ممدوح مكرم
في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي استطاع الرقيق الأبيض في مصر، والذين عُرفوا بالمماليك، الوصول إلى الحكم وإنهاء حكم سلالة الأيوبيين الأكراد.
والمماليك ليسوا من جنسية واحدة، فهم خليط من الأتراك والتركمان والشراكسة والتتر والروم والسلاف … إلخ.
استطاع المماليك الذين حكموا من 648- 923هـ/1250- 1517م توحيد مصر والشام والحجاز، وقد استطاعوا التحكم في طرق التجارة والمواصلات؛ خاصة بعد وقف الزحف المغولي في موقعة عين جالوت 658هـ، وتصفية الجيوب الصليبية الباقية في سواحل بلاد الشام.
وقد جنى المماليك ثروات طائلة سواء من التجارة المباشرة، أو ما يُفرض من ضرائب على تجارة الترانزيت المارة عبر السلطنة المملوكية.
واستطاع المماليك إقامة حضارة زاهرة؛ بسبب قوة ومتانة الاقتصاد المملوكي، ولكن هذه القوة بدأت تضعف شيئًا فشيئًا نتيجة ظروف موضوعية وذاتية سنفحصها في هذا المقال، ونعرف الأسباب الاقتصادية الكامنة وراء سقوط دولة المماليك المدوي على يد العثمانيين في العام 1517م.
إطلالة عامة على الأوضاع الاقصادية في العصر المملوكي
لا يمكن أنْ نفهم طبيعة أي نظام اقتصادي بدون فهمنا لطبيعة وبنية نمط الإنتاج السائد، وينصرف مفهوم نمط الإنتاج إلى أنه الطريقة التي ينتج بها الناس احتياجاتهم الضرورية والترفهية، ونمط الإنتاج يتحدد من خلال علاقات الإنتاج، وقوى الإنتاج، ووسائل الإنتاج.
علاقات الإنتاج: هي التي تنشأ بين الناس في ظل ظروف معينة، سواء أكانت علاقات مباشرة، أو علاقات غير مباشرة (من خلال السوق)، وقوى الإنتاج: هي المورد البشري الذي يقع عليه عبء عملية الإنتاج، ويتعرض بسبب وضعيته وفق نظام الملكية للاستغلال والقهر، وبمعنى آخر: قوى الإنتاج هم من ينتجون فائض القيمة (قد يكونون عمالاً أو فلاحين أو حرفيين)، أما وسائل الإنتاج فهي الأدوات الضرورية التي يستخدمها المنتجون (قوى الإنتاج) في عملهم.
هذا على مستوى البنية التحية للنمط، أما على مستوى بنيته الفوقية فيحتاج النمط إلى دولة (تنظيم سياسي) وأيديولوجية وتشريع، وغيرها من أبنية فوقية لتغطية الاستغلال السائد في بنية النمط وشرعنته.
وعندما نتحدث عن العصر المملوكي سنجد أن نمط الإنتاج السائد هو نمط الإنتاج الإقطاعي الشرقي، وهو تحول أو انحطاط للنمط الخراجي الذي ساد في مصر القديمة، ودول الشرق الأدنى والأقصى وأفريقيا، واستمر في العصور الإسلامية، حتى موجات الاجتياح التركي والمغولي منذ القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي.
ويُعرف هذا النمط من الإقطاع أيضًا بالإقطاع العسكري أو الحربي، ويعد الوزير نظام الملك وزير السلطان ملكشاه السلجوقي (عاش في القرن الخامس) من أدخل التنظيم الإقطاعي، حيث أقطع القواد والأمراء الأراضي بدلًا من إعطائهم مرتبات شهرية أو سنوية، وتعمَّق هذا النمط وانتشر مع الزنكيين، ثم الأيوبيين فالمماليك، وبحسب رؤية الدكتور إبراهيم طرخان في كتابه «النظم الإقطاعية في الشرق الأوسط في العصور الوسطى» فإن العصر المملوكي يمثل النموذج الأمثل لهذا النمط الاقتصادي – الاجتماعي.
وهذا النمط من التنظيم الاقتصادي والاجتماعي يمثل انحطاطًا للنمط المركزي الأكثر تقدمًا هو النمط الخراجي بحسب رؤية المفكر الاقتصادي الدكتور سمير أمين الذي نحت هذا المصطلح، ولم يلتزم باللوحة الخماسية الماركسية التي حددت طبيعة النظم الاقتصادية – الاجتماعية (مشاعية – عبودية – قنانة – رأسمالية – اشتراكية).
وإن كان أحمد صادق سعد في «تاريخ مصر الاقتصادي والاجتماعي في ضوء نمط الإنتاج الآسيوي» تحدث عن نمط إنتاج آسيوي.
بغض النظر عن لغط المسميات تبقى هناك سمات عامة لطبيعة وبنية هذا النمط نوجزها فيما يلي قبل أن ندلف للحديث عن الاقتصاد السياسي المملوكي، هذه السمات تتمثل في:
تكون الأرض مملوكة للسلطان وجنوده، وهو ما يُعرف في الفقه الإسلامي بملكية الرقبة.
وفي حالة مصر والشام نجد أنفسنا أمام مركزة الدولة والثروة في أيدي هذه الفئات الأجنبية، مع تهميش شديد للفلاحين الذين تكون وظيفتهم فلاحة هذه الأرض، وإنتاج الفائض الذي يتم نهبه من خلال الخراج وغيره من ضرائب ومكوس، سواء أكانت شرعية أم لا.
وكذلك تهميش الحرفيين الذين ينتجون فائض القيمة في المدن والحواضر.
والسمة الأخرى بسبب مركزية الدولة: هي قيامها بوظائف تنظيم الري والإشراف على الترع والخلجان والجسور، وقياس النيل؛ ليتم تحديد الخراج المضروب على الأرض وفق التقنيات المعروفة في العصور الوسطى. ونضيف سمة ثالثة وهي السخرة (ما يسميه صادق سعد بالعبودية المعممة) كظاهرة مصاحبة لهذا النمط.
وعليه نجد الهرم الاجتماعي يتكون من: المماليك (وهم في قمة الهرم)، وهناك العامة (عامة الشعب) وهم في قاعدة الهرم وقاعه العميق، وبينهم شرائح وسطى مثل رجال الدين والعلماء والتجار، مع العناصر البدوية التي شكلت قوة اجتماعية لا يستهان بها.
ولا يفوتنا فئات الحرفيين الذين يعملون في الإنتاج الصناعي والحرفي، وهم منضوون تحت لواء ما كان يُعرف بنظام الطوائف؛ أي لكل طائفة حرفية هيكلها التنظيمي كالنجارين مثلًا، ويكون شيخ الطائفة مسئولًا أمام السلطات عن طائفته، وعن جباية ما يُفرض عليها من ضرائب ومكوس وما إلى ذلك.
ونشير في نهاية تلك النقطة إلى وجود نظام القَبَّالة (الالتزام) كتقنية لجمع الضرائب والمكوس، وهو لا يقتصر فقط على الأرض، بل امتد إلى أنشطة اقتصادية أخرى.
يعني نظام الالتزام: أن يلتزم رجل دين أو عالم أو تاجر كبير أو أمير … إلخ بسداد الضرائب والخراج والمكوس كاملة للخزانة، على أن يتم جبايتها بمعرفة الملتزم أضعافًا مضاعفة من الموردين (سواء فلاحين أو حرفيين أو غيرهم من الفئات المنتجة)، مما أوجد أقسى وأبشع درجات الاستغلال والقهر.
وفي هذا الصدد يقول صادق: آ. آشتور في «التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للشرق الأوسط في العصور الوسطى»: «كان المماليك أجانب يحكمون ملايين الناس الذين استبعدوا من المراتب العليا في الهرم الإقطاعي.
ولم تكن لهم مصلحة في تطور القوى الاقتصادية لبلدانهم، وبالتالي تدنى حكمهم إلى الاستغلال الشرس؛ الذي خَرَّبَ الأقطار المزدهرة سابقًا».
قطاع الزراعة
تمثل الزراعة العصب الرئيسي في النمط الإقطاعي؛ بسبب أنَّ الأرض هي الوسيلة الرئيسية لإنتاج الثروة، وكان يتم الاستثمار في الأرض إما بشكل شخصي، أي يقوم المالك – في المساحات الصغيرة – برعاية الأرض بنفسه بمشاركة أفراد أسرته وعائلته.
وهناك نظام المزارعة، حيث يتشارك المالك والمزارع في استغلال الأرض، بموجب عقد يحدد كيفية ذلك.
وهناك نظام المساقاة حيث يتم دفع الشجر لمن يقوم بسقيه وتعهده (وهذا النظام مرتبط بالبستنة أساسًا)، وهناك أنظمة أخرى عرفها العصر المملوكي تتعلق باستغلال الأرض، ولكن يبقى الأساس ملكية الأرض للسلطان؛ وهو يوزعها كإقطاعات على سائر الأمراء والحاشية، يتم استغلالها من قبلهم وفق الأنظمة المشار إليها والاستفادة من ريعها للإنفاق على شراء المماليك، والسلع الفاخرة، وتجهيز الجيوش، وبناء المنشآت والعمائر.
وقد تعددت المحاصيل، كان من أهمها الحبوب وعلى رأسها القمح والشعير والذرة، وهذه المحاصيل تمثل النواة الصلبة للنظام الغذائي في عموم مناطق الشرق الأوسط في العصور الوسطى. وهناك محاصيل تُعتبر سلعية مثل قصب السكر والقطن والكتان والنيلة.
بالإضافة إلى الخضروات، مثل: الملوخية والبامية، والبازلاء، والبصل والثوم.
والفواكه، مثل: الرمان والخوخ والتوت والعنب والبطيخ … إلخ. كانت الزراعة تعتمد على فيضان النيل بشكل أساسي، وما يرتبط به من شبكة الترع والريَّاحات، وكان يتم استخدام أدوت لم تتغير في تقنيتها عن أدوات الزراعة في مصر القديمة مثل الشادوف في الري، والفأس والمحراث البلدي في تقليب الأرض، والنورج والمذراة في الدرس، والمنجل في الحصاد، وكانت الحيوانات من الأدوات الأساسية في الزراعة مثل الثيران والحمير.
كما تكونت ثروة حيوانية أهمها الأبقار والجاموس والأغنام والماعز، بالإضافة إلى الدواجن (قد عُرف تفريخ الفروج منذ العصر الأيوبي) كما أشار الرحالة عبد القاهر البغدادي إلى ذلك في كتابه الإفادة.
القطاع الصناعي
أتاحت فترة الازدهار في عصر دولة المماليك البحرية، خاصة بعد هزيمة المغول وتصفية ما تبقى من الجيوب الصليبية، وجود صناعات كان لها قصب السبق، وكانت المنتجات تصدر إلى أوروبا.
من هذه الصناعات: صناعة الغزل والنسيج التي تعتمد على القطن والكتان، والحرير، وكانت دمياط وتنيس مثلًا من المراكز الصناعية الكبرى.
كما كان هناك صناعة الزجاج والصابون، والسياج، ومشغولات الأرابيسك وتكفيف النحاس، والحُلي.
وكان لصناعة السكر نصيب كبير في العصر المملوكي، حيث تمركزت في دمياط وفوه وملوي، وكانت مزدهرة طوال القرن الثامن، ويتم التصدير إلى البندقية وجنوة ومرسيليا وغيرها. ويعود سبب ازدهار صناعة السكر إلى استثمارات كبار الأعيان والتجار والأغنياء في إنشاء مصانع السكر، بل إن بعضهم امتلك فيما يقارب الـعشرين مصنعًا أو أكثر.
وهناك الصناعات المحلية التي تخدم الزراعة، وهي في الأرياف مثلًا: مثل الحبال، والصناعات الكمالية التي تشبع شره الاستهلاك مثل النحاس المكسو بقشرة الفضة. وصناعة السروج المطلية بالذهب. وهناك صناعات الورق والزجاج والمصابيح الزجاجية.
ومن الصناعات الأخرى التي ارتبطت بالعصر المملوكي وتحديدًا الجيش: صناعة السفن؛ لما لها من أهمية مزدوجة عسكرية وتجارية.
القطاع التجاري
لا حظ أحمد صادق سعد أن ثمة تناقضًا بين ازدهار التجارة الخارجية للمماليك، والتدهور البطيء والركود الذي أصاب الاقتصاد المملوكي، كما سنعرف لاحقًا.
كانت التجارة الخارجية تمثل النشاط الرئيسي في العصر المملوكي الجالب للثروات الطائلة خاصة تجارة البهارات والتوابل؛ التي تمتعتْ بأهمية عالمية بالغة.
فعوامل الاستمرار والركود في النظام المملوكي بالإضافة إلى خصوبة الأرض المصرية وسهولة استغلالها، كانت التجارة العابرة تشكل العامل الثاني في عملية الاستمرار، تمتعت مصر بسبب موقعها بأهمية بالغة بالنسبة للسفن التجارية القادمة من البحر المتوسط، والقادمة من الشرق الأقصى، وكانت تُفرض العشور على هذه التجارة العابرة (ترانزيت) وهو ما ساهم في تكوين ثروات ضخمة للمماليك.
وكانت هذه التجارة البعيدة تعويضًا عن الضعف الذي أصاب قطاعي الزراعة والصناعة؛ بسبب قلة الاهتمام بهما، خاصة مع بداية دولة الشراكسة.
كانت تجارة التوابل والبهارات أهم السلع، فضلًا عن المنسوجات والورق، والمواد الغذائية.
الأزمات الاقتصادية في العصر المملوكي: العوامل والأسباب والمظاهر
الأسباب الطبيعية للأزمات الاقتصادية: عندما نتحدث عن أزمات اقتصادية في أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية علينا أن نأخذ في الاعتبار الأسباب الطبيعية لتلك الأزمة؛ لأن الإنسان في هذه الأنماط لم يكن يستطيع السيطرة على الطبيعة بسبب ضعف وتخلف التقنية من جهة، وتخلف القوى المنتجة وبنية الاقتصاد الطبيعي من جهة ثانية، حيث لم يكن التعامل السلعي والإنتاج من أجل الربح متجذرًا رغم أنه كان موجودًا، ولكنه ليس هو العامل المهين؛ ولذا كان الإنتاج بقصد الإشباع والاستهلاك المحلي، خاصة لدى النخب والشرائح العليا في الدولة.
ومن هنا لا يخرج نمط الإنتاج الإقطاعي الشرقي – بوصفه نمط ما قبل رأسمالي – عن هذه القاعدة، وبالبحث عن الأسباب الطبيعية سنجدها تمحورت حول: زيادة أو نقص النيل (بوصفه عصب الحياة في مصر طوال عصورها ولا زال)، مع انتشار الآفات الزراعية والفئران، وانتشار الأمراض والأوبئة الفتاكة التي كانت تودي بحياة عشرات الآلاف، وحدوث الصواعق والزلازل وغيرها.
في الجدول الإحصائي الذي وضعه الدكتور عثمان علي محمد عطا في كتاب «الأزمات الاقتصادية في مصر في العصر المملوكي» [ 648/1250هـ – 923/1517م) بلغ عدد الأزمات طوال هذا العصر 81 أزمة، لم تخرج أسبابها الطبيعية عما ذكرناه.
واللافت للنظر أيضًا زيادة الأوبئة في العصر المملوكي خاصة شقه الثاني (المماليك الشراكسة)، فأحصى كاتب المقال – وحسب المقريزي في الدراسة المشار إليها – ما يقارب 32 وباءً حتى عصر المقريزي المتوفي 845هـ، على مدى 138 سنة هجرية (148 سنة ميلادية) وهي تمثل 72% من أوبئة العصر المملوكي حتى وفاة المقريزي (32 وباءً من 44 وباءً) حتى قرابة نهاية العقد الخامس من القرن التاسع الهجري.
ويشير كاتب المقال في دراسته (الأوبئة في كتابات المقريزي) أن المقريزي أحصى عشرين أزمة سببها الأكبر نقص الفيضان، والقليل منها ارتبط بالاضطرابات السياسية التي تحدث من آن لآخر.
أسباب متعلقة ببنية الاقتصاد المملوكي
لا يمكن فهم تلك الأسباب البنيوية بدون فهمنا لعمل القطاعات الاقتصادية، وسياسات الدولة النقدية والمالية، ومستوى المعيشة السائد. وهذا تفصيله:
قطاع الزراعة
تأثر قطاع الزراعة بثلاثة عوامل أساسية (حسب ما ساق الدكتور عثمان عطا في دراسته القيمة: الأزمات الاقتصادية في مصر في العصر المملوكي) تتلخص في: كثرة وقوع الأمراض والأوبئة،
هروب الفلاحين من القرى بسبب كثرة الضرائب والعمل بالسخرة، كثرة وتكرار هجوم العربان على القرى ونهبها.
وقد ترتب على ذلك تناقص عدد القرى في مصر: كان في العام 257هـ/ 870م: 2395 قرية، وصل العدد عام 837هـ/ 1433م إلى 2170 قرية.
وتناقصت الرقعة الزراعية التي كانت تبلغ في العصر الطولوني (254-292هـ) مليون فدان، وصلت في سنة 807هـ/ 1403م إلى 250 ألف فدان.
وبسبب الأوبئة والطواعين وصل عدد الفلاحين في القرن التاسع 12 ألفًا، في حين في سنة 715هـ/ 1315م كان 48 ألفًا.
ومع تراكم الأزمات سيؤدي ذلك لانهيار قطاع الزراعة، وهو ما يفسح المجال للانهيار الاقتصادي كمقدمة للانهيار السياسي فالعسكري.
قطاع الصناعة
لم تنج الصناعة من التدهور البطيء الذي بدأ منذ مطالع القرن التاسع الهجري مع المماليك الشراكسة/ الجراكسة.
فمثلًا صناعة السكر: كان عدد المصانع في القاهرة وحدها 66 مصنعًا، لم يبقَ منها في القرن التاسع سوى 16 مصنعًا.
وفي الفسطاط لم يبقَ إلا 19 مصنعًا من 58 مصنعًا (الأرقام من آشتور والمقريزي).
كما أصاب التدهور صناعة النسيج، يتحدث المقريزي عن عدد النساجين في الإسكندرية (بوصفها ضمن المراكز الصناعية والتصديرية)، عام 791هـ/ 1388م (14 ألف نسَّاج)، تناقص العدد عام 837هـ/ 1434م إلى 800 نسَّاج.
وبسبب تدهور صناعة النسيج المحلية: أصبح السوق مفتوحًا لمنتجات النسيج الأوروبية.
ولم تسلم الصناعات الكمالية من الأزمات، وهي في العموم راجعة لطريقة تعامل الدولة المملوكية من خلال سياسات الضرائب والمكوس الجائرة، والمصادرات، واحتكار السلع من قبل السلاطين والأمراء، مما فاقم الأزمات وباتت هاوية السقوط قريبة.
قطاع التجارة
لم يسلم قطاع التجارة هو الآخر من التدهور، وكان أصل ازدهار قطاع التجارة هو نتيجة لتدهور الزراعة والصناعة مع مطلع القرن التاسع الهجري (أي بدايات حكم السلاطين الشراكسة/ الجراكسة).
وترجع أسباب التدهور إلى زيادة الضرائب والمكوس، ومصادرات أموال التجار بحق وبدون، ودخول السلاطين والأمراء على خط احتكار السلع وفيها السلعة الاستراتيجية الأهم التوابل والبهارات.
وقد أدى ذلك إلى بحث تجار أوروبا عن طريق تجاري جديد لا يمر بمصر، فكان اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح في مطلع القرن السادس عشر، وهو ما أدى إلى انخفاض إيرادات الدولة، وكساد الأسواق، مما ساهم في مفاقمة الأزمة الاقتصادية وكانت الدولة تلفظ أنفاسها الأخيرة.
وقد تمظهرت أزمة التجارة في قلة الدكاكين وتناقص الأسواق، فحسب المقريزي في الخطط: كان بمدينة مصر والقاهرة الشيء الكثير، باد أكثرها، فمثلًا يذكر أنه كان ما بين أرض اللوق إلى باب البحر 52 سوقًا في كل سوق ما يقرب من ستين حانوتًا حسب ما أورده في الخطط. وقد ترتب على ذلك دخول السلع الأجنبية وزيادة الاستيراد، وهو ما كان مدخلًا لأزمة العملة.
أزمة النقد المملوكي
لا يمكن فهم بنية الأزمة الاقتصادية بدون فهم أزمة العملة في العصر المملوكي، تعرضت العملة الممملوكية لأزمة عنيفة بعد إصدار ما بات يُعرف بالفلوس كبديل أو إلى جانب الدينار الذهبي والدرهم الفضي؛ وسبب ذلك يعود إلى قلة ونضوب كل من الذهب والفضة؛ فكان اللجوء إلى النحاس ليكون قاعدة نقدية ومالية؛ وتفاقمت الأزمة مع منافسة شرسة للعملات الأجنبية، وخاصة الدينار البندقي المعروف بالأفرنتي.
وبدأت بوادر الأزمة في سلطنة الناصر فرج بن برقوق سنة 806هـ/ 1403م.
وكان تزييف العملة سمة سائدة عصرئذٍ والغش في أوزانها كما حدث إبان سلطنة المؤيد شيخ المحمودي عام 821هـ/ 1418م.
وكان الاضطراب الأكبر في زمن سلطنة الغوري، حيث كانت العملة مغشوشة بالنحاس، حسبما أشار صمويل برنار في الجزء المتعلق بالموازين والنقود في وصف مصر.
أزمة النقد هي جزء من سلسلة الأزمات الاقتصادية المتراكمة التي اتخذت مظاهر عدة، من أبرزها: ارتفاع الأسعار والتضخم شبه الدائم، وحدوث المجاعات، وتدهور العمران، وتناقص السكان، وتخلخل البناء الاجتماعي، وانتشار السلبية والخرافات واليأس في الأوساط الشعبية، بما يعني تفسخ المجتمع على كل مستوياته.
الانهيار
بالإضافة لما سبق يحدد أحمد صادق سعد الانهيار بسبب طبيعة التكوين الاقتصادي الاجتماعي السائد في مصر (نمط الإنتاج الآسيوي/ الخراجي)، حيث يوجد بداخله عوامل انهياره كما رأينا في الفقرات السابقة.
ومن ثم يكون الانهيار نتيجة لتراكم أزمات متعاقبة، بطيئة في بدايتها، وتتسارع بشكل درامي قرب النهاية المدوية.
وكما عَبَّرَ آشتور في كتاب «الانهيار الاقتصادي أحد الأسباب الرئيسية للسقوط السياسي والعسكري»، وبذا يكون سقوط المماليك في عام 1517م، بعد موقعة الريدانية (العباسية)، هذا الانهيار العسكري كان نتيجة للانهيار السياسي، الذي بدوره كان نتيجة ومقدمة في نفس الوقت للأزمات الاقتصادية المتراكمة في بنية السلطة المملوكية.
نقلاً عن “إضاءات”