علي الصراف
لم ننجح إلا بالكاد في إقناع العالم بأن الإرهاب موجود في كل دين. الآن، علينا أن نقتنع نحن بأن الرؤوس العفنة موجودة في كل دين أيضا.
الديانات كائنة ما كانت، ما أن تنحدر إلى السياسة حتى تخرج عن الإطار القيمي الذي تمثله. وما أن يتورط رؤوسها في اتباع “أولي الأمر” في طغيانهم وانحرافهم عن القيم الإنسانية، فإنهم يتحوّلون من رجال دين إلى بائعي هوى، بالمعنى الحقيقي للكلمة.
أسقف الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، التي يتبعها 150 مليون “مؤمن” بفلاديمير بوتين، نسي الرب، وانبرى ليدافع عن الجريمة.
البطريرك كيريل، دعا في عظته الأخيرة إلى الالتفاف حول سلطة الرئيس بوتين لمحاربة “الأعداء الخارجيين” (الذين يدافعون عن بلادهم في أوكرانيا)، و”الداخليين” (الذين ينتقدون غزو بلد في الجوار).
حاول أن تخوض النقاش معه حول هذه الفكرة، وسترى إلى أين سوف ينحدر. سوف يصبح جدلا سياسيا خالصا، لا علاقة له بما يرتدي من ملابس، ولا بما يضعه على رأسه. سوف تلاحظ أيضا حجم المفارقة الهائل، بين منصبه الديني، وبين خطابه. الرب سيختفي من النقاش.
قال في قدّاسه “في هذه الفترة الصعبة لوطننا، نطلب من الربّ مساعدة كلّ واحد منّا على توحيد الصف، بما في ذلك حول السلطة، ومساعدة السلطة في تحمّل مسؤوليتها أمام الشعب وخدمته بتواضع وحسن نيّة”.
أحد أهم الغايات لدعوة الفصل بين الدين والسياسة، هي أن رجال الدين يفسدونها ويفسدون دينهم، ولم يفعلوا إلا أن انحازوا إلى سلطاتهم
هذا البطريرك يشبه تماما “شيوخنا” الكبار، الذي يدافعون عن الاستبداد والطغيان ويزيّنون له كل أعمال الجريمة، من الفساد وأنت طالع. ومن غياب العدل، وأنت نازل، ومن ثم إلى كل ما ينطوي عليه الأمر من استهتار بحقوق البشر وحياتهم.
تسأل نفسك، أين “الرب” الذي يعبده كيريل مما يُرتكب الآن من جرائم في أوكرانيا أو مما ارتكب في الشيشان أو سوريا؟ أين هو عندما يتم هدم مدينة بحجم ماريوبول بينما يختبئ تحت أقبيتها أكثر من 100 ألف إنسان؟ وأين هو عندما يرتكب الجنود الروس أعمال قتل واغتصاب في مدن بوتشا وإربين وغيرها؟ وأين هو من أعمال القصف التي تتقصد التدمير المنهجي للبلد الذي يريد كيريل نفسه أن يعود ليتوحد مع روسيا؟ وهل تُستعاد الوحدة بالقتل والإذلال الجماعي؟
كان هناك رب يدافع أيضا عن جرائم النازية. لا شك أن الذين كانوا يمارسون أعمال الهدم والقتل الوحشية ضد الملايين من البشر من جيش هتلر كان لديهم رب يؤمنون به، ويشجعهم على المزيد، ويمنحهم الشعور بأنهم على حق، حتى عندما يقتلون أطفالا وشيوخا أو عندما يغتصبون نساء.
“شيوخنا” يفعلون الشيء نفسه. هل سمعت واحدا منهم يندد بالفساد؟ هل خرج رجل دين في خطبة لكي يطالب السلطة بالتوقف عن الاعتقالات من دون محاكمة مثلا؟ أو عن ممارسة أعمال التعذيب في السجون؟ أو عن غياب العدالة الاجتماعية وتفاوت الحقوق؟
في النهاية فإنهم يساندون سلطاتهم كائنا ما فعلت. خوفا ربما، وطمعا ربما، ولكن لأنهم يؤمنون بما تفعل أيضا.
إين الله من ذلك؟ لن تعثر عليه. ففي فقه المجون السياسي يمكن أن يحدث كل شيء وأيّ شيء.
أحد أهم الغايات لدعوة الفصل بين الدين والسياسة، هي أن رجال الدين يفسدونها ويفسدون دينهم معها. وبحسب تاريخ مديد، فإنهم لم يفعلوا إلا أن انحازوا إلى سلطاتهم، ولم ينحازوا إلى المظلومين والمقهورين والمحرومين.
يوم قال كارل ماركس جملته الشهيرة “الدين أفيون الشعوب”، تعمدوا إلى الامتناع عن النظر إليها من زاوية ما هم يفعلون. وحاولوا إقناع “المؤمنين” بأن تلك الكلمة تعني أن الدين نفسه هو الأفيون. وليس ما يفعلون هم به.
رب كيريل الذي يساند ما يرتكبه جيش بوتين، هو نفسه الرب الذي يدفع “شيوخنا” إلى أن يطأطئوا رؤوسهم عن كل فاحشة من فواحش السلطة التي يتبعون. هم لا يتبعون الله. يتجاهلونه. ينسوه. ليمارسوا دورهم في تخدير الناس عن حقوقهم، ولإقناعهم بأن المظالم التي يتعرضون لها، والفقر الذي يعيشون فيه “قدر” من أقدار الله لا علاقة له بالاختلالات الاقتصادية التي يقف الفساد خلفها. وهي الفكرة التي لو كانت صوابا، فما كان من الجائز لسيدنا موسى أن يقف لفرعون “لأنه طغى”. كان يجب عليه أن يذهب إلى بني إسرائيل فيقول لهم أن “اتبعوا أولي الأمر منكم”.
مع ذلك، فإن داعي الفصل الحقيقي والأهم بين الدين والسياسة هو أن عالم الدين شيء، وعالم السياسة شيء آخر.
“العملية الروسية الخاصة” تمنع تداول المعلومات عن مجريات الحرب في أوكرانيا
الديانات بجملتها هي منظومات قيم إنسانية وأخلاقية عليا؛ قيم ذات طبيعة مترفعة، من ناحية، وذات مساس مباشر بحياة البشر، من ناحية أخرى. الرب إنما يوجد في هذه القيم. وعندما تعرفه أو تتعرف عليه أو تراه، فإنك لن تجد سبيلا للوقوف إلى جانب أيّ فرعون. هو الحق. هو العدل. هو الرحمة. وعندما تصمت عن انتهاك حقوق البشر، أو عندما تستهين بغياب العدل في سلطة القانون، وعندما يتعرض بعض الناس إلى أعمال تعذيب، وتخرس عنها، فإنك يا شيخ البهتان والزور، قد تبرر لنفسك أنك واحد من سحرة فرعون، خوفا أو طمعا، ولكنك، بكل تأكيد لست مع الحق ولا العدل ولا الرحمة. إنك مع رب آخر، يشبه رب بوتين، أو رب هتلر.
حتى سحرة فرعون خير منك. لأنهم لم يؤخذوا بالخوف منه ولا بالطمع. قال لهم “لأصلّبنّكم في جذوع النخل” فقالوا له “اقض ما أنت قاض”.
الرب الذي يتنفس بالشر في الكنسية الروسية، يتنفس الشر نفسه في كنائس الديانات والمذاهب الأخرى، ولديه كهنة يتلبسون بالدين لكي يحوّلوه إلى أفيون، ولكي يغذوا به بشريتهم الرديئة، لا منظومة القيم الدينية العليا.
وسواء تدخلوا في السياسة بطلب من فرعون، أو بمحض ممالأة رخيصة له، فإنهم لا يخدمون الغرض الذي أصبحوا من أجله رجال دين.
لقد كانت الدعوة إلى السلام أقرب إلى الرب من دعم غزو انطوى على مظالم وجرائم، وأعمال تدمير وتهجير كالتي يرتكبها جيش بوتين.
ربما لم يسمع البطريرك كيريل، بالنظر إلى أن “العملية الروسية الخاصة” تمنع تداول المعلومات عن مجريات الحرب في أوكرانيا.
أفلم يسمع شيوخنا وأئمتنا بالفساد الذي أضاع مئات المليارات من ميزانيات العراق؟ أفلم يسمعوا بما يُرتكب من فظائع في سجون دمشق؟ أفلا يرون إلى أين يذهب طاغوت العساكر بالسودان؟ أم لم يسمعوا بأن نظامنا القضائي نفسه يرتضي بالسحت والزور؟
أين الله من تجارة الأفيون هذه؟ لماذا يلصقون تواطؤهم به؟
نقلاً عن العرب اللندنية