علي حمادة
في صيف 2014 كتب البروفسور في العلاقات الخارجية في جامعة ييل الأميركية والتر راسل ميد مقالة في مجلة “فورين آفيرز”، صاحبة التأثير والنفوذ في أوساط صناعة السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، بعنوان “عودة الجيوسياسة”. كانت المقالة مثيرة باعتبارها أتت رداً على مقولة العالم في الاجتماع فرانسيس فوكوياما التي قال فيها إنه بسقوط الاتحاد السوفياتي عام 1989 “انتهى التاريخ” بمعنى انتهاء الصراعات الجيوسياسية، ومعها النزاعات التقليدية القائمة على التوسع الجغرافي، والاحتكام الى القوة العسكرية لحل النزاعات، لقاء تفرغ العالم لمعالجة شؤون الاقتصاد، والتجارة، وتعميق الليبرالية، والحد من انتشار الأسلحة النووية، وبقية أسلحة الدمار الشامل، وتقديم قضايا حقوق الإنسان، وحكم القانون، وتحديات التغيّر المناخي، وحماية البيئة.
أتى رد راسل ميد بعد اثنين وعشرين عاماً ليدحض مقولة فوكوياما، ويؤكد أن الجيوسياسة بمعنى الصراعات المبنية على التوسع، واستخدام القوة عادت. ونُشرت مقالة ميد في عدد مجلة “فورين آفيرز” لشهري أيار (مايو) – حزيران (يونيو) 2014. وجاءت المقالة في أعقاب اجتياح الجيش الروسي بأمر من الرئيس فلاديمير بوتين منطقة الدونباس شرقي أوكرانيا (حيث المعارك الشرسة اليوم أيضاً)، وشبه جزيرة القرم (التي جرى ضمها في ما بعد).
فقد شكل الهجوم العسكري الأول على أوكرانيا قبل ثمانية أعوام، تكريساً لعودة الصراعات الجيوسياسية من الباب الأوسع، ولا سيما في القارة الأوروبية. طبعاً كانت حرباً محدودة في الزمن، لكنها استمرت ثمانية أعوام بوتيرة منخفضة، إلى أن أطلق الرئيس الروسي في شباط (فبراير) من العام الحالي حرباً أوسع وأشمل ضد أوكرانيا في إطار محاولته إعادة كتابة تاريخ روسيا وأوكرانيا، وبالتالي رسم الجغرافيا السياسية للبلدين بشكل مختلف عما ورثته القارة الأوروبية إثر انهيار الاتّحاد السوفياتي. والحرب لا تزال مستعرة، وهي مرشحة لأن تكون حرباً طويلة الأمد حسب ما يشير إليه عدد من كبار المسؤولين الأميركيين، وعلى رأسهم الرئيس جو بايدن.
لماذا هذه المقدمة؟ إنها للإشارة والتذكير بأن عصر الصراعات الجيوسياسية أكثر حضوراً من أي وقت مضى، وأن التاريخ لم يمت وفق ما زعم فوكوياما، على رغم أنه استعار على طريقته مقولة “نهاية التاريخ” (عنوان كتابه الذائع الصيت) من الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم هيغل. فالجيوسياسة والصراعات التي توَهّم كثيرون أنها انتهت بانتصار الغرب وسقوط الاتحاد السوفياتي، بقيت سمة من سمات المرحلة التي تلت سقوط جدار برلين، وقد شكلت حرب الرئيس الروسي بوتين الأولى على أوكرانيا سنة 2014، جرس الإنذار الجدي الأول الذي دفع العديد من المفكرين إلى الاستيقاظ من نشوة 1989، وحثَّ الخبراء العسكريين والاستراتيجيين على إعادة فتح دفاترهم القديمة.
ولا شك في أن قيام الرئيس الروسي بشن حربه الثانية على أوكرانيا بهدف شطب البلد بأسره عن خريطة العالم، رسّخ القناعة بأن الصراعات الجيوسياسية، والاحتكام إلى القوة العسكرية في فض النزاعات الكبيرة، حتى في القارة الأوروبية، حقيقة قائمة، وهي جزء لا يتجزأ من عقيدة روسيا الاتحادية بقيادة الرئيس بوتين، الذي يوصف في ضوء الحرب المستعرة في أوكرانيا بأنه يخوض حرباً ضد التاريخ، بمعنى أنه يخوض حرباً لإعادة كتابة التاريخ وفقاً لموازين القوّة التي يعتقد أنها تصب في مصلحته. ولكن من الواضح أن حسابات الرئيس الروسي لم تطابق الواقع على الأرض، ولا سيما في ما يتعلق برد الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، بما حوّل الحرب الخاطفة لاستعادة القراءة الإمبراطوية للتاريخ الروسي، حرباً ضروساً، مكلفة، وباهظة الثمن، طويلة وغير محسومة النتيجة النهائية.
هذا الواقع دفع آخر الامبراطوريات الكونية، أي الولايات المتحدة، إلى إعادة التفكير بالتحديات الكبرى التي تواجهها، أو التي ستواجهها في العقود الثلاثة المقبلة. فمن خلال روسيا المتمردة على التاريخ، وعلى قدراتها المحدودة التي تمتلكها، ووقوف الغرب عموماً بوجهها، وهذا ما يدفعها إلى إعادة النظر بعمق في علاقاتها التي تراجعت مع القارة الأوروبية، تنظر واشنطن بقلق كبير إلى الجانب الآخر من الكرة الأرضية، إلى الصين.
الصين بقيادة شي جينبينغ يتملكها موقف من الغرب شبيه عموماً بموقف روسيا بوتين. فالطرفان يزدريان الغرب وثقافته، ويعتبران أنه في انحدار مضطرد، ويسعيان إلى الثأر من التاريخ الذي يعتبران أنه ظلمهما. فالصين التي لا تزال مشحونة بمشاعر الغضب من المهانة التي تعرضت لها في القرنين التاسع عشر والعشرين، تخوض منافسة محمومة مع الولايات المتحدة لتبوّء الموقع الاقتصادي الأول في العالم. أكثر من ذلك لم تتوقف بكين عن العمل الجاد من أجل أن تتحول من قوة اقتصادية عالمية، إلى قوة عالمية على جميع الصعد، لا سيما على الصعيد العسكري والتكنولوجي.
ولعل التحدي الكبير الذي تمثله الصين بالنسبة الى الدائرة الجغرافية المحيطة بها في جنوب شرق آسيا، وبحر الصين الجنوبي، والمحيط الهادئ، هو سعيها الدائم لحل مشكلة جزيرة تايوان واستعادتها ضمن عقيدة الصين الواحدة حتى بوسائل عسكرية. هذا التحدي الصيني يشكل في عرف الجوار المباشر من اليابان، الى كوريا الجنوبية، وأستراليا ونيوزيلندا تحدياً شديد الخطورة. كما أنه يهدد الانتشار الأميركي الموروث من الحرب العالمية الثانية في منطقة المحيط الهادئ، والذي شكل عنصر الاستقرار منذ 1945. وقد تكون حرب روسيا على أوكرانيا قد مثلت مناسبة ثمينة للصين لكي تستفيد من دروسها، وخصوصاً أن بكين لم تتوقف منذ سنوات عن استفزاز تايوان على المستوى الدفاعي الأمني. وقد زادت الاستفزازات في السنة الأخيرة وحتى اليوم. لكن تعثّر حرب بوتين في أوكرانيا قد يكون خفف من شعور المسؤولين الصينيين بالثقة في أن اجتياح الجزيرة متاح بالسهولة التي يعتقد بها.
وتمثل قضية جزيرة تايوان تحدياً جيوسياسياً، تماماً مثل التحدي الذي يشكله تحوّل الصين من جبار اقتصادي إلى قوة تكشف عن سياسة توسعية في الجوار المباشر. هذا بحد ذاته يفرض على الولايات المتحدة أن تعيد قراءة حساباتها في كل مكان حيث تتمتع بنفوذ تاريخي فيه. فالصين تخترق القارة الأفريقية عبر العلاقات التجارية، وروسيا تخترقها عبر الأمن ومبيعات الأسلحة، وشركات المرتزقة. أما في الشرق الأوسط فالتجارة للصين من الخليج إلى المحيط، والنفوذ العسكري لروسيا من سوريا إلى ليبيا. والقوتان تلتقيان عند إيران.
إزاء هذا كله تراجع واشنطن حساباتها التي قامت على عقيدة الرئيس باراك أوباما بالالتفات صوب الشرق (الصين)، وتابعها الرئيس دونالد ترامب، ثم الرئيس الحالي جو بايدن. من هنا عودة تدريجية إلى سياسات القرن الماضي، ولا سيما على مستوى العلاقات مع الحلفاء التاريخيين. فالتمدد التجاري الصيني، والعسكري الأمني الروسي يحتمان على الولايات المتحدة إنقاذ علاقاتها مع الحلفاء التاريخيين بعد مرحلة اتسمت بإدارة الظهر لمصالح الحلفاء على حساب أمنهم القومي. فوضع الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 فوق كل اعتبار، سدّد ضربة قاسية للعلاقات مع الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة ومعها إسرائيل. ولم يغير الاتفاق في سلوك إيران الإقليمي، لا في برنامجها لتطوير الصواريخ الباليتسية البعيدة المدى، ولا حتى حسم مسألة البرنامج النووي العسكري السري الذي لم يتوقف يوماً.
هذا كلّه مع الحرب الروسية ضد أوكرانيا وحاجة واشنطن إلى حلفائها في المنطقة على صعيد إمدادات النفط والغاز للتعويض عن إمدادات موسكو، يدفع الرئيس بايدن للعودة إلى التحالفات التقليدية في المنطقة، تماماً مثلما حصل ويحصل على صعيد أوروبا بالنسبة إلى تعزيز حلف شمال الأطلسي “الناتو” الذي قال عنه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ذات يوم إنه ميت سريرياً.
إن الحقائق الجيوسياسية التي أعادت حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إحياءها بعد شنه الحرب على أوكرانيا، تثبت حضورها في كل بقعة حارة من الكرة الأرضية. من أوروبا، إلى جنوب شرق آسيا، مروراً بالشرق الأوسط. من هنا العودة إلى الأساسيات.
نقلا عن النهار