جوان ديبو
تأتي الحرب لتضاعف مآسي الشعوب لكنها تتحرك وفق مؤامرات الساسة الذين جعلوا الحرب جريمة منظمة تشنها الدول العظمى للحفاظ على نفوذها ولتحقيق المزيد من الأرباح، فاستقرار الواحدة منها مرهون بإثارة الأزمات والنزاعات العسكرية في مناطق نفوذ الآخر وأحيانا قد تكون الصراعات الظاهرية هي مجرّد توافقات في الخفاء حملت القوى العظمى إلى التصارع عبر وكلائها، وتحقيق مصالح مشتركة.
عندما يتحول سيناريو الحرب إلى واقع الحال في بقعة جغرافية معينة من العالم، عندها يساور الذهن سؤال مفاده: هل كان بالإمكان تفادي سيناريو الحرب وإحلال الحوار والسلام بدلا منه؟
وبالرغم من خضوع جواب هذا السؤال المحوري والأسئلة الفرعية التي قد تتناثر منه إلى مبدأ النسبية، إلا أن الجواب بإيجاز وفي المضمون هو النفي. والسبب هو أن اندلاع الحروب، وخاصة في الأطراف أو في أطراف المراكز، وليس في المراكز نفسها، مع ضمان التحكم فيها إلى حد ما من قبل اللاعبين الكبار، يخدم أجندات وسياسات القوى العظمى، سواء المنخرطة فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، بينما لا تجني القوى العظمى الكثير من الخيار النقيض، أي إشاعة السلام والاستقرار والازدهار في الأطراف أو لدى القوى المنافسة.
الغاية من هذا الكلام ليست الانتقاص من أهمية العوامل الداخلية التي تساهم في بلورة وإنضاج أسباب نشوب الحروب في بلد يشهد حربا أهلية مثل سوريا أو نزاعا مسلحا مع دولة مجاورة مثل أوكرانيا. كذلك الهدف من هذا السرد الخاطف ليس الإيمان المطلق بنظرية المؤامرة التي عادة ما تحاك من قبل اللاعبين الكبار، إما ضد اللاعبين الصغار أو ضد الكبار المناوئين والمنافسين لتأمين حزمة جديدة من المصالح المشيدة على أنقاض أوطان الآخرين وبدماء الآخرين. وإنما المقصود هنا هو تسليط الضوء على مساهمة القوى العظمى في صناعة الحروب وأحيانا تفردها في صناعتها وتهافتها دون كلل أو ملل إلى توتير المتوتر وخلق بؤر توتر جديدة. والسبب لأن ذلك يدر عليها أرباحا طائلة ومصالح جديدة لم تكن في الحسبان، وهذا مؤداه المزيد من القدرة على تسيّد المشهد الدولي على أمل تحقيق الهيمنة التي تعتبر ديدن القوى العظمى ومحركها.
المسألة بالنسبة إلى القوى العظمى هي عملية حسابية صرفة تخضع لحسابات الربح والخسارة، وما المساعي الدؤوبة والفاشلة لتغليف بعض الحروب، كالأوكرانية مثلا، بحيثية السيادة وبروباغندا الأفكار والأيديولوجيات والأخلاقيات والسلم والقانون الدولي وما شابه ذلك سوى بدع وهرطقات ابتكرتها القوى العظمى كالولايات المتحدة لتسويغ وتسويق صناعة الحرب. بمعنى، إذا كانت الحروب تدر أرباحا على الدول العظمى تفوق ما قد يمكن جنيها من السلام والاستقرار بأضعاف مضاعفة، كما هو واقع الحال في أوكرانيا كمثال، فهذا يعني نعم وألف نعم لاندلاع الحروب ولديمومتها ولا وألف لا للعكس، أي المفاوضات والسلام والاستقرار.
ولذلك يمكن تلخيص ووصف تاريخ السياسات الخارجية للقوى العظمى، ولاسيما الولايات المتحدة على الشكل الآتي: إدارة الأزمات الدولية والإقليمية الموجودة ومنعها من التسوية قدر المستطاع على نحو يتماشى مع مصالح الكبار أو خلق وافتعال أزمات جديدة تحت اشراف اللاعبين الكبار أو وكلائهم المحليين لضمان الربح والاستغلال والهيمنة.
بالنسبة إلى القوى العظمى، وخاصة الولايات المتحدة، فإن عدم الاستقرار في الأطراف أو في أطراف المراكز أو لدى القوى العظمى المنافسة يعني المزيد من الاستقرار والازدهار لدى واشنطن وحلفائها. وهذا يقودنا إلى الكشف عن المدماك الأساسي في منظومة ما تسمى بالعلاقات الدولية وهو الحفاظ على الأزمات الدولية والإقليمية الموجودة وخلق المزيد منها باستمرار من قبل القوى العظمى المهيمنة التي تفرض نظامها الخاص على بقية العالم وتسميه ببساطة بالنظام الدولي. وما المنظمات والمؤسسات الدولية الغربية أو الأميركية سوى واجهات وآليات لتجميل قباحة منطق أو لامنطق العلاقات والسياسات الدولية.
هذا المنطق أو بالأحرى اللامنطق الأعوج السائد في العلاقات الدولية يدفعنا إلى التفكير والتفكر ملياً في المأساة التي تعيشها منظومة ما تسمى بالعلاقات الدولية المبنية منذ فجر التاريخ على القوة والتسلط والاستغلال المباشر وغير المباشر وصولا إلى الهدف الأسمى وهو الهيمنة من خلال ما يمكن تسميته بجريمة صناعة الحرب المنظمة لإثارة المزيد من الفوضى في النظام الدولي الفوضوي أصلا وتأمين فرص جديدة من التوسع لارتواء ظمأ الهيمنة الذي لا يهدأ. والهدف هنا هو إضعاف الضعفاء أصلا وإلهاء الأقوياء واستنزاف قدرات المنافسين.
في هذا السياق يقول عالم الاجتماع الأميركي تشارلز تيلي في بحثه (صناعة الحرب وصناعة الدولة بوصفها جريمة منظمة) “في هذه الظروف تصبح الحرب هي الشرط الاعتيادي للنظام العالمي للدول، والوسيلة الاعتيادية لأن تحسّن دولة ما موقعها أو أن تدافع عنه في هذا النظام”.
وهذا ما حدا بتيلي إلى الاستنتاج بأن العنف واحتكاره هما اللبنة الأولى في ظهور الدولة/الأمة الحديثة في أوروبا وليس العقد الاجتماعي الحر والأفكار والفلسفات كما يروج لذلك. وكنتيجة، يصل تيلي إلى خلاصة توضح أن مخاض ولادة الدولة الوطنية الحديثة في أوروبا لا يتباين كثيرا عن كيفية ظهور وعمل عصابات الجريمة المنظمة. ومن هنا جاءت مقولته الشهيرة “الحرب صنعت الدولة، والدولة صنعت الحرب”.
عند إسقاط كُنْه هذه الفرضية على الحالة الأوكرانية، أي تورط الدول، ولاسيما العظمى منها في صناعة هذه الحرب وتأجيجها بغية الاستفادة وتحقيق المزيد من الهيمنة غير المشروعة كتجسيد لقانون الغاب السائد في العلاقات الدولية، تتبدى لنا صوابية وواقعية أطروحة تيلي إلى حد بعيد. الحالة الأوكرانية كشفت عن نوايا الرابحين الأقوياء المشاركين في صناعة هذه الحرب وتأزيمها المتعمد بهدف تسيّد المشهد الدولي بجوانبه الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والعسكرية. هؤلاء الرابحون الذين ساهموا في صناعة هذه الحرب ومازالوا يذكون نارها ليكتوي بلهيبها ومخلفاتها الخاسرون الضعفاء أو الأقل قوة، سواء من الخصوم التاريخيين أو حتى من الحلفاء.
والاستنتاج السوداوي هنا هو أنه لا يمكن تخيل عالم بلا حروب أو لا يمكن تصور عدم تهافت القوى العظمى نحو صناعة الحروب لأن الحروب في هذه الحالة تتحول إلى ركيزة جوهرية لدى القوى العظمى على المستويين الدولي والإقليمي لتحقيق مقاصد الاستغلال والربح والهيمنة. وبالتالي إلى سمة من سمات النظام، أو بالأحرى، اللانظام العالمي. ومن هنا جاءت مقولة العالم البريطاني جوزيف جون طومسون داحضاً مزاعم كانط “لم تسع البشرية يوماً إلى السلام بل إلى هدنة بين حربين”.
ولا تستطيع القوى العظمى العيش والبقاء بدون حروب وأزمات في الأطراف وأطراف المراكز أو حتى داخل القوى العظمى المناوئة لأن الحروب تعتبر وقودها للبقاء والديمومة، لا بل يمكننا القول بأن المهمة الرئيسية المنوطة بالقوى العظمى هي خلق الأزمات والحروب وليس حلها كما تحاول إيهام البشرية بذلك عبر إعلامها المضلل. القوى العظمى نفسها، وهي عظمى بقوتها، لم تصبح عظمى إلا بعد أن غزت واجتاحت واحتلت وقتلت ونهبت وأحرقت وأبادت، أي أصبحت عظمى على حساب تعاسة ومآسي الآخرين. وما هو أكثر بشاعة من كل هذا وذاك هو أن تتحول صناعة الحروب من قبل القوى العظمى إلى جريمة منظمة وشرعية وفق شريعة الغاب السائدة التي فرضها الأقوياء المتوحشون كما يقول تيلي “إذا كان جني الإتاوات بالبلطجة يعد أنعم أشكال الجريمة المنظمة فإن صناعة الحروب وبناء الدول -والتي تقوم بنفس النشاط متحصنة بمزية الشرعية- يجوز اعتبارهما أهم الأمثلة على الجريمة المنظمة”.
المصدر العرب