رشيد الخيون
انتشر مؤخراً فيديو لطالبة طِب، تتحدث تحت قبة ضريح الشَّريفة بنت الحَسن، وما كنَّا نتصور أنَّ حال الطِّب العِراقي يصل إلى حمل طلبة الطِّب أوراق دراستهم إلى التي سموها بـ«طَبيبة المعلولين».
تسأل المذيعة الطَّالبة عن دور الشَّريفة في غرف الدراسة والعمليات، فتؤكد حضورها مع الجراحين! يتصل هذا التدهور، غير المسبوق، بجرأة رجل الدين على الإفتاء في الطب، ولا يَقدم على ذلك إلا قناعتهً بنزول الإلهام الرباني عليه، فهو مسموع عند الجموع، يجيب على أسئلة تخص التشريح، وزرع الأعضاء، وتبديل الدماء، والاستفسارات تأتيه مِن أطباء، تخرجوا بفتواه «إباحة الغش في المدارس»، وإذا رأيت انتشار كتب الطب المجموعة مِن أخبار القصاصين، فلا الأنبياء ولا الأئمة كانوا أطباءً، انتشار الكتب التي صنفها مَن أراد الأتباع لا يخرجون عن ظل عباءته بصحتهم ومرضهم، وصيدليات الأرصفة أكثر مِن صيدليات المستشفيات، ينبئ أنَّ النَّاس حيارى بعللهم كافة. قرأتُ كتاباً للكاتب المصريّ سيد عويس «ظاهرة إرسال الرَّسائل على ضريح الإمام الشَّافعي» (القاهرة: 1978)، بينها طلب وظيفة أو تأثير على محكمة، أو قُرب الحبيبة أو الحبيب، لكنَّها لم تخرج عن قبة الضَّريح، مارسها بسطاء الناس.
كانت الظاهرة موجودة في أضرحة العراق، مَن يرمي بطلبه مِن شباك الضَّريح.
لم تدخل تلك الممارسات المؤسسات التعليميّة والعلميّة، كان المانع صارماً، فعندما قام الرَّئيس الأسبق أحمد حسن البكر(ت:1982) بتعمير ضريح الحمزة الغربي، وتقديم الزّيارة في الأخبار الرَّسميَّة، والغرض، مثلما شاع، للاستشفاء، بنصيحة أو منام، لكنَّ لم يُدخل البكر بركات الحمزة إلى كلية الطب، فقد ظلت طب بغداد مهيبة عالمياً.
كان ضريح الشريفة معروفاً بالأرياف، مع اعتقاد أنَّه «غير معلوم»(حرز الدِّين، مراقد المعارف)، لكنّ بعد ترييف المدن صارت كراماتها على كلِّ لسان، يقصده طلبة الطّب تشفعاً. يسر إغماء العقل العِراقيّ القوى الدِّينية، بما يساعدها على النُّفوذ، ولم تُسأل عن الميزانيات الانفجاريّة أين صُرفت! يبدو أنَّ إشاعة ثقافة الضّريح كانت ثمرة مقولة أحد الدُّعاة «إعادة تشكيل العقل العراقي»!
فالدُّعاة، كلّ منهم يعتقد نفسه مقصودَ أبي تمام(ت:231هج): «هيهاتَ لا يأتي الزَّمان بمثله/ إنَّ الزّمانَ بمثله لبخيلُ»(الظّاهري، كتاب الزَّهرة). بعد ظهور طبيبة المعلولين بهذا الزّخم، نتخيل ابن سينا(ت: 427هج) والفارابي(ت: 340هج)، والكندي(ت: 256هج)، والفلاسفة الأطباء الذين تلقوا تعليمهم ببغداد، قد استقالوا طائعين، بعد أنْ عاشوا قبل ألف عام على الأرض التي يسودها اليوم سلطان ضريح شريفة، لإفساح المجال لعهدها المجيدِ، مثلما صار التَّقليد أداء متخرجي الكلية العسكرية القسم تحت قبة ضريح، دون حساب للوطن.
أصحاب الأضرحة والأطباء والفلاسفة كلهم أموات، لكنَّ الأخيرين ظلوا أحياءً بكتبهم، أما صاحبة الضَّريح الموهوم فتركت وهماً مركباً.
لا يلام النَّاس على الاغماء العقلي، بعد الحصار والحملة الإيمانية(1993-2003) لحقتها حملات مشوهة ما زالت مستمرة، حتى تم استبدال قَسَم الضريح بقَسَم أبقراط، وغبار أقدام زائري الأضرحة بوصفة الطبيب، إنما تلام القوى التي جعلت القتلة والسُّراق ومروجي الجهل مجاهدين أماجد.
هل مِن الحرية أن يكون طالب الطب جاهلاً، ومَن المسؤول عن جهله؟! ماذا عن أبدان الناس بين يديه، وهو بين أيدي خرافيين يغرف منه الوهم؟! سيقول سادن الضَّريح: «مَن ابن سينا وهاشم الوتري، وزهير وإحسان البحارنة»! فعهدهم مضى، ليبدأ الإغماء تحت قبة شريفة بنت الحَسن، مُبرئة «العلل الجِسام بطبِها»!
نقلاً عن “الاتحاد” الإماراتية