هذا الملف ودفع النظام إلى استيعاب المعارضة، لكن القاسم المشترك في أغلب تلك الأزمات هو الأدوار الخارجية، للقوى الإقليمية غير العربية، لا سيما إيران وتركيا، فى ظل التوجه الأمريكي للتوصل إلى اتفاق نووي، إلا أن طهران لا تسعى إلى التراجع عن سياسة الحروب الإقليمية بالوكالة، وربط هذا الأمر بالاتفاق، رغم المحفزات الامريكية ومنها الاتجاه نحو رفع العقوبات عن الحرس الثوري الإيراني، لكن لا يزال الرهان قائماً على إيجاد مداخل مختلفة لدفع الحرس الثوري إلى التراجع عن هذه السياسة.
وربما يخفف الانفتاح العربي على سوريا من الاعتماد على الدور الإيراني بشكل عام، وقد تصب المبادرة الإماراتية مؤخراً والتي تمثلت في استقبال الرئيس السوري بشار الأسد في الإمارات، في 18 مارس الجاري (2022)، ومحاولة أطراف عربية أخرى إعادة سوريا إلى الجامعة العربية في هذا الاتجاه. وفي ليبيا، فإن تطورات الأوضاع على الساحة الدولية ومقاربة الأزمة الأوكرانية بالإضافة إلى الضغوط الدولية لتصحيح مسار العملية السياسية كل ذلك قد يساهم في دفع تركيا إلى التراجع عن سياسة عسكرة دورها في الأزمة مع ضمان مصالحها الاقتصادية.
رهانات حوثية في الاتجاه الخاطئ
ثمة تصور بأن غياب الحوثيين عن المشاركة في المبادرة الخليجية قد يضعفها، أو يفشلها. وعلى العكس من ذلك، يمكن تصور أن المبادرة تقدم مخرجاً للمليشيا من مأزق أكبر، ففي الآونة الأخيرة تتنامى حركة الاحتجاج في مناطق نفوذها، حيث يتصدر شعار “ارحل يا حوثي ” المرحلة، في ظل غليان الشارع اليمني من سياسات المليشيا، من الجباية إلى تدهور وضع الخدمات الأساسية لا سيما نقص الوقود والغاز المنزلي، وانقطاع المرتبات لسنوات، بينما في المقابل تتوحش طبقة أمراء وأثرياء الحرب من النخبة الحوثية، ولا يعتقد أن سياسة القمع التي تنتهجها المليشيا ضد الشارع ستمنعه من الانفجار في وجهها في مرحلة ما، بعد أن خسر كل شئ، خاصة وأن مبررات المليشيا بتحميل السعودية والمجتمع الدولي المسئولية عن الاستمرار في تلك الحرب تتسم بالضعف.
وتعكس مؤشرات الانتفاضة المرتقبة أو “ثورة الجياع” ضد الحوثيين أن هناك استدراكاً من الشارع اليمني بأنه لا يمكن التعايش مع المشروع الحوثي، اقتصادياً وسياسياً وحتى مذهبياً، حيث شجعت مؤشرات الحراك المناهض للحوثيين أئمة الزيدية للدخول على الخط للتبرأ من المشروع المذهبي الحوثي وبالتالي تفقد المليشيا بالتدريج الحاضنة الشعبية والحاضنة المذهبية فى الوقت نفسه، كما أن تدهور الوضع الاقتصادي لن يسمح لها بالصمود طويلاً خاصة وأن أمراء الحرب يعتقدون أن الجباية حق سياسي ومذهبي مكتسب لا يمكن التخلي عنه. الرهان الأخير الخاطئ، هو أن المليشيا تتصور أن فرض معادلة القوة سيجبر الأطراف المقابلة- التحالف والقوى الدولية- على الاستسلام لمطالبها. وعلى العكس من ذلك، قد تشكل المبادرة الخليجية فرصة أخيرة لاستيعاب المليشيا كطرف سياسي ضمن مشروع اليمن وليس كمشروع سياسي لليمن ثبت فشله.
في الأخير، من المتصور أن إنجاح مبادرة خليجية جديدة سيتوقف على التوصل إلى صيغة مخرجات تتضمن توحيد الصف اليمني واستيعاب الفرقاء، واحتواء الأزمات المتعددة، وعدم الاقتصار على عملية الإصلاح السياسي. فعلى التوازي، هناك حاجة إلى إصلاح المنظومة العسكرية، وبناء مؤسسة وطنية احترافية، بالإضافة إلى تفعيل نموذج تنموي في المناطق التي تقع خارج نفوذ سيطرة الحوثيين، وهى مسئولية تقع على عاتق القوى الوطنية، والتخلي عن ذهنية “السلطة غنيمة”، حيث تموضعت العديد من القوى السياسية إما على يمين السلطة أو على يسارها وفقاً لمصالحها ومكاسبها، أو شكلت موقفها منها بحسب مشروعها السياسي، وهو ما زاد من التحديات وفاقم أزمات اليمن، وهى المخرجات التي ستُقوِّض بالتدريج المشروع الحوثي وتضعه في مأزق حقيقي.