.
فاطمة ناعوت
فى شهر يونيو من كلّ عام، يتذكّر المثقفون داخل مصر وخارجها رجلًا نبيلًا من طراز فريد، غُدِر برصاصتين فى قلبه، فعاش أكثر من قاتليه.
خَلُدَ اسمُ المفكّر التنويرى فى ذاكرة العالم، واندثر اسمُ قاتله الذى نجا بجريمته. فالعظماءُ عصيّون على النسيان وإن رحلوا، والخاملون منسيون وإن عاشوا.
كان من أوائل مَن فضحوا فِكرَ الإخوان الانتهازى وشهوتهم العمياء للوصول إلى كرسى الحكم سيرًا على جثامين البشر.
ولا شك عندى بأن آراءه التى طرحها فى كتبه، لو كانت دُرِّست فى المدارس منذ أربعة عقود، لما استفحل الفكر المتطرف الذى خرّب وجه مصر المشرق نصف قرن.
هو الرجلُ الوطنى الذى أحبَّ مصرَ بكل خفقات قلبه، فقدَّم روحَه قربانًا لتنوير دروب صَنعَ عتمتَها ظلاميون سُودُ القلوب شاغرو العقول.
دافع عن العقل النقدى البنّاء الذى يفكّر ويحلل ويستنتج. وتنبأ بأن الشعب المصرى سوف يلفظ الفكر الإخوانى والتطرف، وصدقت نبوءةُ الرجل المستنير.
فى يونيو ١٩٩٢، اخترقت رصاصةٌ عمياءُ قلبَ رجلٍ كان يحلم بمصر أجملَ وأعدلَ وأكملَ وأرقى، فدفع عمرَه ثمنًا لهذا الحُلم العصىّ. طارت روحُه إلى عالم العدل والكمال، ولم تزل كلماتُه فى عقول من حملوا عنه مشعلَ التنوير؛ فعاش أكثر من قاتليه الذين لا يذكرهم أحدٌ إلا باسم: «قتلة فرج فودة»؛ فأصابتهم لعنةُ أن يظلوا نكراتٍ حاملين اسم شهيد استشهد على أياديهم.. لكن حلمه العصىّ بدأت ترتسم ملامحُه اليوم فى مصر الراهنة.
حارب الإرهاب الفكرى فى كتابه «النذير»، قائلا: «تيار الإسلام السياسى نجح فى تكوين دولة موازية تستخدم نفس أجهزة ومؤسسات الدولة الحاكمة».
استشرف مبكرًا خطر جماعة الإخوان، التى كانت الرافد الأساس للإرهاب المسلّح منذ ثلاثينيات القرن الماضى، وأفرخت تياراتٍ وليدةً تمارس أشكالًا شتى من العنف باسم الدين.
أحدُ صنّاع الجمال، الذى علّمنا أن ننتقدَ ما يحيد عن ساحة الجمال والتحضُّر.
عاش يحاربُ القبحَ والعنفَ والوحشية التى تُبكى وجهَ السماء.
فحاربه أعداءُ الجمال مثلما حاربوا «نصر أبو زيد»، و«الإمام محمد عبده»، و«طه حسين» و«الحلاج» و«السهروردى» و«ابن عربى» و«أبوبكر الرازى» و«ابن رشد».. وكل مَن دعا إلى إعمال العقل بالعلم، وإعمار القلب بالحبِّ من أجل الوصول إلى جلال الله الأعظم. فيهم مَن كُفِّر ومن نُفى ومن قُتِل ومن قُطّعت أطرافُه وحُرق وصُلب وضُرب على رأسه بمؤلفاته حتى فقد البصر.. لكنهم جميعًا خُلِّدوا وانقطع ذكرُ قاتليهم.
أوقنُ أن يومًا قريبًا فى ظلّ «الجمهورية الجديدة» المستنيرة بنور العلم والفكر والعدل والتحضّر والسمو، سوف يشرقُ اسم «فرج فودة» على مدرجات الجامعات وفى كتب المدارس ومناهج التعليم حتى يتعرّف النشءُ الصغير على رموز بلادهم وحملة مشاعل التنوير.
أوقنُ أن اسم «فرج فودة» سوف يشرقُ فى جنبات مصر والعالم العربى مثلما يشرقُ اسم «ابن رشد» فى جنبات أوروبا التى مازالت تدينُ له بنهضتها الفكرية والعلمية الكبرى.
فى إسبانيا، أحرصُ على العروج إلى مدينة «قرطبة»؛ لكى أتجول فى شوارعَ ومدارسَ وجامعاتٍ وميادينَ تحمل اسمَ Averroues. أما Averroues فلم يكن ممثلًا أمريكيًّا شهيرًا، ولا هدّافًا فى فريق ريال مدريد، ولا شاعرًا إنجليزيًّا، ولا رسامًا فرنسيًّا من عصر الرينيسانس، ولا روائيًّا روسيًّا، ولا موسيقارًا ألمانيًّا يستحق تخليده على هذا النحو اللافت فى أوروبا.. بل كان شيخًا مسلمًا مثقفًا من القرن الثانى عشر اسمه: «أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد»، ولِد فى قرطبة الأندلسية، ومات حزينًا منفيًّا فى مراكش المغربية بعدما طُرد من بلاده، لأن ثقافتنا بكل أسف تحارب الأذكياء الواعين وتحتفى بالخاملين المظلمين.
كان طبيبًا وفيزيائيًّا وفلكيًّا وفيلسوفًا وقاضيًّا. احتفى به الغربُ لأنه كان كلَّ ما سبق. وحاربه متطرفو المسلمين لأنه كان كل ما سبق!.. وتلك واحدة من عجائب الزمان!.
ذبحوا تاريخَه، واغتالوا إرثه، لأنه ارتكب الجريمة الكبرى التى لا يغفرها الظلاميون.
كان «يفكّر» و«يعقل» فى مجتمعٍ يكره التفكير ويمقت العقل.
مقتوه لأنه قال: (الحقُّ لا يضادُّ الحقَّ. الدينُ حقٌّ والفكرُ والفلسفةُ حقٌّ. والحقّان لا يتضادان)، فرماه الجهلاءُ بالكفر والزندقة وأحرقوا كتبَه النيّرة.
وكما تحتفى أوروبا بالعظيم «ابن رشد»، أنتظرُ بإذن الله يومًا مشرقًا تحتفى فيه مصرُ بالعظيم «فرج فودة»، فتضعُ اسمَه على المدارس والميادين وقاعات الجامعات.
وكلى إيمانٌ بأن هذا اليومَ صار وشيكًا فى ظلّ مصر الراهنة المشرقة بنور العلم والتنوير والعدالة والتحضر.
رحم الله شهيدَ الكلمة «فرج فودة» وأنار مِشعلَه الذى لا يخبو. «الدينُ لله.. والوطنُ لمن ينادى باستنارة الوطن»
نقلاً عن “المصري اليوم”