حلمي النمنم
شاءت الأوضاع السياسية في مصر، خلال النصف الثانى من القرن العشرين، أن يكون الأستاذ «محمد حسنين هيكل»، هو النموذج الأبرز في علاقة الصحفى والكاتب برأس السلطة والدولة، يكون قريبًا جدا من السلطة، حتى يصبح في لحظة عنصرا رئيسيًا وفاعلًا فيها، وفى لحظة أخرى تتباعد المسافات وتتباين الآراء فيصير خصمًا لها، حدث ذلك بالنسبة لهيكل زمن عبدالناصر ثم في زمن السادات، كان قريبا من عبدالناصر، مؤثرا إلى جواره، يكتب خطبه السياسية ويعبر عن أفكاره، وفى لحظة صار وزيرًا للإعلام وإلى جوار ذلك قائمًا بعمل وزير الخارجية لعدة شهور، ترك خلال هذه الشهور بصمته، على النحو الذي ورد بالتفصيل في مذكرات السفير منير زهران وغيرها من الكتب المتخصصة، انتقل عبدالناصر إلى رحمة الله تعالى وهو راض عن هيكل، مقربًا جدًا منه؛ أما في زمن السادات فقد تدرج الأمر من التقارب الشديد ثم التباعد والتقارب، حتى إن الرئيس السادات عرض عليه أكثر من منصب، بينها منصب وزير، ثم تحول التباعد إلى التعارض والتقاطع السياسى، إلى أن وضع السادات، هيكل في السجن، ضمن ١٥٧٦ شخصية، تحت مسمى «التحفظ»، يوم ٥ سبتمبر١٩٨١.
في أحد كتبه المبكرة توقف عالم الاجتماع السياسى د.سعد الدين إبراهيم أمام ما سمّاه «تجسير الفجوة» بين الأمير والمثقف، القضية مطروحة للنقاش العلمى قبل كتاب د.سعد وبعده، تحت مسميات عدة، تجربة هيكل كانت إزالة الفجوة حينا وتعميقها حينا آخر، حتى صارت هوة عميقة. تجسير الفجوة أو تعميقها يرتبط بعوامل عديدة وأطراف كثيرة، والدليل أن د.سعد نفسه اتسعت الفجوة بينه وبين الرئيس السابق حسنى مبارك، حيث حوكم ودخل السجن.
غير أن جمهرة الصحافيين أخذت بتجربة هيكل مع عبدالناصر تحديدا أكثر من تجربته مع السادات، مجايلو هيكل سيطرت على بعضهم مشاعر الغيرة والحسد من ذلك التقارب فراحوا يلعنون عبدالناصر ويتهمون هيكل، قالوا إن ناصر جعله «الصحفى الأوحد»، الرئيس السادات تأثر بتلك المقولة وراح يردد علنا أن ناصر«قفل الصحافة على هيكل»، مجايلو هيكل علقوا الجرس في رقبته، مع كل أزمة صادفت أيًّ منهم، بعد الإفراج عن الأستاذ مصطفى أمين لم يتردد بعض محبيه من اتهام هيكل بالوقوف خلف القضية برمتها، وسمعت في الثمانينيات من قدامى الصحافيين في مؤسسة دار الهلال أن هيكل كان وراء الإطاحة برئيس تحرير الجمهورية حلمى سلام وإحالته إلى المعاش مبكرًا، كان حلمى صديقًا قديمًا لجمال عبدالناصر وكان مدير تحرير المصور، قبل أن يغادر دار الهلال نهائيًا، بعضهم زاد وحمل هيكل المسؤولية عن أزمة شيخ الصحافيين في زمانه فكرى أباظة مع الرئيس عبدالناصر الذي منع من الكتابة وقتها. وفى حوار منشور مع الرئيس السادات وفى وصلة كراهية وعداء لهيكل، شكا موسى صبرى للسادات من أن هيكل هو الذي أفسد علاقته بعبدالناصر بأن ذكر لناصر أنه- أي موسى صبرى- زئر نساء وأن ذلك كل ما يهمه في الحياة، وهكذا كانت الشكاوى حينا والإحن حينا آخر من علاقة هيكل بالزعيم.
الأجيال التالية لم تقف عند هذه التفاصيل، لكنهم أخذوا وانبهروا بهذا النموذج وسعى البعض إلى محاولة تكراره، كانت هناك محاولات استنساخ هيكل زمن السادات ثم في سنوات مبارك، وكانت هناك أمنيات ومحاولات بهذا المعنى مع انتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسى سنة ٢٠١٤.
العلاقة بين المثقف.. فيلسوف وحكيم.. شاعر وكاتب، مع الأمير أو السلطان.. الملك، قديمة جدا وشائكة، هي كذلك متقلبة، النماذج في التاريخ الإنسانى عديدة من أرسطو والإسكندر المقدونى، مرورًا بعشرات الأسماء في التاريخ الإنسانى كله. في التاريخ العربى والإسلامى هناك أسماء من عبدالله بن المقفع.. أبوحيان التوحيدى، مرورًا بأحمد بن حنبل إلى ابن رشد، ثم عبدالرحمن بن خلدون مع تيمور لنك وحتى الشاعر عمارة اليمنى في مصر، وغيرهم كثر.
في العصر الحديث ومع انتشار الطباعة والصحف، حل الصحافى مكان الفيلسوف والشاعر أو الفقيه قديمًا، وهكذا كان التقارب بين الصحافة والمسؤولين، ويخطئ من يتصور أن علاقة هيكل وعبدالناصر، كانت استثنائية في التاريخ، ربما كانت كذلك بالنسبة لطرفيها فقط.
في مذكرات «نوبار باشا» نجد حرص محمد على مؤسس مصر الحديثة على التواصل بالهدايا والعطايا مع عدد من مكاتبى بعض الصحف في لندن وباريس لتحسين صورته في أوروبا وفى مواجهة خصومه من السياسيين سواء في لندن أو في استانبول.
وفى دار الوثائق المصرية مجموعة من أوراق الخديو إسماعيل وبعضها يتعلق بأوجه الإنفاق المادى، سوف نجد بينها مبالغ ليست هينة، مدونا أنها «رِشًى»- جمع رشوة- لبعض «مكاتبى» صحف كبرى في لندن وباريس، عدد منها لا يزال تصدر إلى يومنا هذا، مقابل تهيئة الأجواء وتهدئة العداء، في العاصمتين، له ولمشاريعه التحديثية بمصر، لم تكن اللغة عرفت وقتها مصطلح «مصاريف سرية» الذي انتشر وشاع في القرن العشرين.
وحين عزل الخديو اسماعيل وفرض عليه مغادرة مصر، طلب أحد الصحافيين المقربين منه مرافقته في الرحلة ليكون شاهدًا، هذا الصحفى هو المويلحى الأب «إبراهيم».
وقد يكون الخديو عباس حلمى، من أبرز النماذج في اعتماد الحاكم على الصحف، وتحولها إلى قوة مؤثرة في صنع القرار السياسى، هو كذلك نموذج في الاقتراب الشديد مع عدد من الصحافيين، مثل الزعيم مصطفى كامل رئيس تحرير جريدة «اللواء»، لكن توترت علاقتهما في نهاية عمر مصطفى كامل، وكذلك علاقته مع أحمد لطفى السيد رئيس تحرير «الجريدة»، ثم شعر لطفى السيد بالنفور من الخديو، هناك علاقته مع إبراهيم المويلحى ونجله محمد المويلحى، رئيس تحرير «مصباح الشرق»، صاحب كتاب «عيسى بن هشام»، وظلت علاقته قوية ومستمرة مع الشيخ على يوسف رئيس تحرير المؤيد، كان الشيخ يقوم ببعض الأدوار السياسية والاجتماعية مكلفًا من الخديو.
كان عباس حلمى، تولى الحكم لمدة ٢٢عاما، جاء بعد وفاة والده الخديو محمد توفيق، وكان منزوع الصلاحيات، غير مطمئن في موقعه، فالمندوب السامى البريطانى لورد كرومر، صاحب النفوذ الفعلى في مصر، يعتدى على اختصاص الخديو ويضعف نفوذه بدعم خصومه وخصوم الخديوية عمومًا.
مشروعيته كحاكم مستمدة من فرمان السلطان العثمانى، كانت مصر تحت السيادة العثمانية، التي كانت فعلية ولم تكن اسمية، كما يتردد في بعض كتب التاريخ، لذا كان عليه استرضاء السلطان والحذر منه، كان عباس قلقا كذلك من وجود جده الخديو السابق اسماعيل في أوروبا وإمكانية عودته ثانية إلى حكم مصر، كان قلقا كذلك من فرع الأمير حليم بالأسرة العلوية وقد اغتصب جده إسماعيل حقهم في الحكم، هؤلاء انتقلوا إلى العاصمة العثمانية ويتمتعون برضا السلطان والسلطنة؛ بإزاء هذه المخاوف كلها لجأ إلى الصحف والصحافيين يدفع بسخاء لتجميل صورته والاستعانة بهم في صراعاته وتحالفاته.
بحجم سلطته ونفوذه كانت علاقته مع كبار الصحافيين، وحده الشيخ على يوسف هو الذي حافظ واحتفظ بتلك العلاقة وبمقتضاها كانت لديه علاقة قوية مع قصر «يلدز» في استانبول، حيث السلطان عبدالحميد وبدرجة ليست كبيرة مع قصر «الدوبارة»، مقر اللورد كرومر، لكن علاقته بقصر «عابدين»، كانت الأقوى والأكثر استمرارية.
كان على يوسف يتمتع بنفوذ ضخم في حدود سلطة وقدرة عباس حلمى، هذا النفوذ الذي مكنه- رغم أنه لم يحصل على أي شهادة، بلا ثروة ومن أسرة بسيطة للغاية- من خطبة صفية السادات ابنة الشيخ عبدالخالق السادات، أسرة أكثر عراقة بمراحل وأشد ثراء من أسرة محمد على، كان للأسرة نفوذ في العاصمة العثمانية يفوق نفوذ الأسرة الحاكمة.
في زمن الملك فاروق كان هناك نفوذ «كريم ثابت»، الذي صار مستشارًا لجلالة الملك ثم وزيرًا، كان استوزار الصحافيين في العصر الملكى أمرا عاديًا.
غير كريم ثابت كان هناك آخرون مقربون من قصر عابدين ومن الملك فاروق شخصيًا، مصطفى أمين كان واحدا منهم. وهناك آخرون كانوا مقربين من بعض رؤساء الوزراء، مصطفى النحاس ومحمد التابعى، نموذجًا.
المعنى هنا أن ثنائية (ناصر/ هيكل) ليست استثنائية في تاريخ مصر السياسى ولا في تاريخ ومسيرة الصحافة المصرية، مع فارق التفاصيل، دعنا الآن من كثرة المبالغات حول تفاصيل تلك الثنائية، هناك ما يمكن أن نعتبره «بهارات» حول تلك العلاقة، مثل مكالمة الثالثة فجرًا كل يوم؟، هل كانت يوميًا وفجرًا؟، ومتى تم تركيب الخط المباشر؟، وكيف كانت لغة الخطاب بين الرئيس والصحفى؟.
فيلم «ناصر٥٦»، أثبت وجود ذلك الخط وتلك المكالمة وقت التأميم، أي سنة ١٩٥٦، وأن المكالمة كانت آخر ما يفعله الرئيس في يومه. من يدرس شخصية وظروف عبدالناصر، فضلًا عن الظرف العام، الذي كانت فيه مصر وقتها، يتشكك فورًا في تلك الواقعة.
هناك كذلك تصور«سخيف»، مفاده أن «الأستاذ»، كان العقل المحرك أو «الوحى»، الآمر الناهى، معنويا وفكريا، مع «الزعيم»، وبكل أسف تنفى الشواهد ذلك وربما تقول عكسه تماما.
نقلاً عن “المصري اليوم”