محمد صلاح
كان طبيعياً أن تحظى زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمنطقة ولقاؤه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان وقادة دول مجلس التعاون ومصر والأردن والعراق، باهتمام وسائل الإعلام وتغطية موسعة من قنوات التلفزيون، لكن لم يكن طبيعياً أن يمر حدث مهم آخر يتعلق بمستقبل تنظيم “الإخوان” الإرهابي من دون أن تلتفت اليه غالبية الوسائط الإعلامية.
صحيح أن صراخ “الإخوان” وعويلهم لم يتوقف وعبروا عن صدمتهم من نتائج زيارة بايدن، وهم الذين رسموا أحلاماً بضغوط أميركية على الزعماء العرب لتخفيف الضغوط على التنظيم وإطلاق المتورطين بالإرهاب من زعمائه وأعضائه من السجون، لكن بدا وكأن الجماعة حاولت أن تجذب أنظار الإعلام بعيداً من مأساتها الداخلية، بعدما تفاعلت الأزمة التي تضرب التنظيم منذ سنوات ووصلت الأسبوع الجاري حد إعلان جبهة إسطنبول في التنظيم عن فصل أعضاء قدامى واخراجهم من عباءة “الإخوان”، وذلك رداً على قرار جبهة أخرى يقيم غالبية عناصرها في لندن بقيادة إبراهيم منير، تشكيل مجلس شورى للتنظيم لا يضم المقيمين في إسطنبول.
ويقود جبهة إسطنبول محمود حسين الذي أعلن في بيان “فصل إبراهيم منير، زعيم جبهة لندن، نهائياً من الجماعة” وكذلك قيادات أخرى، وذكر البيان أن “مجلس الشورى بحث الممارسات الفردية والإجراءات غير المؤسسية التي يقوم بها بعض الإخوة في محاولة لفرض واقع جديد وإنشاء كيانات موازية للكيانات الشرعية بالجماعة، وأن “الجماعة تأخرت في الإعلان عن هذه القرارات لإعطاء الفرصة لنجاح مبادرات للحفاظ على وحدة الصف إلا أنها كسابقاتها لم تجد آذاناً صاغية”.
وحذرت الجبهة من أن “أي كيان لا يلتزم بقرارات مجلس الشورى فهو غير منتمٍ للجماعة”، معتبرة أن إبراهيم منير، عضو المجلس “لم يلتزم قرارات مؤسسات الجماعة الشرعية وشكل كيانات موازية بعيداً من هذه المؤسسات، فيكون قد أعفى نفسه من جماعة “الإخوان المسلمين”، وعليه لم يعد يمثل الجماعة أو يعبر عنها”.
وقررت الجبهة كذلك فصل أعضاء آخرين من بينهم، أحمد شوشة وأسامة سليمان وحلمي الجزار، وعبد الله النحاس ومحمد البحيري ومحمد الدسوقي ومحمد جمال حشمت ومحمد طاهر نمير ومحمد عبدالمعطي الجزار ومحمود الإبياري ومحيي الزايط ومسعد الزيني ونجيب الظريف. وقررت الجبهة تمديد فترة عمل الدكتور مصطفى طلبة القائم بعمل المرشد لمدة 6 أشهر أخرى.
لا تنتظر هنا من أي من المتنافسين على السلطة والنفوذ والتمويل من قادة وأعضاء الجهتين أن يقر أي من أعضاء الفريقين بجرائم التنظيم أو يعتذر عنها أو يعترف بأن الجماعة فقدت شعبية ظلت تتمتع بها لنحو قرن كامل أو أنها حين حكمت مصر نكلت بالمعارضة وتآمرت على الوطن، بل كان على يقين أن الجبهتين ستتنافسان على حبك الأكاذيب وتزوير الحقائق واستخدام اللغة الأكثر انحطاطاً لوصف الأحداث والتطورات في مصر ودول عربية اخرى.
لم ينسَ الناس بعد أن “الإخوان” سعوا باسم الدين والشرع والشرعية إلى تثبيت أركان حكمهم لمصر على مدى سنة كاملة، لكن التيار ضدهم كان أقوى من خطابهم السياسي واستخدامهم للدين ولعبهم على وتر “الإسلام هو الحل”، فأزاحهم الشعب عن الحكم بعدما رأى الدولة تتفكك والمؤسسات تنهار والحدود تستباح، وباسم الدين والشرع والشرعية انشطر التنظيم نتيجة تنازع جناحين داخل جماعة “الإخوان” الآن وكلاهما يروج أنه الأقوى بالشرع والأحق بالشرعية والأكثر تمسكاً بالدين!
وصف “الإخوان” ما جرى في حزيران (يونيو) 2013 بالانقلاب ولم يتوقفوا عن الترويج لشعار “رابعة”، باعتباره معادلاً للانقلاب وبديلاً عنه ومذكراً بالمحنة التي عصفت بهم والحكم الذي كان في أياديهم وانتُزع منهم، ولم تتوقف وسائل إعلام الجماعة والقنوات الداعمة للتنظيم التي تبث من خارج مصر عن إلصاق صفة “الانقلابيين” بكل من أيد عزلهم عن الحكم، فصار التنظيم الآن يعاني انقلاباً في هيكله التنظيمي وبنائه الحركي ومستوياته القيادية، لأن رموز الجماعة أدمنوا ترداد لفظ “الانقلاب” فبدأوا في استخدام الصفة نفسها للإشارة إلى ما جرى داخل التنظيم. وما يثير الدهشة أن الأسلوب الذي أتبعه الجناحان المتصارعان داخل التنظيم في التعاطي مع الأوضاع في مصر بعد 30 حزيران (يونيو) 2013 هو نفسه الذي يتبعانه الآن في إدارة المعركة بينهما!.
وقائع الانقسامات داخل جماعة “الإخوان المسلمين” سببها الأساسي تنافس على الزعامة بين قادتها خارج السجون، والصراع ليس بين “إخوان” الداخل والخارج وإنما بين جناحين متداخلين. قد تكون كل تلك التفاصيل بعيدة من اهتمام المواطن العادي في مصر، لكن الباحث والمدقق في تاريخ وأفعال “الإخوان” يدرك أنها المرة الأولى التي يجد فيها الجماعة تترنح تحت وطأة خلافاتها بينما الدولة المصرية تترسخ.
يدرك قادة التنظيم الإرهابي في الجبهتين أن الحفاظ على تغييب الوعي لدى الأعضاء مهمة لا يمكن التغاضي عنها، ولذلك فـ”الإخوان” ضد الدولة المصرية على طول الخط، وسيبقون كذلك، ولن يُقروا أبداً بسلامة أو صحة أو فائدة قرار أو إجراء أو تصرف، لذلك فهم في وادٍ بينما الشعب على الجانب الآخر! أما لماذا سوقوا لأعضائهم أن بايدن سيأمر القادة العرب بمنح تنظيم “الإخوان” فرصاً أخرى، فيكفي للإجابة عن السؤال الإشارة إلى نماذج من ألوان السلوك “الإخواني” في مواقف مختلفة لإدراج حجم التناقضات والمواقف بحسب المصالح، فعندما عزل محمد مرسي، المشير حسين طنطاوي وأتى بالسيسي وزيراً للدفاع وصفه “الإخوان” بأنه “وزير دفاع بنكهة الثورة” لكن حين استجاب السيسي لثورة الشعب على “الإخوان” وساهم في عزل مرسي، قالوا إنه “صناعة أميركية”… بطبيعة الحال لم يقف التناقض عند هذا الحد، إذ عندما أعلن السيسي مشروع “قناة السويس الجديدة” صرخ “الإخوان” وادعوا أنه “مشروع مرسي” نفسه، وبعدها وفي سبيلهم إلى إحباط الشعب قالوا “مفيش فلوس وحيبيع المشروع للإمارات”.
وحين دعا السيسي الشعب إلى المساهمة في التمويل سخر “الإخوان” وروَّجوا بأن المصريين لن يساهموا، ورداً على طوابير الراغبين في التمويل أمام البنوك جاء “الإخوان” يحذرون الناس من أن الرجل “يبيع لهم الوهم”، وحين بدأ الحفر قالوا إن المشروع سينهار، ومع كل مشروع جديد أو خطاب للسيسي أو زيارة لزعيم عربي أو الإعلان عن استثمارات عربية في السوق المصرية يجيّش التنظيم عناصره للاصطياد والكذب ونشر الطاقة السلبية بين الناس ومنعهم من الاحتفاء أو الاحتفال أو التعبير عن رضاهم تجاه الحكم أو نجاة مصر من الإرهاب.
نقلاً عن “النهار” العربي