مصطفى الفقي كاتب وباحث
لا نكاد نجد نموذجاً يتشابه مع الأحزاب السياسية في الدول العربية من حيث انقسامها بين أحزاب ذات مرجعيات دينية وأخرى ذات مرجعيات قومية، ولكن الأمر الذي لا خلاف عليه هو أن معظم الأحزاب في العالم العربي دارت حول هذين المحورين، عدا اختلافات بسيطة سوف نشير إليها في هذا المقال، وسوف نختار أربع نماذج للأحزاب السياسية في المنطقة العربية وهي الوفد في مصر والقومي في سوريا ولبنان والبعث في سوريا والعراق، ثم حركة الإخوان المسلمين التي بدأت من مصر عام 1928.
لعلنا نسرد على القارئ في السطور المقبلة دراسة موجزة ونقاطاً محددة حول ما يمكن اعتباره أمثلة للأحزاب السياسية العربية بعنصرَيها الأساسيين الدين والقومية أو الإسلام والعروبة، ولعلنا نستهل ذلك بحديث عن واحد من أكبر الأحزاب السياسية وأكثرها استمرارية في تاريخ العرب المعاصر، وهو حزب الوفد المصري.
وعلى الرغم من أنه ليس الحزب الأول في التاريخ المصري الحديث، فقد سبقه الحزب الوطني القديم، ثم الجديد، وكذلك حزب الأمة وحزب الإصلاح الدستوري وغيرها من التنظيمات السياسية في فترات مختلفة من تاريخ السياسة والحكم في الدولة المصرية، فحزب الوفد هو نتاج للثورة الشعبية ضد الإنجليز عام 1919، عندما جمع المصريون توكيلات لتفويض الزعيم سعد زغلول ورفاقه لعرض القضية الوطنية على مؤتمر السلام الدولي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ودخول العالم مرحلة جديدة، طالب فيها المصريون بإلغاء الحماية وجلاء القوات البريطانية والاعتراف باستقلال البلاد حتى صدر تصريح 28 فبراير (شباط) 1922 في هذا السياق. وتحولت السلطنة المصرية إلى المملكة المصرية في ظل عرش أسرة محمد علي، وأصبح حزب الوفد بحق وعاء الحركة الوطنية في مجملها، وكان تعبيراً شعبياً كاسحاً عن إرادة المصريين من خلال حزب سياسي ظل قائماً في المئة عام الأخيرة، باستثناء انقطاعه في فترة إلغاء الأحزاب أثناء العصر الناصري.
لقد عرف الحزب عدداً من القيادات التاريخية، أهمها سعد زغلول، الزعيم المؤسس وخليفته مصطفى النحاس، الذي كان نموذجاً للصلابة الوطنية، ثم فؤاد سراج الدين الذي أعاد إحياء الحزب في عصر الرئيس الراحل أنور السادات. وبذلك، يظل حزب الوفد المصري هو أكثر الأحزاب استمرارية وتواصلاً على امتداد قرن كامل أو ما يزيد، ولا يعني ذلك أنه لم تكُن هناك أحزاب أخرى، إلا أن حزب الوفد تميز عن غيره بشعاراته الداعية لفصل الدين عن الدولة والاستظلال بمظلة الليبرالية الوطنية، فضلاً عن تأكيد الإخاء بين المسلمين والأقباط في مصر على نحو غير مسبوق، حتى كان مكرم عبيد ، سكرتير عام الحزب في أكثر فترات ذلك الحزب نشاطاً وحيوية، بل واكتسب مكرم عبيد القبطي شعبية واسعة، حتى اختلف مع زعيم الحزب النحاس وخرج من عباءته وأصدر كتابه الأسود في التشهير برفاق الأمس وشركاء المنفى وقيادات الوفد من طبقته الأولى.
وإذا انتقلنا إلى حزب مختلف تماماً وأعني به الحزب القومي السوري، فنحن أمام نموذج لروح المشرق العربي على اختلافها عن غيرها وتميزها بروح الشام الكبيرة أو سوريا الكبرى، ولا بد من أن أعترف هنا أنني تعاطفت إنسانياً مع زعيم ذلك الحزب وأعني به السيد أنطون سعادة الذي انتهت حياته بالإعدام على ساحل البحر في لبنان، حتى إن كثيرين يرون أن اغتيال السياسي اللبناني رياض الصلح قد جاء انتقاماً لإعدام سعادة، وبذلك أسدل الستار عن ذلك الحزب الذي كان يتحدث عن الهلال الخصيب ونجمته في قبرص، في إشارة إلى سوريا ولبنان وبقية دول المشرق العربي بما فيها العراق، فقد كان ذلك الحزب هدفاً لانتقادات حادة، بل واعتبره البعض معادياً للمفهوم الشامل للعروبة، مركزاً في شوفينية، بل وعنصرية على منطقة الشام، ومع اعترافنا بأنها بؤرة الحركة القومية لأنها كانت ولا تزال مستقراً للعروبة منذ الفتوحات الإسلامية وحتى الآن، وهو ما يعني أن الحزبين الوفد المصري والقومي السوري كانت لهما منطلقات قطرية لم ينجحا في الامتداد بها إلى عموم أقطار الوطن العربي. بينما أظن أن حزباً واحداً قد نجح في ذلك الاختراق القطري وأعني به حزب البعث العربي الاشتراكي الذي عكفت على تأسيسه بضعة أسماء معروفة في تاريخه وأعني بهم زكي الأرسوزي وميشال عفلق وصلاح البيطار وغيرهم من رواد حزب البعث الأوائل.
ولقد انتشر الحزب منطلقاً من سوريا إلى العراق والأردن ولبنان ليمثل قوة ضاغطة على الحياة السياسية في تلك الدول، لا تزال آثارها قائمة حتى الآن.
وكان امتداد البعث قائماً على الشعارات القومية الثلاثة “حرية، اشتراكية، وحدة” أو “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”. ومن أعظم نقاط ضعف هذا الحزب أنه لم ينجح في غزو مصر سياسياً وثقافياً على الرغم من أن ذلك قد أتيح له في سنوات الوحدة السورية المصرية.
ولو أن ذلك الحزب نجح، وهذا افتراض بعيد في ضم عبد الناصر إليه، لأصبح من الممكن أن يتحول إلى قوة عربية هادرة تعيد الأوضاع إلى ما كان متوقعاً لحزب عربي قومي عابر للأقطار ومؤثر في المستقبل السياسي للمنطقة برمّتها.
فإذا انتقلنا إلى أخطر التنظيمات العربية على الإطلاق، التي تجسد نموذج الحزب السياسي القائم على استخدام الدين الإسلامي بمنطق السمع والطاعة وإحياء مفهوم الإسلام السياسي في العالم الإسلامي كله، وأعني به حركة الإخوان المسلمين التي تمكّن مؤسسها الشيخ حسن البنا من تحويلها إلى حركة سياسية كبرى أثرت تأثيراً ضخماً في العالم الإسلامي حتى الآن، بل إننا نعتبرها الأم الشرعية لكل التنظيمات الإسلامية المعاصرة. ويجب أن نشير إلى تأثيرها الضخم في مجريات الأحداث على المستويين الإقليمي والعالمي وقدرتها على الاختراق في بلد يبدو فيه الدين متجذراً وأعني به مصر، لأن شعار الحركة على بساطته يجذب الملايين إليه، فمن ذا الذي لا يردد “الله أكبر ولله الحمد”.
ولقد دخلت جماعة الإخوان المسلمين في عداء طويل مع نظام الحكم في مصر في العهدين الملكي والجمهوري، فكانت المواجهة مع عبد الناصر في مرحلتين، الأولى عام 1954 بعد محاولة اغتياله في ميدان المنشية بالإسكندرية والثانية عام 1965 التي انتهت بإعدام الداعية سيد قطب الذي يُعتبر الفيلسوف الفكري للجماعة ويقف مع أبو الأعلى المودودي في باكستان وأبو الحسن الندوي في الهند على قدم المساواة.
لقد واجهت مصر بعد ذلك موجات عاتية لحركة الإخوان المسلمين وهي تحاول الوصول إلى السلطة حتى قفزت إليها بعد أحداث الربيع العربي 2011. وحكمت مصر من منتصف 2012 حتى منتصف عام 2013 عندما خرج عشرات الملايين إلى الشوارع لإسقاط حكمهم ووصل المشير عبد الفتاح السيسي، قائد الجيش آنذاك إلى منصب رئيس الجمهورية وكانت تلك الضربة الكبرى لجماعة الإخوان المسلمين، لا في مصر وحدها، ولكن على مستوى العالم الإسلامي كله، ولقد عانت منهم دول كثيرة أبرزها الجمهورية التونسية التي أرسى فيها قواعد الاستقرار والانفتاح والليبرالية وتمكين المرأة وحماية الأسرة، زعيم فذ سبق عصره وأعني به الحبيب بورقيبة، بطل الاستقلال في ذلك القطر العربي الشقيق، كما أن بورقيبة هو مؤسس الحزب الحر الدستوري في بلاده، تأكيداً لدوره في اليقظة الفكرية العربية.
هذا طواف سريع بنماذج للأحزاب السياسية التي تأرجحت بين الدين والقومية أو بين الإسلام والعروبة ولا تزال تمضي على الوتيرة ذاتها، فضلاً عن عشرات الأحزاب الطائفية التي لم تحقق نجاحات واضحة على الساحتين العربية والإسلامية.
نقلاً عن أندبندنت عربية