فارس خشان
لو أنّ المخالفات الجسيمة التي عرفتها الانتخابات النيابية الأخيرة في لبنان والحملة التي مهّدت لها، حصلت في أيّ دولة ديموقراطية لحُلّ المجلس النيابي وازدحمت السجون بنجوم العمل السياسي وأقفلت قنوات تلفزيونية وتمّ حظر أحزاب!
ولكن، بما أنّ المخالفات الجسيمة التي عدّدها التقرير النهائي لبعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات، قد حصلت في لبنان، فهي طبيعية، ومن “عدّة الشغل”، ولا بدّ من أن تمرّ مرور الكرام، وأن يتمّ، بدل المحاسبة السريعة والحاسمة للمتورطين بتزوير إرادة الناخب، تحميل الشعب اللبناني مسؤولية ما يسميه الوقحون هنا، والجاهلون هناك، النتائج!
تقرير بعثة الاتّحاد الأوروبي التي طالبت الحكومة اللبنانية بحضورها لإثبات نزاهة العمليات الانتخابية، وصدر، نهاية الأسبوع الماضي، أظهر أنّ الانتخابات النيابية لهذا العام كانت مشوبة بعيوب كثيرة وأهمّها: الترهيب، الضغط، التزوير، شراء الأصوات، الزبائنية، عدم تكافؤ الفرص، سيطرة الأكثر ثراءً على وسائل الإعلام التقليدية والإلكترونية، وانكفاء الأجهزة الأمنية والإدارية أمام الترهيب.
وإذا كانت غالبية الأحزاب اللبنانية قد استفادت من حرية الإنفاق المالي المنتج لمفاسد كبيرة في العملية الديموقراطية، إلا أن “الثنائي الشيعي” في الدوائر التي يسيطر عليها، قد نال حصّة الأسد من تورّطه في ممارسة الترهيب والضغط والتزوير، إلى درجة أنّ بعثة الاتحاد الأوروبي، على الرغم من محاولة إبعاد نفسها عن إصدار الأحكام على نتائج الانتخابات النيابية التي حصلت في الخامس عشر من أيّار/ مايو الماضي في كلّ الدوائر اللبنانية، قد وجدت أنّه في منطقة بعلبك – الهرمل “لعب الترهيب دوراً مؤثّراً في نزاهة عملية الاقتراع”.
وعليه، ما هي الممارسات التي نسبها إلى “الثنائي الشيعي” تقرير بعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات التي امتدّ عملها من السادس والعشرين من آذار/ مارس حتى السادس عشر من حزيران/ يونيو 2022 ونشرت، يوم الانتخابات في لبنان في الخامس عشر من أيّار/ مايو الماضي 167 مراقباً في 26 دائرة صغيرة؟
بيّن التقرير الوقائع الآتية:
هيمن الثنائي “حزب الله” و”حركة أمل” على دوائر الجنوب الثانية والجنوب الثالثة والبقاع الثالثة، ما منع المرشحين واللوائح التابعة لانتماءات سياسية أخرى من القيام بحملات انتخابية.
وفي كثير من أقلام الاقتراع في هذه الدوائر حصل “الثنائي” على أكثر من 90 بالمئة (وأحياناً مئة بالمئة) من الأصوات، خاصة في دائرة البقاع الثالثة، وتلتها دائرة الجنوب الثانية فدائرة الجنوب الثالثة.
وهناك حالات موثقة من الترهيب مارسها “حزب الله” و”حركة أمل” ضدّ معارضيهم في الانتخابات، كما سُجّلت حالات ترهيب، بما في ذلك ترهيب المرشحات، وتدمير مواد الحملة الانتخابية وعرقلة أنشطة الحملة.
وكان مندوبو هذا “الثنائي” يرافقون الناخبين وراء العازل الانتخابي.
وظهرت على مدى اليوم الانتخابي حالات توتّر وترهيب محلية، إذ إنّه في عشر دوائر انتخابية صغرى، سجل مراقبو البعثة وجود أعداد كبيرة من مندوبي “الثنائي” في مراكز الاقتراع الشيعية، بطريقة أدّت إلى ترهيب الناخبين، وساد التوتر خصوصاً في منطقة بعلبك – الهرمل، حيث جرى التحكم بحركة الناخبين، ومنع مندوبي اللوائح المنافسة من الدخول إلى هذه المراكز، وصولاً إلى توجيه الناخبين داخل مراكز الاقتراع، في ظلّ رضوخ القوى الأمنية وفرق عمل أقلام الاقتراع في المراكز لهذه التهديدات وأعمال الترهيب.
وقد تلقت البعثة تقارير موثقة عن حشو صناديق الاقتراع والتلاعب بالاقتراع في بعلبك الهرمل.
ولذلك، فإنّه “في هذه المنطقة قد يكون الترهيب قد لعب دوراً في التأثير على نزاهة عملية الاقتراع”.
ولكنّ المخالفات التي شابت العملية الانتخابية لم تقتصر، بطبيعة الحال، على ممارسات “الثنائي الشيعي” الترهيبية والتزويرية، بل هي في أبواب “الضغوط” الأخرى عمّمت نفسها على مشاركين آخرين في الانتخابات النيابية.
وفي هذا الإطار، كشف التقرير الطريقة التي اعتمدها “الأكثر ثراءً” في محاولة استقطاب الناخبين، بحيث أقدمت أحزاب سياسية ومرشّحون، ليس على دفع مبالغ نقدية فحسب بل على توزيع أكياس الخبز والطرود الغذائية والإمدادات الطبية، إضافة إلى المولدات والطاقة الشمسية والوقود، أيضاً.
وتعتبر هذه الممارسات واحدة من أسوأ وسائل استغلال الكارثة التي ضربت لبنان وشعبه.
وإذا كانت البعثة قد قيّمت سلباً النهج الذي اعتمدته “الجيوش الإلكترونية” التابعة لبعض الأحزاب، حيث مارست الترهيب ضد المرشحين المنافسين الذين لم يكونوا يملكون القدرات المالية “للرد على التحيّة بمثلها”، فإنّ القنوات التلفزيونية على اختلافها لم تسلم من التقرير، بحيث أظهر كيف أنّ القنوات الخاصة باعت هواءها، وبأسعار خيالية لا تتّفق مع الأسعار المعلنة للحزم الانتخابية، للأكثر ثراءً حارمة المرشّحين الآخرين من القدرة على الوصول إلى الرأي العام، فيما بيّنت أنّ القنوات المناصرة للأحزاب السياسية قد حصرت أوقات الذروة للوائح التي تدعمها.
وعليه، انتهت البعثة إلى التأكيد أنّ “المشهد الإعلامي الطائفي المنتسب سياسياً أثبت أنّه غير قادر على توفير ساحة منافسة متكافئة للمرشّحين”.
إنّ التعمّق في حيثيات التقرير يُظهر، بوضوح، أنّ القوى السياسية المؤثّرة تركت الكثير من الثغرات في قانون الانتخابات، حتى تتمكّن من عبورها إلى تزوير الإرادة الشعبية، ولهذا، فهي على سبيل المثال لا الحصر، كانت قد أهملت خمساً وعشرين توصية قدّمتها بعثة الاتحاد الأوروبي في ضوء مراقبة انتخابات عام 2018، بما في ذلك الصلاحيات الواجب توفيرها لهيئة مراقبة الانتخابات التي وقفت في معظم الأحيان، أمام ما يردها من مخالفات، موقف العاجز.
ومهما كانت عليه الأحوال، فإنّ ما أوردته البعثة في تقريرها يبيّن جزءاً من الأسباب التي تدفع، دورة بعد دورة، نسبة كبيرة من اللبنانيين إلى عدم التوجّه إلى الانتخابات، وهي جاورت هذا العام نسبة 58 بالمئة.
ويعطي هذا التقرير، على الرغم من محاولته الابتعاد عن إطلاق الأحكام الصارمة، أنّ ادّعاء “الثنائي الشيعي” بحصد جميع المقاعد المخصّصة للطائفة الشيعية في المجلس النيابي، ليس نتاج إرادة شعبية بقدر ما هو نتاج تزوير هذه الإرادة.
إنّ دولة تقبل بنتائج انتخابات أنجبتها المخالفات الجسيمة التي سجّلها اللبنانيون، بداية، والمراقبون الدوليون، لاحقاً، يستحيل أن تتمكّن من أن تسلك درب الإنقاذ، لأنّ المنقذ، والحالة هذه، سوف تختاره “زمرة” تمتهن الترهيب والضغط والتزوير وشراء الذمم بالمال والزبائنية وغسل الأدمغة.
نقلاً عن “النهار” العربي