التنوير الفكري وحده ليس كافياً ما لم يرافقه ويتفاعل معه تغيير اجتماعي شامل
محمد السيد إسماعيل
ارتبطت الفلسفة – في الوعي العام – بالتجريد والبحث في العموميات والكليات ومفارقة الواقع. وربما صدق هذا على بعض الفلسفات القديمة. لكن يظل من الممكن القول بأن الفلسفة هي توظيف العقل في تفسير الظواهر المختلفة. فالعقل هو أساس رؤية العالم. ولا تختلف الفلسفة الإسلامية عن هذا التصور العام بل هي موجَّهة من القرآن الكريم بإعمال العقل الذي هو ضد “الهوى” والميل الذاتي. وإذا كان هذا خطاباً عاماً لكل مسلم فقد كان فلاسفة الإسلام أولى به. لهذا كانت محاولات التوفيق بين العقل وظاهر “النص” من القضايا الملحة في الفلسفة الإسلامية. فالقرآن بوصفه كتاباً مقدساً يعد من أهم الكتب التي راعت الكرامة الإنسانية والتي حافظت على الحرية الفكرية. ويكفي أن نشير إلى أن القرآن طلب من الإنسان أن يجعل عقله دائماً الحَكَم في كل ما يعرض له من مسائل (“الفلسفة الإسلامية فى المشرق”، فيصل بدير عون). لهذا حارب القرآن التقليد الأعمى؛ لأنه يطيح بالعقل، ووجَّه خطابه – دائماً – إلى قوم يعقلون ويفقهون.
ومن هنا تسقط دعوى بعض المستشرقين الذين نفوا وجود فلسفة إسلامية على اعتبار أنها تبدأ بيقينيات الشريعة. وهذا يتنافى مع التفكير الفلسفي الذي لا يبدأ بمسلمات مسبقة بل إن تنمان صاحب كتاب “المختصر فى تاريخ الفلسفة” هاجم القرآن زاعماً أنه المسؤول عن تأخر الدراسات الفلسفية وغيرها حيث رفعه أهل السنة في وجه كل اتجاه تجديدي. ويرى دي بور أن الفلسفة الإسلامية كانت دائماً “فلسفة انتخابية قوامها الاقتباس مما ترجم من كتب الإغريق”. وهي دعاوى باطلة، فالقرآن نفسه بدعوته إلى إعمال العقل لم يمنع التفكير الفلسفي الحر. وكتاب “المنقذ من الضلال” للغزالي تعبير عن تجربة فكرية عاصفة بدأت من الشك وانتهت إلى اليقين. ولم يكن ابن رشد الشارح الأكبر فحسب لكتب أرسطو بل له إضافاته الفلسفية الأصيلة ويكفي أنه فتح باب التنوير الغربي على مصراعيه.
تعريف الفلسفة
يرى الكِندي أن الفلسفة هي البحث أو النظر العقلي الخالص الذي يهدف إلى كشف الحقيقة. وهي في هذا “شأنها شأن الدين؛ لأن الدين يؤدي بالإنسان إلى الوقوف على حقائق الأشياء”. ومن خلال هذا النظر العقلي – وهو أساس الفلسفة منذ اليونان – عالج الكندي العديد من القضايا مثل مشكلة الإلوهية وأدلة وجود الله والصفات الإلهية ومشكلة العالم ومشكلة الإنسان التي تندرج تحتها معالجة الحواس والنفس والعقل والمحسوس والمعقول والصلة بين الجسم والعقل وغيرها من القضايا التى نلاحظ عليها التدرج من الأعلى (مشكلة الإلوهية) إلى الأدنى مشكلتي: العالم ثم الإنسان (“لم الفلسفة…؟” عبد الغفار مكاوي).
الفكر العربي
حصَّل الفارابي علومه في بغداد ودرس بعضها على معلم مسيحي هو يوحنا بن شيلان، كما ألمَّ في دراسته بالأدب والرياضيات والموسيقى ثم ارتحل – بسبب الاضطرابات السياسية في بغداد – إلى حلب واقترب من سيف الدولة ثم ابتعد في آخر أيامه وخلا إلى نفسه بين البساتين ومظاهر الطبيعة، حالماً – كما يقول مكاوي – بمدينته الفاضلة التي تتحقق فيها للبشر السعادة القصوى على الأرض. وقد لُقِب بالمعلم الثاني – كما يقول ابن خلدون – لما قام به من تأليف كتاب يجمع ويهذب ما ترجم قبله من مؤلفات أرسطو. كما تأثر في آرائه السياسية بجمهورية أفلاطون حين قال بفكرة أن يملك زمام الدولة حاكمٌ فاضل عادل يجمع صفات النبي والملك والفيلسوف ويحقق حلمه بالمدينة الفاضلة؛ “التى تتعاون مدنها كلها على ما تنال به السعادة”. ثم يتجاوزها إلى إطار الإنسانية، أو “المعمورة الفاضلة” عندما تتعاون الأمم في ما بينها، على بلوغ السعادة، وينبغي على المفكر الحكيم ألا يبالي بالموت كما فعل سقراط لتغيير واقع المدن الظالمة الجاهلة وهو ما يجعل للفارابي مكانة ممتازة في تاريخ الفكر الطوباوي.
مجموعة فلسفية
امتاز ابن سينا بأنه كان فيلسوفاً وطبيباً وشاعراً وهو أكثر فلاسفة المسلمين أصالة، بحيث أقام مذهباً في الوحدانية يقترب إلى أقصى حد من تركيب المبادئ والتعاليم الأفلاطونية والأرسطوية، وقد استطاع أن يصوغ “مجموعة فلسفية” بناء على دراسته لأرسطو دراسة ناقدة. وكان لكتابه “الشفاء” تأثير كبير على المسلمين واليهود والمسيحيين على الرغم من أنه قد أثار مع كتاباته الفلسفية الأخرى عداوة المتكلمين له. واللافت هو أنه أزال التناقض بين التصوف والعقلانية ليسد الفجوة بين الوحي والعقل وذلك فى كتابه “الإشارات”. وظل كتابه “القانون” في الطب لفترة طويلة العمدة الرئيس في هذا الفرع من العلوم. كما نالت كتبه في الفلسفة والطبيعة وما بعد الطبيعة والمنطق والطب، شهرة واسعة، حيث ترجمت إلى بعض اللغات الأخرى، ولهذا كان لها تأثير بالغ في الفكر الأوروبي الوسيط.
اللحظة الفلسفية
هذا هو العنوان الذي اختاره الباحث مراد وهبة – رائد الرشدية الحديثة – لدراسته في الكتاب الذي دار حول فلسفة ابن رشد وشارك في تأليفه مجموعة من الكتاب. والمفارقة التى يرصدها د. مراد ترجع إلى موقف الغرب من كتابات ابن رشد واتخاذها مقدمة لعصر التنوير وموقفنا – نحن المسلمين – من هذه الكتابات التي أحرقت واضطهد صاحبها. وهو الأمر الذي ما زال مستمراً حتى الآن بسبب سيادة الفكر السلفي مما جعل محمود أمين العالِم يقول إن “اللحظة الفلسفية الرشدية القديمة في القرن الثاني عشر الميلادي تكاد تتماثل مع اللحظة الراهنة في واقعنا العربي الراهن. ولا تزال قضية العقلانية الرشدية تعاني من المحاصرة والإدانة والتكفير. وكانت أهم قضية اهتم بها ابن رشد في “تهافت التهافت” رداً على كتاب الغزالي “تهافت الفلاسفة” هي أن “الاختلاف بين الفلسفة والدين لا يعدو أن يكون لفظياً فحسب وليس اختلافاً موضوعياً”. وهو ما أكده محمود حمدي زقزوق بقوله إن الحكمة – الفلسفة – هي صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة.
وهو ما يعني أن هناك اتفاقاً على أن شريعة الإسلام هي بمثابة الأساس في بنيان الفكر العربي، بالإضافة إلى ما تتفاعل معه من فلسفات يونانية قديماً وعلم الغرب حديثاً. وبإعمال العقل يصل ابن رشد إلى قانون السببية ويراها نظاماً موضوعياً شاملاً في المجال الوجودي؛ لأنه بغير القول بالسببية لا مجال للقول بالعقل. ومن المهم الإشارة إلى أن ابن رشد اقترب كثيراً مما ندعوه الآن بالعلمانية، حين أكد ضرورة الفصل بين الدين والسلطة؛ وذلك بإبعاد سيطرة الفقهاء ورجال الدين عن السلطة السياسية باسم الدين (“مواقف نقدية من التراث”). ويطرح العالِم سؤالاً مهماً وهو: لماذا ينتكس التنوير العقلي دائماً في عالمنا العربي؟ ويجيب على ذلك بقوله إن “التنوير العقلي وحده ليس بكافٍ ما لم يرافقه ويتفاعل معه تغيير اجتماعي شامل”. وهو ما نفتقده فى العالم العربي.
البحث عن السعادة
اهتم أغلب فلاسفة الإسلام بالبحث عن معنى السعادة وكيفية تحقيقها. ومن هؤلاء الكِندي الذي وضع رسالة بعنوان “في دفع الأحزان”، ويرى أن سبب هذه الأحزان هو فقدان ما يمتلكه الإنسان في النواحى المادية؛ حيث “يربط الإنسان سعادته دائماً بالمطال الحسية والمقتضيات المادية” (“سؤال الأخلاق في الفكرالعربي والإسلامي” مجموعة من المؤلفين). ويرى أن علاج هذه الحالة هو تذكر أن الآخرين قد مروا بما يقع لنا وهم الآن فرحون بعد أن تناسوها. ويرى الرازي أن سبب شقاء الإنسان يرجع إلى ما يعاني منه من أخلاق ذميمة وأن سعادته لن تتحقق إلا بدفع هذه الأخلاق في ما يعرف بالطب الروحي. أما الفارابي فقد وضع كتاب “تحصيل السعادة”، و”رسالة التنبيه فى سبيل السعادة” الذي يستهله ببيان معنى السعادة فيقول: “أما فهي غاية ما يتشوقها كل إنسان وأن من ينحو بسعيه نحوها فإنما ينحوها على أنها كمال ما”. ما يوحي به هذا التعريف هو أن السعادة الحقيقية هي نهاية الكمال الإنساني، وكمال الإنسان هو تمسكه بحال التوسط في الطعام حتى يحصل الصحة والأفعال حتى يحصل على الخلق الجميل، وهذا الوسط الفاضل يكون بتعويد النفس عليه.
ويؤمن ابن سينا بفكرة الوسط أيضاً مجارياً بذلك أرسطو والفارابي. فالأفضل عنده هو الاعتدال في كل الأمور حتى تحصل السعادة ولا يختلف الأمر عند ابن حزم صاحب “رسالة مداواة النفوس”، و”تهذيب الأخلاق” و”الزهد في الرذائل” و”طوق الحمامة” الذي درس فيه الحب وأسبابه ودوافعه حيث يرى أن الفضيلة هي “واسطة بين الإفراد والتفريط وكلاهما مفهوم والفضيلة بينها محمودة”. ويرى أن العدل هو أساس الفضيلة؛ لأنه التوسط والتوازن. وهكذا نرى أن الفلسفة الإسلامية إضافة أصيلة إلى الفكر الفلسفي العام وتفاعلها مع الفلسفة اليونانية ليس ضد هذه الأصالة لأنها اعتمدت – دائماً – على القرآن والسنة.
نقلاً عن أندبندنت عربية