عبد العزيز الخميس كاتب وإعلامي سعودي
الهجمات الحوثية الأخيرة على المملكة العربية السعودية، وعلى منشآت آرامكو النفطية في جدة بالتحديد، وفضلا عن تداعياتها الاقتصادية والسياسية على السعودية وعلى المنطقة والعالم، فإنها عرت أيضا “التخاذل” الغربي في اتخاذ موقف حازم من عربدة الجماعة الحوثية المدعومة من إيران.
لم تكن الهجمات التي شنتها الجماعة الحوثية على مواقع متعددة في السعودية، التعبير الأول عن الجموح والعربدة الحوثيَين، لكن أهمية الهجمات الأخيرة كامنة في مسألتين: الأولى أنها جاءت في ظرف عالمي موسوم بالغزو الروسي لأوكرانيا وما رافقته من تداعيات ومواقف أوروبية وغربية منددة بقوة، ورافضة بقسوة للتحرك الروسي.
أما المسألة الثانية، وهي ذات صلة بالأولى، فتتمثل في ما أثبتته الهجمات الحوثية من “ميوعة” في التعاطي الغربي مع الجماعة الحوثية ومن يدعهما، وهي “ميوعة” لطالما نددت بها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، باعتبار أن التخاذل الغربي، المكتفي ببيانات التنديد، ساهم في إطلاق يد الجماعة الإرهابية المتطرفة.
منذ سيطرة الحوثيين على صنعاء في 21 سبتمبر 2014، إلى اليوم، لم يخرج اليمن من أزمته السياسية والاقتصادية، ولم يبرح مربع الانقسام وغياب الأمن، بل إن الأزمة تشظت إلى خارج المساحة اليمنية، وكان الدور الإيراني واضحا في دعم الحوثيين وإسنادهم في كل المراحل الدموية التي مر بها اليمن، ومع ذلك تأخر المجتمع الدولي في اتخاذ موقف واضح من العربدة الحوثية واكتفى ببيانات إدانة خجولة وهامسة، رغم تتالي المبعوثين الأُمَميين ورغم تحذيرات المنظمات الدولية الإنسانية من “كارثية” الأوضاع في اليمن (انقطاع التيار الكهربائي وشح ماء الشرب).
على ذلك فإن الهجمات الأخيرة للحوثيين على التراب السعودي، وقبلها على التراب الإماراتي، كانت بمثابة القطرة التي أفاضت كأس الصبر الخليجي، ليس فقط من ناحية خطورتها على استقرار البلدين والمنطقة، أو للتهديد الذي تمثله العصابات الحوثية على اقتصاد المنطقة وأمن شعوبها، وإنما أساسا لما كشفته من ازدواجية مقيتة في التعاطي الغربي مع الأزمة اليمنية.
التقطت الجماعة الحوثية الصمت الغربي واعتبرته بمثابة “تشجيع” لها على مواصلة العربدة والتمادي في تهديد أمن اليمن والمنطقة، وكان كل ذلك يحدث بدعم إيراني واضح ومكشوف، لم تَرَ طهران ضيْرا في الاعتراف به، مثلما اعترفت بسيطرتها على أربع عواصم عربية.
مفيد في هذا الصدد الإشارة إلى تصريح معمر الأرياني وزير الإعلام اليمني، الذي قال إن تراخي المجتمع الدولي في مواجهة سياسات النظام الإيراني التدميرية وأداتها من ميليشيا الحوثي الإرهابية، أدى إلى تفاقم الأزمة اليمنية، وزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة. وأضاف الأرياني أن “استمرار التخاذل الدولي إزاء التدخلات الإيرانية في اليمن، وممارسات ميليشيا الحوثي الإجرامية التي ترقى إلى مرتبة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ستكون له نتائج كارثية، سيدفع ثمنه العالم أجمع والشواهد السياسية والاقتصادية والأمنية على ذلك باتت ماثلة للعيان”.
ويكفي إجراء مقارنة سريعة بين التداعي الغربي للتدخل في أوكرانيا من خلال الضغط على روسيا وفرض الكثير من العقوبات الاقتصادية والسياسية المتعددة، وبين التخاذل السياسي والإعلامي في اليمن، لكي نتبين أن الصمت الغربي ساهم فعلا في إطلاق اليد الحوثية الإيرانية التي تعبث باستقرار اليمن والمنطقة.
لم يكن مطلوبا من المجتمع الدولي والدول الغربية الكبرى سوى أن يتفهم أو يتبين أن جرائم الحوثيين تمثل تهديدا لاستقرار دول المنطقة وتهديدا للملاحة الدولية في باب المندب والبحر الأحمر باستهداف سفن أجنبية أو ناقلات نفط خليجية وبالابتزاز المهدد للتجارة الدولية، ولم يكن المجتمع الدولي مدعوّا أيضا إلى قصف الجماعات الحوثية أو تدمير معاقلها، إنما كان المطلوب اعتبار جماعة أنصار الله تنظيما إرهابيا، وتشديد الضغط على إيران حتى تكفّ عن دعمها للجماعة المارقة، ودعم التحالف العربي سياسيا وإعلاميا في حربه على الذراع الإيرانية في اليمن، أو على الأقل تفهم دواعيه وأسبابه.
لكن الدول الغربية تخلت على كل واجباتها واكتفت ببيانات تنديد جافة تصدر بعد كل عملية أو هجوم، مع الضغط السياسي بل ومنع أو تأخير شحنات الأسلحة والتعبير المستمر عن “القلق” من الأوضاع الإنسانية المزرية والدعوة المستمرة إلى إيجاد حل سياسي للأزمة اليمنية.
واليوم حتّمت الأوضاع الاقتصادية العالمية المتأثرة بما يجري في الميادين الأوكرانية على الدول الغربية إلى أن تنتبه إلى أن اقتصاد العالم متشابك إلى درجة أن الأزمة المترتبة عن أحداث أوكرانيا يمكن أن تزيد تفاقما مع كل عملية حوثية تستهدف السعودية أو الإمارات أو أي دولة أخرى في المنطقة، وهو ما أدركته الجماعة الحوثية جيدا حين استهدفت منشآت ارامكو، وهو ما أشار له مصدر في وزارة الطاقة السعودية عبر وكالة الأنباء السعودية، حين اعتبر أن الاعتداءات الحوثية التخريبية، تمثل انتهاكا لكل القوانين والأعراف الدولية، وأن السعودية لن تتحمل مسؤولية أي نقص في إمدادات البترول للأسواق العالمية، في ظل الهجمات المتواصلة التي تتعرض لها منشآتها البترولية من الحوثيين.
في هذا السياق لا يمكن التسرع باستعمال توصيف كسول لما يجري في المنطقة راج أخيرا مفاده أن العمليات الحوثية هي مؤامرة أميركية للضغط على السعودية من أجل زيادة حصتها في الإنتاج، فهذا التوصيف إضافة إلى أنه يستسهلُ استدعاء نظرية المؤامرة، فهو أيضا توصيف متناقض مع ما يجري، ذلك أن كل عملية حوثية ستؤدي إلى نقص في إمداد البترول بدل زيادتها.
وحين نحاول أن نشكل صورة المشهد كاملة، يمكننا أن نحدد مداخل ثلاثة نفهم من خلالها ما ترتب عن الأزمة اليمنية في المنطقة والعالم. المدخل الأول هو أن دول التحالف العربي استطاعت طيلة سنوات من عملية الحزم تحجيم العبث الحوثي رغم الصمت الغربي عن الجرائم الحوثية، ورغم الدعم الإيراني لجماعة أنصار الله، واليوم اتضح بالدليل أن كل تغاض غربي عن العربدة الحوثية يمثل تهديدا لذلك التوازن الذي نجحت السعودية والإمارات في صنعه، باعتبار أن الصمت الغربي يمثل أيضا دعما غير مباشر لإيران لكي تزيد من إسنادها المادي والعقائدي للحوثيين.
أما المدخل الثاني فيتمثل في أن المساعي الأميركية والغربية لإعادة إنتاج اتفاق نووي جديد مع إيران دون مراعاة لمصالح دول المنطقة وأمنها، ستؤدي إلى رفع العقوبات عن طهران ما سيمكنها من زيادة تمويلها لأذرعها وأهمها الجماعة الحوثية. المدخل الثالث للقضية يتمثل في أن السعودية والإمارات لم تجاريا الرغبة الأميركية سواء في اتخاذ موقف سياسي مناهض بشكل واضح للغزو الروسي لأوكرانيا، أو في المساهمة في “تحمل كلفة” العقوبات الغربية على موسكو من ناحية زيادة حصص إنتاج النفط، ولم يكن تنبه الرئيس الأميركي جو بايدن إلى أن حل أزمة الطاقة في العالم يكمن في منطقة الخليج العربي، كافيا لإقناع الدولتين العربيتين بالاصطفاف بجانب التوجه الرسمي الأميركي في قضية أوكرانيا.
هذه المداخل الثلاثة، تجعل التبرم العربي من التخاذل الغربي في اليمن مفهوما ومبررا، وتضفي المزيد من الوجاهة على الامتعاض السعودي من التنكر الأميركي للالتزام بالدفاع عن البلدين في مواجهة الاعتداءات المتكررة من ميليشيات الحوثي.
واضح أن الحسابات الغربية، والأميركية تحديدا، لا تنظر إلى أصل المشكلة، وأصل المشكلة كامن في طهران. وهذا الحَوَلُ السياسي الغربي نابع من أسباب متداخلة أهمها سيطرة مراكز ضغط سياسية وحقوقية على القرار الأميركي والأممي أيضا، وهي مراكز ضغط أغلبها ينهل من أطروحات حقوقية ويسارية لا تقرأ إحداثيات المنطقة وأزماتها بلغتها الأصلية، بل تراها بعين المصالح والحسابات الضيقة. ولذلك فإن من حق السعودية والإمارات، وبقية دول المنطقة، أن تدافع عن استقرارها وأمنها وازدهارها بالطرق التي تراها صالحة، لأن العشق الغربي الحرام للحوثي أصبح أوضح من أن تخفيه بيانات الإدانة أو عبارات الغزل السياسي.
نقلاً عن سكاي نيوز عربية